ازداد الحديث عن العشائر السورية منذ بداية الثورة السورية بشكل غير مسبوق، وباتت "الورقة العشائرية" تستخدم في الحشد الإعلامي للأطراف السياسية والعسكرية المختلفة التي تزعم أنها تحظى بدعم وتأييد العشائر، الغريب أن تكون تلك القبائل والعشائر مجتمعة في مؤتمر ينظمه النظام وآخر تنظمه المعارضة وكذلك في مؤتمر تنظمه ميليشيات قسد أيضاً في نفس الوقت، فكيف حدث ذلك؟ وإلى أي حد يمتلك فعلياً، شيخ العشيرة أو من يدعي تمثيلها، السلطة على عشيرته أو أي من أفرادها؟ وهل العشيرة كما يتم تصويرها إعلامياً تشكل بالفعل كتلة موحدة تتخذ مواقفها السياسية بواسطة ممثليها المزعومين؟ لفهم وتوضيح هذه الصورة الضبابية، لا بد لنا أن نستعرض نبذة مختصرة عن العشائر وتركيبتها والعناصر المحددة لمواقفها، خلال فترات مختلفة.
تمتد العشائر على مساحة كبيرة من سوريا من حوران إلى الجزيرة، وتعتبر العشيرة من أهم التشكيلات الاجتماعية التي ما يزال المجتمع السوري محتفظاً بها، والتي لا يمكن تجاهل ثقلها البشري الذي يتم المراهنة عليه في ساعات النزاع والفوضى غالباً.
في منطقة الجزيرة الفراتية التي تضم ثلاث محافظات (دير الزور- الرقة – الحسكة)، تشكل القبائل والعشائر العنصر البشري الأساسي في تكوين المنطقة، ومن النادر أن تجد انتماء لأي مكون ديني أو إثني متجاوزاً التوليفة العشائرية. فدير الزور والرقة تتشكل من العشائر العربية في الريف والمدينة. أما الحسكة التي تشكل فيها العشائر العربية نحو 65 في المئة من إجمالي سكان المحافظة في المدن والأرياف، نجد أن العناصر غير العربية أيضاً تتوزع ضمن تركيبة عشائرية، إذ تشكل العشائر الكردية أكثر من 25% من سكان المحافظة، في حين تشكل العشائر الآشورية والسريانية في الحسكة نحو 5% من السكان في حين لا تتجاوز المجموعات التي فقدت روابطها القبلية أكثر من 5% من إجمالي السكان.
العشائر وثقافة الولاء للأقوى
حتى بداية القرن العشرين احتفظ المجتمع القبلي في مناطق الجزيرة على سبيل المثال، بتركيبته الاجتماعية المتضامنة واستقلاله إلى حد كبير، وكانت القبائل في الجزيرة تتخذ نمطاً بدوياً بالدرجة الأولى، وأنصاف مستقرين في بعض الأحيان، ضمن ثقافة يصفها براون إدوارد بأنها "تتضمن الشجاعة والكرم والضيافة والولاء للقبيلة والثأر"، وحتى بداية القرن العشرين وطيلة الحقبة الفرنسية لم يكن الوعي القومي والوطني بمفهومه الحديث، قد تشكّل في أذهان أبناء القبائل، فلقد كان العربي من أبناء العشائر في الأرياف أو البلدات الناشئة واعياً لكونه عربياً، وخصوصاً عندما كان يقف في مواجهة تركي أو فارسي، لكن وعيهم العربي لم يكن مماثلاً لوعي القوميين العرب اللاحقين، فعروبتهم لم تكن عروبة دينامية، ولا شكلت الأمة مركز استقطاب لمشاعرهم أو ولائهم على حد وصف بطاطو. لذلك يشير (يس مغير) المعاصر لتلك الحقبة: إلى أنَّ الوطنية كانت تندر عند شيوخ العشائر في سوريا، وأنه لولا الحياء من زعماء السياسة الحضريين ورغبتهم في مجاراة التيار العام حيثما اتجه، لما نادى أحدهم بالوطنيّة ولا سار وفق مراميها. فالمصالح المادية على ما يبدو والولاء للقبيلة ومكاسبها هي العامل المحرك لمواقف زعماء العشائر آنذاك، وبالتالي ساهم العديد من شيوخ وزعماء القبائل بقدر
حقبة الثورة العربية والانتداب والتشكل الحديث للدولة شهدت انقساماً في المواقف بين زعماء القبائل والعشائر بين مؤيد ومعارض لكل تلك الأحداث
كبير في تسهيل الجيوش الاحتلال، ليس لأنهم (خونة) وفق إسقاطات العصر الحديث، بقدر ما أنهم اعتادوا بأن يكونوا في صف الأقوى الذي يحقق مصالحهم المادية الآنية، دون مواربة أو إخفاء لهذه المواقف، فهم يسيرون في جميع أطوارهم على خطة ثابتة لا تتغير، وهم لا ينافقون فيها ولا يتكتمون، فهم يقدّرون النصر والغنيمة دائماً.
لا شك بأن حقبة الثورة العربية والانتداب والتشكل الحديث للدولة شهدت انقساماً في المواقف بين زعماء القبائل والعشائر بين مؤيد ومعارض لكل تلك الأحداث، فنجد في مرحلة الاحتلال الفرنسي بأن هناك من الزعماء من كان مرحباً ومؤيداً ومسانداً للقوات الفرنسية والإنكليزية، في الوقت الذي يقف بعض أشقائهم أو أقاربهم الطامحين كذلك للعب دور داخل القبيلة والاستفادة من دعم قوى مناهضة للفرنسيين، وكان أولئك يتلقون غالباً دعماً من "تركيا الكمالية" التي كانت تخوض في نفس المرحلة معركة استقلالها القومي أيضاً. كما أن القوات الإنكليزية تعرضت لمقاومة شرسة من بعض القبائل العربية في مرحلة لعب فيها الوتر الديني مع الطمع أيضاً بالمكاسب دوراً أساسياً في تلك الهجمات، كما كانت تلك المواقف المناهضة غالباً ما تحركها المصالح، أو نتيجة عداء مستحكم وردة فعل على موقف عشيرة أخرى وقفت إلى جانب الإنكليز أو الفرنسيين مثلاً، وقليل منها انطلق من اعتبارات لها علاقة بمفاهيم (الوطنية، القومية، الاستعمار.. الخ). ومن الصعب القول إن العشائر التي قاومت الفرنسيين في شرقي دير الزور، كانوا يعرفون موقع فرنسا ودور ثورتها وأفكارها، ومن ثم دور الاستعمار الفرنسي في استغلال الشعوب واستعبادها، كان يهمهم آنذاك هو الوقوف في وجه بعض الزعماء الذين جندوا عشائرهم للوقوف مع الفرنسيين مقابل بعض الامتيازات، ومعنى ذلك أن الوعي الوطني أو القومي لم يكن معروفاً إلا في أذهان زمرة من المثقفين، نسبياً في بلدة دير الزور. وباستثناء النخبة، حتى بدايات الأربعينات كان هناك غياب لروح التضامن العربي بين الجماهير، وكانت المصلحة المادية هي الدافع الكبير الذي يلتزم به الجميع.
أيضاً هنا يمكن الإشارة إلى أن مسألة التنافس على الزعامة داخل العشيرة الواحدة، أو ضمن أسرة الشيوخ الواحدة، كانت أيضاً إحدى العوامل الأساسية في انقسام المواقف إزاء السلطات الجديدة أو الأحداث السياسية والوقائع المختلفة. لذلك كما ذكرنا كانت أسرة الشيوخ في القبيلة الواحدة تتخذ مواقفاً متباينة من قوى الاحتلال الفرنسية والإنكليزية مدفوعة بذلك التنافس الداخلي.
"الورقة العشائرية" بين المعارضة والنظام وقسد
مرة أخرى، وفي فترة النزاعات والاضطرابات وانعدام الأمن، وتضارب المصالح، تعود "الورقة العشائرية" للظهور مجدداً، وتبدأ الأطراف المختلفة باستخدامها في محاولة لإرسال رسائل سياسية عن قدرة هذا الطرف أو ذاك على دعم الحشد العشائري والقبلي. فالمعارضة السورية تضم ممثلين عن مجلس العشائر السورية، وسبق أن أقامت عدة ملتقيات في المناطق "المحررة" أو داخل تركيا ودول أخرى، ملتقيات باسم العشائر السورية، زعمت من خلال هذه المؤتمرات حشدها للعشائر والقبائل السورية (بشكل خاص عشائر المحافظات الشرقية) لصالح الثورة. النظام بالمقابل دأب بين الفينة والأخرى على الإيعاز لشيوخ العشائر عبر أجهزته الأمنية، لإقامة اجتماعات باسم القبائل والعشائر، ضمن ما يسميه إعلام النظام "خيمة وطن"، حيث يظهر القبائل بموقف الداعم للنظام وجيشه "الباسل". وبات إعلام النظام وعلى غير المعتاد، يخصص مساحات إعلامية لبث تقارير مصورة عن تلك العشائر التي تجتمع في كل مناسبة للهتاف بحياة رأس النظام وجيشه وصموده وممانعته.
أما ميليشيات قسد التي تمثل المجموعات السورية من منظومة حزب العمال الكردستاني في سوريا، والتي نقلت ولاءها خلال السنوات الثلاث الماضية من النظام إلى الداعم الأميركي (دون قطع علاقتها نهائياً مع النظام)، كانت قد بدأت في مرحلة مبكرة باللعب على الوتر العشائري الذي لم تستطع تجاوزه، وأدركت أهمية وقف العمليات العسكرية التي
كل هموم هذه العشائر تنحصر في مسألة اعتقال زعيم العمال الكردستاني عبد الله أوجلان والمطالبة بالإفراج عنه من سجنه في تركيا
استهدفت القرى العربية بين عامي 2013-2016، خاصة مع حاجتها للعنصر البشري الذي يتم تأمينه من خلال التجنيد القسري لأبناء المنطقة "القبلية"، وكذلك تقوم ميليشيات قسد بإقامة المهرجانات والمسيرات والاجتماعات باسم العشائر والقبائل العربية، وتصويرها على أنها تدعم مشروع قسد وممارسات قسد، وأنها جزء من هذا المشروع، وأن كل هموم هذه العشائر تنحصر في مسألة اعتقال زعيم العمال الكردستاني عبد الله أوجلان والمطالبة بالإفراج عنه من سجنه في تركيا.
ويبقى السؤال كيف يمكن لذات العشائر أن تجتمع تحت قبة المعارضة، ثم النظام، ثم قسد في ذات الوقت؟
والإجابة نجدها في الجزء الأول في المقال، وهو وجود عدد كبير من الأشخاص الذين يطلقون على أنفسهم لقب "شيخ"، ويزعمون تمثيل هذه العشيرة أو تلك، وهؤلاء إما أن يكونوا على صلة قربى بشيخ القبيلة الفعلي، أو أنهم في معظم الأحيان لا علاقة لهم بمشيخة القبيلة بمفهومها التاريخي المتراكم، بل يتم اختيارهم من الجهات والسلطات الفاعلة وفق ميولهم واستعدادهم للعب دور الداعم للجهة التي تختارهم بوصفهم "ممثلين" عن القبيلة، بغض النظر عن حقيقة هذا التمثيل.
أخيراً: من المهم التنويه بأنه وعلى الرغم من أن التركيبة العشائرية تشكل إطاراً عاماً لجميع المنضوين تحت مسمى قبلي معين، بغض النظر عن مستواهم التعليمي والثقافي والاجتماعي والمادي، إلا أن هذا لا يعني في وقتنا هذا بأنَّ شيخ العشيرة الذي باتت سلطته رمزيةً، يمتلك أي سلطة أو أدوات تستطيع من خلالها أن تتخذ موقفاً موحداً، تلزم من خلاله أبناء العشيرة به، بل إنها لا تستطيع اليوم أن تلزم أي شخص بأي موقف. وبالرغم من هذا فإنه في عصرنا هذا وفي ظل تطور مفاهيم الحرية والديمقراطية والعدالة والحقوق والمصالح الوطنية، فإنه من غير الممكن أو المقبول تبرير المواقف المتلونة التي يتخذها بعض الأشخاص بصفتهم (رموز، وجهاء، أعيان، شيوخ) في تأييدهم للاستبداد أو قوات الاحتلال الأجنبي أو لقوى انفصالية ارتزاقية تعمل ضدّ مصلحة الشعب، وكل ذلك لأجل مصلحة ضيقة فقط.
العشيرة اليوم، يمكن لها أن تكون فاعلة عندما يشعر سكان منطقة معينة بأنهم مهددون جميعاً هم وأبناءهم ومستقبلهم، وبالتالي يمكن بلورة مواقف موحدة ظاهرها وعاء العشيرة الجامع والعصبية القبلية، لكن دافعها الحقيقي والأساسي هو الشعور بالخوف والحاجة للتعاضد.