إذا قبلنا أنه "لا يوجد فن بريء" بالتالي ليست مهمة النقد إعادة شرح أحداث و حكاية الأفلام أو المسلسلات التلفزيونية و إنما تسليط الأضواء على المساحات الظليلة الخفية والرسائل المشفّرة في الأعمال الفنية، وإظهار عناصرها الجمالية إن وجدت ومساعدة جمهور المشاهدين على قراءة الأعمال وعدم الاكتفاء فقط بالرضا السطحي. النقد الجيد يساعد المشاهدين على زيادة مستوى الاستمتاع بالعمل وبالتالي تحسين ذائقة الناس وهي مهمة أساسية من مهام الفن
الواقع السوري بين الذئب والنمر
مازالت الدراما السوريا سنة بعد سنة تكرر نفسها وتكرر المعزوفة المّملة نفسها من خلال هروبها إلى الماضي إما "العثماني" أو "الفرنسي" وإذا تناولت الحاضر فيتم تناول قصص الفساد وشراسة المفسدين، وضخ رسائل متكررة على أن البلد يأكلها حيتان المال، والعملاء المتوحشون، ليبدو أنهم وحدهم أولاد "العيلة" الحاكمة، تجار الكبتاغون هم الشرفاء الطيبون المدافعون عن قيم الإنسانية والوطنية. وكأن المواضيع التي تهم أدنى مقومات حياة الناس غير موجودة، أزمة الجوع، الفقر، غياب القانون، فقدان المسكن، البلطجة وتسلط الأجهزة الأمنية مع هدر كرامات الناس، تهجير الملايين من السوريين وفقدان بيوتهم، اختفاء الآلاف في المعتقلات، بل وحتى صراعنا مع العدو الأساسي المحتل "إسرائيل" يتم تغييبها تماماً.
في جولة سريعة على مسلسلات هذا العام في الموسم الرمضاني استطاع مسلسل "عاصي الزند، ذئب العاصي" أن يحظى بنسبة مشاهدة عالية لأسباب عديدة منها: شعبية الشخصية الرئيسية في العمل الممثل المجتهد "تيم حسن" بطل مسلسل المخدرات الشهير "الهيبة". مسلسل "الزند" الذي بدأ بداية مبشّرة فنياً ودرامياً تحوّل بعد الحلقة الخامسة إلى مجرد عبء ممجوج من الأحداث البطيئة والخطابات الرنانة الفارغة، وتحولت شخصية عاصي الجذابة والتي من المفترض أن تكون شخصية البطل الشعبي، تحولت إلى أشبه ما يكون بشخصية ضابط الجيش السوري "الشهير بالنمر" العميد سهيل الحسن الهزلية وخطاباته الفلسفية الفارغة كلما ارتكب مجزرة جديدة. لن ندخل في موضوع تحليل دلالات استخدام اللهجات الساحلية والشامية والبدوية ولا في التحليل المجتمعي الطبقي والنفسي لطباع أهالي المدن والقرى في المسلسل، فهذا أمر لا أهمية له في الحقيقة في هذا العمل. كذلك لن نتناول "السرقات الكبيرة" لخطوط هذا العمل الدرامي من المسلسل البريطاني (البيكي بلاينديرز) الموجود على منصة نيتفليكس .
من الواضح أن صنّاع المسلسل تمرسوا جيداً بعد إنتاج "الهيبة" من حيث مهنية التقنية الإنتاجية من تصوير وملابس وأداء ممثلين لكن كل هذا السخاء و"الفخامة" أتت لكي لا تقول أي شيء وحتى عناصر التسلية والتشويق أصبحت ثقيلة.
مسلسل خريف العمر.. ترويج لدعاية النظام السوري
أما "مسلسل "خريف العمر" فمن الواضح من خلال نص السيناريو أنه جاء كرد فعل على مسلسل "كسر عظم" من العام الماضي الذي أظهر بعضا من قصص الفساد في هيكلية السلطة السورية وفي ذلك الوقت لم يرتح له كثيرون من جمهور الموالاة ولا حتى بعض أصوات السلطة حسب تصريحاتهم ومهاجمتهم للمسلسل عبر وسائل إعلام النظام. في "خريف العمر" أبطاله صحفي نزيه، وقاتل متسلسل مازال مجهول الهوية. وضابط شرطة مخلص لعمله، ورجل أعمال وطني يقود المصالحات مع الإرهابيين (لكنه تاجر سلاح سابق) حوارات المسلسل مخجلة لشدة تصنّعها وجمودها وتبدو وكأنها جمل مأخوذة حرفياً من خطابات أو مقالات صحفية تروّج لدعاية النظام ومؤسساته، رغم أن المسلسل تشارك فيه مجموعة مهمة من نجوم الصف الأول من الممثلين والممثلات الجيدين. تطور المسلسل كان بطيئاً وبدا وكأنه في مشكلة يدور في مكانه ولا يستطيع الخروج منها، رغم أن الحبكة البوليسية التي شكلت الإطار الأساسي للمسلسل تفترض أن تعطيه حيوية ومتعة لكنه وقع في مطب التكرار والتكرار.
العربجي و"محاسن الصدف الهندية"
مسلسل العربجي، دراما اجتماعية في إطار (الآكشن) أيام العثمانيين وحاول أن يقدم بطلا محلّيا على نمط "روبن هود" يقدم شخصاً يتمرد على الظلم ويتعرض للعديد من المؤامرات التي كادت تودي بحياته لولا محاسن الصدف على الطريقة الهندية. ورغم سطحية المسلسل لكن خطوطه الدرامية كانت ممسوكة بطريقة جيدة وتطورات الأحداث ضمن سياقها الطبيعي "الصحيح"، أداء معقول لكادر التمثيل وتنفيذ تقني موفق. مسلسل مسلّي، لتمضية الوقت لكنه أيضاً لا يقول أي شيء. الإخراج عادي وكأنه لموظف يقوم بعمله وينتظر العطلة، غياب الشغف وقلة الحلول الإخراجية التي كان من الممكن أن تضفي حيوية أكثر وخفة أكثر على جو المسلسل. أما شخصية "شومان" فقد أضافت خصوصية على المسلسل وتكاد تكون من أهم الأدوار التي أداها الممثل المرحوم (محمد قنوع) والتي كان من الممكن أن تُفتح لها آفاق جديدة في عالم التمثيل .
بالمقابل تمكن مسلسل "زقاق الجن" من تقديم دراما أكثر تعقيداً وشخصيات مركبة أدّاها مجموعة من الممثلين بطريقة جذابة لقصة حدثت في دمشق أيام العثمانيين، في عوالم واقعية من خارجين عن القانون، والعادات التقليدية للأسر الميسورة مع الجد الصارم الذي هو محور العمل والذي يدور في فلكه كل شيء. مسلسل مشوّق مع حكايات السرقة والخيانات والقتل والأسرار المخفية وراء واجهة البيوت الدمشقية المحصّنة. إخراج متقن وحيوي لسيناريو مرسوم بوضوح وحوارات طبيعية لها مصداقية .
"السفر برلك"
تم تصويره في مدينة الإنتاج الإعلامي في مصر، مسلسل من أضخم الإنتاجات عن المرحلة العثمانية، إنتاج شبكة MBC لسيناريو مشغول بجهد واضح لتقديم وجهة نظر محددة بغض النظر عن مصداقيتها أو لا، سينوغرافيا وبيئة منفذة بطريقة عالية الجودة، عدد كبير من الممثلين. تحضيرات جيدة لإنجاز هذا العمل، لا يمكن اعتبار هذا العمل سوريا حتى لو كان المخرج وبعض الممثلين سوريين. فكان وجودهم وكأنه تكملة عدد أو تحصيل حاصل. إن الانشغال بكثير من تفاصيل الحكاية في هذا العمل جعل منه في كثير من الأحيان يقع في مطب البطء والثقل في الإيقاع مما أدى إلى الملل. باختصار إنتاج ضخم لمسلسل عادي مع بعض التسلية.
أما مسلسل "حارة القبة" فما زال في موسمه الثالث يقدم دراما "شامية" تاريخية وبعيدة عن "بوجقة" مواسم مسلسل باب الحارة. وحكايات المسلسل مسليّة وواقعية مربوطة بإتقان مع أداء تمثيلي جيد لنخبة من الممثلين السوريين، ولا أدري كم هو مقنع وحكيم قرار الشركة المنتجة في تقديم خمسة أجزاء من هذا المسلسل .
في النهاية لا بد من الإشارة إلى مسلسلين تناولا مواضيع الحاضر وتخص السوريين .
مسلسل "النار بالنار" إنتاج شركة الصبّاح اللبنانية، القوية والمقرّبة من محور "الممانعة"، المسلسل لكاتب سيناريو ولمخرج معروف عنهما كثرة "الاستعارات" الأدبية والفنية. تناول المسلسل موضوع الوجود السوري في لبنان ما بعد 2011 من خلال معايشة بعض التناقضات والصراعات المجتمعية. وبعيداً عن صراع الاتهامات المتبادلة ما بين المخرج وكاتب النص حول تغير مضمون السيناريو، نلاحظ تمايز هذا العمل بصرياً وكان واضح المرجعية السينمائية من خلال لغة التصوير وحركة الكاميرا الحيوية وتقديم الممثلين بطريقة طبيعية صادقة، إن عامل التشويق وإيقاع المسلسل يكاد يكون من أفضل مسلسلات هذا العام فنياً، لقد كان حضور المخرج واضحا في كل تفاصيل العمل مع الإشارة إلى الهروب الواضح من المصداقية في ذكر أسباب الوجود السوري في لبنان ومأساته وتبني الشماعة الرسمية لرواية النظام حول "الإرهاب و الإرهابيين."
العامل المشترك في المسلسلات السابقة المذكورة خضوعها لشروط الرقيب الأمني. كنص وكممثلين وكفريق إنتاج. وبالتالي محدودة هي مساحات التفكير والتعبير. ونجد دائما محدودية في مقاربة الواقع. عندها يصبح هدف هذه الأعمال "الفنية" تأمين لقمة العيش لفريق العمل وتسلية الجمهور والربح لشركات الإنتاج. وحده مسلسل "ابتسم أيها الجنرال" كسر قواعد هذه اللعبة، واستطاع أن يكون مشروعا رياديا يقفز بجرأة ليقدم مفهوم الفن النظيف، البعيد عن دوائر الرقابة الأمنية وأجندات السلطة وجاءت شعبيته لتدل على أن هناك شريحة واسعة من الناس تحب وتطمح لمشاهدة أعمال تتناول همومها وقضاياها، بالرغم من كل مشكلاته الفنية والدرامية.