بعيداً عن الجزء الـ13 من "باب الحارة" الذي يمكن تناوله كمثال حي على رداءة أعمال البيئة الشامية، أو الجزء الثالث من "حارة القبة" الذي يُنظر إليه على أنه الأفضل بين أعمال هذه البيئة مقارنة بأعمال العام الجاري. عرض في الموسم الرمضاني الأخير ثلاثة أعمال جديدة تنتمي لهذا النوع الدرامي، كانت على التوالي: "العربجي" للمخرج سيف الدين سبيعي عن سيناريو مشترك للكاتبين عثمان جحا ومؤيد النابلسي، و"مربى العز" للمخرجة رشا شربتجي عن سيناريو علي معين الصالح، وهو ثاني عمل يجمعهما معاً بعد تجربتهما في "كسر عضم"، وأخيراً "زقاق الجن" للمخرج تامر إسحاق عن سيناريو محمد العاص.
الأعمال الثلاثة المنتمية إلى فانتازيا البيئة الشامية التي انطلقت لأول مرة مع "شيخ الكار" الراحل بسام الملا (1956 – 2022) في "أيام شامية" قبل 31 عاماً، لم تقدم أي جديد على مختلف الأصعدة، بما يشمل السيناريو والحوار والحبكة السردية، إضافة للأداء التمثيلي الذي يتطلب لمثل هذه الأدوار جسداً قوياً وصوتاً خشناً. فهي على العكس تُعيد تقديم قصص مستوحاة من أعمال مشابهة من طراز "أهل الراية" و"زمن البرغوث" و"الدبور"، بالإضافة إلى مجموعة من الأعمال المماثلة التي أفرزها الإنتاج الدرامي السوري منذ نحو 15 عاماً.
"مربى العز"... قصة متوازنة لكنها عادية
إذا كانت أم صفوان (أمانة والي) العقل المدبر للمصائب التي حلّت على عائلة أبو وضاح في "زمن البرغوث"، فإن جواهر المكتوي (سوزان نجم الدين) تنافسها في هذا الشأن في "مربى العز"، بصفتها المحرك الرئيسي للمصائب، وهو من الأدوار النادرة لنجم الدين التي يشيد بها الجمهور. إذ يشق صالح وشربتجي طريقهما في قصة المسلسل من حادثة التشهير (تجريس) والد عائلة المكتوي بعد محاولته الاعتداء على خادمة منزلهم، قصة تكون سبباً لتحويل حياة زعماء الحارات الثلاث (الورد، المشرقية، والعسلية) إلى مأساة لا يمكن نسيانها باختطاف أبنائهم.
صحيح أن المسلسل يعتمد على كثير من العناصر التي ظهرت في أعمال شامية سابقة، لكن ميزته أنه يعيد سردها بطريقة مختلفة، مع استمرار جواهر في حياكة خطط القتل والخطف والانتقام بالاعتماد على شقيقيها أبو زهير (على صطوف) وغالب (إبراهيم الشيخ)، على الرغم من معارضتهما في بعض الأحيان، أو الظهور السريع لمنّاع لحماية شقيقه الأكبر علاء من القتل ثأراً على يد البدو، في حادثة كانت من تدبير جواهر، والذي مثّل ذروة تصاعد الأحداث، فمنّاع في النهاية هو البطل الشعبي الخارق الذي اختارته الحياة لإنقاذ الحارات الثلاث من مكائد جواهر التي تودي بها إلى نهاية مشابهة لنهاية أم صفوان.
وعلى عكس العملين الآخرين، تغيْب عن هذا العمل "جرائم الشرف" و"غسل العار" أو العنف المنظّم تجاه الشخصيات النسائية، وهذا الأمر يُحسب لشربتجي وصالح. وفي مقابل ذلك، يتم التركّيز على التحولات التي ترافق حياة منّاع/معتصم (محمود نصر) ليتحول إلى بطل شعبي، في صورة مشابهة للأبطال الخارقين. هو ابن أبو علاء (أسامة الروماني) أحد الزعماء الذين انتقمت جواهر منهم بخطف ابنه، يجتمع مع فارس/محمد (حسن خليل)، وزين/داغر (جبريل الحسام) اللذين خطفا أيضاً، ما يؤدي بهم إلى تكوين عقد أخوة يصعُب إنهاؤه، خاصة أنهم نشؤوا معاً بعد هروبهم من خاطفهم جمول (خالد القيش) الذي يقدم دوراً مميزاً رغم مساحة الشخصية الصغيرة.
وفي هذا المسلسل تقدم أمل عرفة التي لعبت دور ملكة، واحداً من الأدوار الرائعة خلال مسيرتها المهنية، فهي سواء في رسم خططها لحصولها على مكانة مرموقة بين الحارات الثلاث، أو في تعاونها مع الشيخ مالك (عباس النوري) لإعادة الحقوق لأصحابها كانت كوميدية، ومن الجيد أن شربتجي وصالح ابتعدا عن تطوير العلاقة بين ملكة والشيخ مالك إلى علاقة عاطفية. فقد وازن "مربى العز" في الطرح الذي قدمه بين شخصيات المسلسل ذكوراً وإناثاً بتوزيع أدوار الخير والشر بينهما، ملخصاً قصته التي كان لها نصيب من الإطالة مثل باقي القصص بأنه لا صوت يعلو فوق صوت الحق.
"العربجي"... نسخة كلاسيكية عن تحويل البطل الشعبي إلى أسطورة
بنى مسلسل "العربجي" – هو الآخر – قصته على تحويل عبدو العربجي (باسم ياخور) إلى بطل شعبي خارق، في نسخ مشابهة لمجمل أعمال البيئة الشامية، مع اختلاف بطريقة الطرح الدرامي للقصة، حيث كانت الديباجة التراجيدية التي تصنع من عبدو ومأساته بطلاً خارقاً حاضرة بقوة. ويفسر ذلك بيان إخلاء المسؤولية الذي يظهر في بداية كل حلقة مؤكداً أن الحكاية "من وحي الخيال" قبل أن يستدرك بالإشارة إلى أنها "قد تحدث في أي زمان ومكان"، في محاولة لتجنب صنّاع المسلسل الوقوع في مطب النسخ من الأعمال الأخرى، فالشخصية تعيش درجات القهر والظلم حتى أقصاها.
يمكننا تلخيص السيرة الذاتية لعبدو بأنه زوج لزوجتين قتلتا للانتقام منه عن طريق الخطأ، فزوجته الأولى قُتلت في أثناء محاولة خطفها تمهيداً لإخضاع أبو حمزة (سلوم حداد) له، والثانية قتلت لأن حمزة (ميلاد يوسف) أراد خطف ابنتها بعد زواج أبو حمزة منها. في سيرته أيضاً ابنة مقتولة حرقاً لأنها أرادت الحفاظ على بكارتها بعد اتهامها زوراً من قبل بدور الداية (ديمة قندلفت)، وحكم عليه بالجلد على مرأى من أهل الحي على الرغم من براءته، إضافة إلى إنقاذه قبل لحظات معدودة من حبل المشنقة بفرمان من الوالي، وفي النهاية لديه "قصة حب غير معلن" مع بدور التي كانت جزءاً من مأساته.
مفاصل الشر الأساسية لهذا العمل كلاسيكية بامتياز، فهي تتمثل بصراع على زعامة تجارة القمح وعباءة النشواتية بين أبو حمزة ودرية خانم (نادين خوري)، وكلاهما يمثلان الشر المطلق لعبدو، صوت الحق الذي لا يقهر. يحاول سبيعي تقديم نسخة جديدة من أعمال البيئة الشامية في "العربجي" من خلال إدخال الملابس الملونة للنساء، أو حتى في الديكورات، لكن ذلك لم يمنعه من السقوط في نمطية هذه الأعمال، وخلق التبريرات الدائمة لأفعال عبدو الانتقامية مع مزيج جديد من الأزياء والديكورات التي أثقلت المسلسل أكثر من تقديمه دراما شامية جديدة في قدم قصة عادية جداً.
ولعل الميزة الوحيدة التي تحسب لهذا العمل تتمثل بنهايته المفتوحة، والتي ترك فيها مجالاً للعودة في الموسم الرمضاني القادم، صحيح أن عبدو انتقم في النهاية من أبو حمزة بقتل حمزة، لكنه لم يسجل انتصار الخير بكامل صورته على أبو حمزة ودرية خانم، بل ترك الصراع مفتوحاً بتحوله إلى بطل شعبي أو روبن هود جديد لا هدف في حياته إلا نصرة الضعفاء والمساكين. بالإضافة إلى أن القصة تركت مجالاً لسرد تطور العلاقة العاطفية بين عبدو وبدور، فقد حظيت هذه النهاية بإشادة من الجمهور على منصات التواصل الاجتماعي.
"زقاق الجن".. أعمال البيئة الشامية في خبر "كان"
يؤسس مسلسل "زقاق الجن" قصته على لسان مجتمع ذكوري يحاول تأكيد أصالته في أي مجتمع محلي، على الرغم من وجود شخصية شيماء (أمل عرفة)، المرأة الوحيدة التي كان لها القدرة على الوقوف في وجه أبو نذير (أيمن زيدان). ومع ذلك، فإن شخصية شيماء (طليقة أبو نذير) لم تستطع إنقاذ مركب المسلسل من الغرق. يطلق أبو نذير الأحكام كيفما شاء، هو كبير العائلة المستبد الذي لا هدف من حياته إلا إصدار أحكام القتل والضرب والتنكيل بنساء عائلته (بناته، حفيداته، وزوجات أحفاده) بذريعة "غسل العار"، كلمة تردد صداها لأكثر من مرة في هذا المسلسل، جنباً إلى جنب مع جملة "روح سنود خاصرة مرتك" التي يكررها في حديثه مع ابنه نذير (الراحل شادي زيدان) في كل حلقة.
كما أنه من غير المفهوم سبب تحويل حياة أبو عفيف (باسل حيدر) إلى درجة لا تطاق من العنف، وصلت فصولها إلى محاولة إخضاعه بالاعتداء على زوجته أمام عينيه، يواجه أبو عفيف مصيراً مأساوياً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى لسبب تافه جداً. فإذا كان الظهور غير المبرر لشادي الصفدي في "النار بالنار" في مشهدين فقط لقتل زوجته مريم بعدما علِم بعلاقتها مع عزيز، فإن إقحام زوجة أبو عفيف (هلا يماني) ليس له أي سبب، ظهرت اليماني في مشهدين فقط، الأول حين اعتقلها الدرك، والثاني عندما قتلت نفسها لتنجو من الاعتداء عليها أمام أعين زوجها.
يقول المثل العامي "القتل عندو متل شربة المي"، وهذا المثل ينطبق على الأحكام التي تصدر بحق الشخصيات النسائية في المسلسل، إذ إن عددا قليلا من طاقم التمثيل النسائي نجا من نص درامي بنى حبكته على ثلاثية العنف الجسدي-النفسي-اللفظي تجاههنّ، محركها المباشر أبو نذير مع حفيديه تيسير (رامي أحمر) ومأمون (علاء زهر الدين)، ومن بعدهم طبعاً ثريا (صفاء سلطان)، يمكن لسلطان هنا المنافسة على جائزة أسوأ أداء درامي للموسم الرمضاني في حال وجدت. كما أرى أنه يمكن للجمهور أن يتجاوز حلقات كاملة لـ"زقاق الجن" المكوّن من 30 حلقة، لأنه لن يضيع تفاصيل ما حدث بسبب الإطالة التي لا فائدة منها، ومنح بعض الشخصيات مساحة أكبر من حجمها.
وفي النهاية..
حتى يومنا الحاضر ما تزال جميع أعمال الفانتازيا الشامية تدور في قصتها حول الأعمال الثلاثة الأولى لمؤسسها "شيخ الكار" بسام الملا (1956 – 2022) التي بدأت في مسلسل "أيام شامية"، متبوعاً بمسلسي "الخوالي" و"ليالي الصالحية". في أول مسلسلين قدم قصة تدور في السنوات الأخيرة للدولة العلية في الشام، بينما أسس في الثانية لصراعات مختلفة يمكن أن تقوم عليها هذه الفانتازيا بخلق شخصتين متناقضتين بالأفعال، هذا دون أن ننسى إدخال مرحلة الاستعمار الفرنسي إلى صلب قصصه في "باب الحارة"، وأعتقد أنه إلى يومنا هذا لم يظهر مسلسل بيئة شامية يمكنه تجاوز أو التفوق على أول ثلاثة مسلسلات للملا.