ألقت سنوات الحرب الطويلة في سوريا بظلالها على كافة فئات المجتمع التي عايشت القصف والتهجير وتأثرت بالأزمات الاقتصادية والمعيشية، إلا أن فئة الشباب دفعت الفاتورة الأكبر بدءاً من أعداد القتلى والمعتقلين وتحمل الأعباء الحياتية والمعيشية، وصولاً إلى ضياع حاضرهم وضبابية مستقبلهم.
ومن بين تبعات الحرب التي تحملها الشاب السوري، تخليه عن أحد أسمى أهداف الإنسان المتمثل بالزواج وتكوين أسرة، لأسباب كثيرة ليس غياب الاستقرار أولها، ولا الصعوبات الاقتصادية والضائقة المعيشية آخرها.
لا يختلف حال الشباب السوري كثيراً، سواء كانوا داخل البلاد بمختلف مناطق النفوذ أو خارجها في جميع دول اللجوء، فهناك قاسم مشترك بينهم هو صعوبة الزواج وتعثر اللقاء بشريك العمر، وهو ما بات مصدر قلق وحيرة لهم، وحلما مؤجلا لكثير منهم.
ولكل منطقة أو دول ظروفها التي تحول دون إقدام الشاب على الزواج، فعلى سبيل المثال في الشمال السوري يشكل الوضع الأمني والاقتصادي الهاجس الأكبر أمام الشباب، أما في مناطق سيطرة النظام فإن أولى أوليات الشاب هي السفر إلى خارج البلاد هرباً من الاعتقال والتجنيد الإلزامي، وبحثاً عن مصدر رزق يعيل به عائلته.
أما في دول اللجوء، فإن غياب الاستقرار النفسي والمكاني والاقتصادي يعتبر كابوساً للسوريين في تركيا، في حين أن تغير المنظومة الثقافية والاجتماعية والفجوة بين هوية السوري وقوانين الدول الغربية، تُعقّد أمر الزواج في أوروبا، يضاف إليها فرض الأسر السورية مهوراً كبيرة يصعب على الشاب تأمينها.
في المقابل، هناك واقع مغاير في مخيمات اللجوء في الدول المجاورة (الأردن ولبنان)، ومخيمات النازحين على الشريط الحدودي مع تركيا، حيث تنتشر ظاهرة الزواج المبكر بشكل عشوائي وغير مضبوط، والتي غالباً ما يكون سببها الظروف الاقتصادية ورغبة الأهل في التخلص من أعباء فرد من أفراد الأسرة، والحديث هنا عن الفتيات تحديداً.
وبتلخيص بسيط لأسباب عزوف الشباب عن الزواج، نجد أن هناك عوامل عديدة تلاحق السوريين في كل مكان، من أبرزها الواقع الاقتصادي وارتفاع المهور، وغياب الاستقرار، والخوف من المستقبل، إضافة إلى تشتت الأسر بسبب التهجير واللجوء.
غلاء المهور حجر عثرة على طريق الحياة الزوجية
ترفض نسبة كبيرة من العائلات السورية الإقرار بالواقع الاقتصادي المتدهور في البلاد وارتفاع معدلات الفقر والبطالة إلى مستويات غير مسبوقة، حين يتعلق الأمر بتقدم شاب لخطوبة إحدى بناتها، وسرعان ما تبدأ الشروط الصعبة والمتطلبات التعجيزية من مهر مرتفع وكمية معينة من الذهب، بالإضافة إلى المسكن الحديث المستقل وغير ذلك من الأمور التي قد تكون الأسرة ذاتها عاجزة عن تأمينها.
يقول الشاب بلال اليوسف إنه تهجر من الغوطة الشرقية عام 2018 واستقر به الحال في إحدى البلدات التابعة لمدينة سرمدا شمالي إدلب، ولأنه خرج وحيداً من ريف دمشق، بدأ بعد فترة بالبحث عن شريكة يسكن إليها وتعينه على مواجهة ظروف الحياة الصعبة.
وأضاف اليوسف في حديث لموقع تلفزيون سوريا أن جهوده باءت بالفشل حتى الآن، كونه اصطدم في كل مرة بمهر يفوق قدرته بشكل كبير، قائلاً: "غالبية العوائل التي طرقت بابها طالبت بـ 4000 أو 5000 دولار كمهر لابنتها، كيف لي أن أؤمن هذا المبلغ وأنا أتقاضى أجراً أسبوعياً قدره 35 دولاراً".
وبالنسبة للمقيمين في أوروبا، فإن المهور تتراوح بين 10 آلاف و20 ألف يورو، يضاف إليها في بعض الأحيان اشتراط ذوي الشابة حصولهم على التعويض الذي تأخذه من الحكومة بعد الزواج، متذرعين بدفع مبالغ مالية كبيرة حتى وصلوا إلى دول الاتحاد الأوروبي، كما أنهم يستغلون قلة نسبة الشابات السوريات مقارنة بعدد الشباب، وصعوبة إجراءات لم الشمل في حال قرر الشاب الزواج من فتاة في سوريا أو تركيا.
عدم الاستقرار عائق آخر
يمثل هذا الأمر معضلة بالنسبة للشاب والفتاة على حد سواء، حيث يعزف بعض الشاب عن الزواج لفقدانهم الشعور بالاستقرار النفسي والأمني، كما أن بعض العائلات ترفض تزويج بناتها إلى الشباب المقيمين في المناطق الساخنة وتأمل في الحصول على فرصة لتزويجها إلى الخارج وهو ما بات يعرف محلياً بـ"زواج لم الشمل".
وكمثال على ذلك، قصة الشاب محمد حسن المنحدر من مدينة حمص والذي أعجب في عام 2010 بزميلة له في الكلية تنحدر من محافظة درعا، وبعد اندلاع الثورة في العام التالي التزم كل منهما منزله وتوقفا عن الدراسة بسبب الظروف الأمنية.
قال حسن في حديثه لموقع تلفزيون سوريا إنه بعد فترة انقطعت الاتصالات بين الجانبين بسبب الحصار الذي تعرضت له حمص، وتمكن بعد خروجه من المدينة إلى إدلب من العثور على زميلته التي كانت تبادله مشاعر الإعجاب، من خلال البحث عنها على مواقع التواصل الاجتماعي.
وبعد عودة الوصال بين الجانبين، تم الاتفاق على تكليل علاقتهما بالزواج، وأن يرسل عائلته إلى درعا للتقدم لخطوبتها، إلا أن ما حدث خيب آمال الشابين حيث رفضت عائلة الفتاة تزويجها لشخص يقيم في إدلب بسبب الوضع الأمني غير المستقر وعمليات القصف والتهديد بالاجتياح من قبل قوات النظام السوري وروسيا.
آثار نفسية واجتماعية واقتصادية
قدرت "وزارة الشؤون الاجتماعية" في حكومة النظام السوري نسبة العنوسة في سوريا عام 2022 بنحو 70%، وأكدت وجود قرابة 3 ملايين فتاة سوريّة عازبة تجاوزن سنّ الثلاثين عاماً، وسط توقعات بارتفاع هذه النسبة مستقبلاً.
وتشكل هذه الظاهرة مجموعة من الآثار السلبية على الجوانب النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وتنعكس على المجتمع ككل حيث لا تنحصر تداعياتها بالشخص العازف عن الزواج، كون الأسرة هي الجزء الأهم في تكوين المجتمع وبنائه.
ويقول الدكتور المختص بعلم الاجتماع حسن جبران إن عزوف الشباب عن الزواج يقود إلى الانحلال الأخلاقي، ويدفع البعض إلى إشباع رغباته خارج إطار العلاقة الزوجية الشرعية، وبالتالي إلغاء القيم وحدوث التفكك والفساد الأخلاقي والذي يقود في النهاية إلى تدمير العلاقات الاجتماعية وانهيار المجتمع على المدى البعيد.
كما يؤكد جبران في حديث مع موقع تلفزيون سوريا أن تأخر الزواج يؤدي إلى إقلال أعداد السكان المواليد، وتراجع الشريحة الاجتماعية الفتية التي يتم الاعتماد عليها في الإنتاج والنمو الاقتصادي.
من جانبها، تشير الكاتبة والناشطة الاجتماعية وضحى العثمان إلى التبعات النفسية "القاسية جداً" على تأخّر الزواج، كون الحالة الطبيعية للبشر تجعل الشاب والفتاة يحلمان عندما يصلان إلى سنّ معين في بناء الأسرة، كونها تعتبر أساس الاستقرار النفسي.
وأوضحت العثمان في حديث مع موقع تلفزيون سوريا أن ذلك يؤدي إلى حدوث حالة عدم رغبة في الإنجاز والعمل، بسبب غياب الهدف الذي يعمل الشاب من أجله (الأسرة الأولاد)، إضافة إلى غياب السكينة والاستقرار النفسي.
كما أن عدم قدرة الشاب والفتاة على إيجاد شريك الحياة، يولد لديهم شعوراً بأنهم غير مرغوبين ويترك أثراً سلبياً خاصة في نفوسهم، وفقاً لمحدثتنا.
كذلك أشارت العثمان إلى وجود حالات مخيفة تؤدي إلى تفكك منظومة الأسرة التي تعتبر اللبنة الأهم لبناء المجتمع، من ضمنها غلاء المهور والظروف الاقتصادية الصعبة، والتي أدت إلى لجوء البعض إلى وسائل أخرى كظاهرة المساكنة الدخيلة على المجتمع السوري وتتنافى مع القيم الدينية والأخلاقية.
أزمة معدل النمو السكاني
بحسب تقرير الهيئة السورية لشؤون الأسرة عن حالة السكان في سوريا 2020، انخفض معدل النمو السكاني من 2.4% إلى 0.04% خلال الفترة (2010-2014) علماً أن بعض التقارير الدولية أشارت إلى أن معدل النمو كان سلبياً حيث حدد البنك الدولي معدل النمو السكاني في سوريا بـ 2.3 عام 2010 ثم أخذ بالانخفاض إلى ناقص 6.9 عام 2014 ليرتفع بعدها ويل بعد العام 2019 إلى معدل ما قبل الحرب.
وفي شمال غربي سوريا يقدم فريق "منسقو استجابة سوريا" الإحصائيات الأدق عن التعداد السكاني، وحدد معدل النمو في المنطقة بـ 3%، وهذه الزيادة بحاجة لدراسة معمقة لفهم أسبابها والعوامل الاجتماعية والاقتصادية المؤثرة.
خطوات لحل هذه المشكلة
يرى الدكتور حسن جبران أن الحلول تكمن في تغيير الخريطة الذهنية للعقل الجمعي المحكوم بالقيم المادية لا الأخلاقية، واستبدال ذلك بقيم وأخلاق ومعايير يتم الالتزام بها، والتخلي عن النزعة المادية والاستهلاكية التي تفرض متطلبات كثيرة على الشباب.
يضاف إلى ذلك ضرورة تعديل سلوك المجتمع من خلال التعزيز الذي يقوم على دعم الشباب وتشجيعهم على الزواج وتقديم كل التسهيلات لهم، والإرساء الذي يقوم على العقوبات والضوابط التي تمنع السلوكيات المنحرفة وتحد من ظاهرة الاختلاط وإقامة علاقات غير شرعية وسن قوانين زاجرة وضابطة للسلوك الشاذ.
ويشدد جبران على ضرورة أن تقوم الجهات المعنية برسم سياسات سكانية تشجّع على الزواج وتوفر مستلزمات العلاقة الزوجية الشرعية من سكن وأمان اقتصادي واجتماعي.
من جانبها، تعتقد العثمان أن الحلول تكمن بقيام مؤسسات المجتمع المدني والشخصيات المؤثرة بمساعدة الشباب على البدء بحياتهم من جديد، من خلال إقامة المشاريع الاقتصادية التي تعينهم على الحياة، وتعريف المجتمع ككل بأهمية الأسرة.
ومن ضمن خطوات حل المشكلة، التركيز على أخلاقيات الشخص التي تبقى ثابتة بدلاً من الماديات المتغيرة، وتسهيل المهور من قبل الأهالي، وتقدير ظروف الشباب والابتعاد عن المتطلبات غير المعقولة التي لا تتناسب مع الواقع الحالي، حيث تؤكد العثمان وجود كثير من الحالات طلب بها الأهل مهراً كبيراً لابنتهم، في وقت عجزوا أنفسهم عن تقديمه لابنهم.
في ظل هذا الواقع القاسي، تتجلى الحاجة الملحة لإعادة التفكير في المسؤوليات الحكومية والاجتماعية ضمن استجابة متعددة الأبعاد، لمساعدة الشباب السوري الذين تحملوا عبء الحرب وتداعياتها الساحقة، بحلول مستدامة تبدأ من تحسين الظروف الاقتصادية، وتغيير النظرة الثقافية للزواج بما يتناسب مع الواقع الجديد، ولا بد أن تضع سياسات التمويل الإغاثي والإنساني معضلة الزواج في الاعتبار، ويتبع حل هذه المشكلة تلقائياً حلول لمشكلات أكبر وأصغر وتضع الأساس الاجتماعي لإعادة بناء سوريا.