عقب مجزرة خان شيخون الكيماوية التي ارتكبها النظام السوريّ في شهر آذار من عام 2017؛ أطلق الناطق باسم البيت الأبيض (شون سبايسر) تصريحه الشهير عن بشّار الأسد بأنّه "أسوأ من هتلر" إذ قارن الناطق باسم البيت الأبيض بين الأسد والزعيم النازيّ حين قال: "إنّ هتلر وهو أكثر البشر شرًّا لم يستخدم الأسلحة الكيماوية، لكنّ الأسد فعلها".
وقد أثار تصريحه ذاك قبل خمس سنوات تقريبًا غضب كثيرين، وبدا كما لو أنّه ارتكب خطأً لا يُغتفر؛ لأنّه بتصريحه ذاك تجرّأ على إحدى أهمّ المحرّمات في العالم اليوم، فليس هناك في الرأي العام العالميّ من هو أسوأ من هتلر منذ الحرب العالميّة الثانية، وقد بذلت اللوبيّات اليهودية جهودًا جبّارة لتكريس هذه الفكرة؛ خصوصًا ما يتعلّق منها بموضوع المحرقة اليهوديّة (الهولوكوست) التي ما تزال الدولة الألمانية حتّى اليوم تدفع تعويضات لإسرائيل عن ضحايا المحرقة، وقد بلغ عدد اليهود الذين قضوا حرقًا في معسكرات الإبادة التي أقامها هتلر لهم ـ بحسب ما يقوله اليهود أنفسهم ـ ستة ملايين يهودي.
يومًا بعد يوم تظهر شهاداتٌ جديدة لأشخاصٍ قُيّضت لهم النجاة من جحيم السجون الأسديّة؛ وخرجوا ليدلوا بشهاداتهم عمّا يحصل داخل سجون الأسد
وعلى الرغم من أنّ مساعد وزير الخارجيّة الأميركي لشؤون الشرق الأوسط (ستيورت جونز) قد كشف قبل سنوات عن إقامة الأسد لفرنٍ يحرق فيه جثث قتلى سجن صيدنايا بغية التخلّص من الأدلّة على جرائمه تلك؛ كما أوضح جونز في مؤتمرٍ صحفيّ له عام 2017 وأضاف أنّ نظام الأسد مارس الاغتصاب والصّعق الكهربائي على المعتقلين السوريين، وقد نشرت الخارجيّة الأميركية صورة ملتقطة بالأقمار الصناعية تظهر موقع الأفران التي يحرق الأسد فيها جثث المعتقلين في سجن صيدنايا.
يدرك العالم كلّه في قرارة نفسه أنّ إجرام الأسد قد فاق كلّ إجرام، ويومًا بعد يوم تظهر شهاداتٌ جديدة لأشخاصٍ قُيّضت لهم النجاة من جحيم السجون الأسديّة؛ وخرجوا ليدلوا بشهاداتهم عمّا يحصل داخل سجون الأسد، شهاداتٌ تفيض بصنوفٍ من الإجرام مارسها جلّادو الأسد على المعتقلين والتي فاقت قدرة البشر على التصوّر والإدراك، ولعلّ الصوّر التي سرّبها الضابط السوريّ المنشقّ عن النظام (قيصر) لجثث المعتقلين هي أكبر دليلٍ على صدق تلك الشهادات التي أدلى بها أصحابها، فقد أظهرت تلك الصور آثار تعذيب فظيعٍ لا يستطيع البشر أن يحتمل النظر إليها، فما بالك بمن عاش عذابات الاعتقال، وتعرّض لصنوف التنكيل والتعذيب، ثمّ نجا بأعجوبةٍ ما وخرج ليتحدّث عمّا عاشه ورآه وسمعه هو وآلاف المعتقلين في سجون النظام الوحشيّ.
إنّ المحرقة اليهوديّة على فظاعتها ليست الوحيدة من نوعها، ولا تتفوّق في مأساويتها على غيرها؛ لكن السياسة جعلت منها (تابوهاً محرّماً) وصلت إلى حدّ سنّت فيه كثيرٌ من الدول الغربية قوانينَ تجرّم من ينكرها أو يشكّك في وقوعها، أو حتّى يقارن أي مأساة إنسانيّة فظيعة أخرى بها، والسؤال الذي قد يخطر في بال أيّ منا: ما الذي يجعل الهولوكوست اليهودي أكبر مذبحة جماعيّة في العالم، في حين أنّنا نجد في التاريخ مذابح كثيرة تفوقها عددًا؛ فأميركا وحدها أبادت ما يقارب 10 ملايين من الهنود الحمر بحسب إحدى الدراسات، كما أنّ عدد من قتلتهم أميركا من سكّان أفريقيا أثناء أسرهم كعبيد ونقلهم إلى أميركا قد يزيد على 40 مليون إنسان، يمكننا أن نضيف مآسي أخرى كمأساة التهجير الأرمني ثمّ الفلسطينيّ، وكذلك مجزرة (سربرنيتشا) في البوسنة والهرسك على يد الميليشيات الصربية، والمذابح المهولة بين قبيلتيّ (التوتسي) و(الهوتو) في رواندا ومجازر دارفور غرب السودان، وأخيرًا المأساة السوريّة المستمرّة منذ أكثر من عشر سنواتٍ.
على الرغم من أنّ عددًا من مؤرّخي العصر الحديث يرى أنّ الهولوكوست هو إحدى الأساطير المروّجة لتأسيس الدولة الإسرائيليّة؛ إذ يدعوها المؤرّخ الفرنسيّ (روجيه غارودي) كذلك في كتابه الأساطير المؤسّسة للسياسة الإسرائيليّة، بل يصل إلى حدّ اعتبارها أكذوبة سينمائيّة بحتة، استغلّتها السينما العالميّة والأميركيّة؛ خصوصًا للإقناع المستمرّ بأيديولوجيّة الدولة الإسرائيليّة وتبرير أسباب قيامها عن طريق الابتزاز العاطفيّ باستخدام الدراما منذ حدوث الهولوكوست وحتّى يومنا هذا.
لقد استطاعت سينما الهولوكوست من خلال عدد من الأفلام السينمائيّة والوثائقيّة التي تتبنّى وجهات نظر معيّنة تصبّ في صالح تحقيق الحلم اليهوديّ، وتبرير حاجتهم إلى وطنٍ قوميّ لهم؛ من خلال الترويج للهولوكوست بأنّها أكبر مذبحة جماعية في العالم كما ذكرنا، إضافةً إلى توجّه السينما الجديد في أفلام الحروب الذي بدأ يولي المزيد من الاهتمام للبعد الوجوديّ والإنسانيّ للحروب، وهذا ما فعلته سينما الهولوكوست إذ أصبحت تركّز في وقتٍ لاحق على القصص الفرديّة والشخصيّة التي تلعب على وتر التعاطف الإنساني مع مأساة فرديّة وشخصية بعيدًا عن الأحداث السياسية البحتة كما في فيلم (عازف البيانو)، بينما تعرّض فيلم (قائمة شلندر) إلى الانتقاد من قبل أكاديميين يهود؛ إذ يرى (سيمون لوفيش) أن هذا الفيلم حشد مخرجه آلاف الكومبارس وكثيراً من الصور النمطية التي أصبحت شديدة الألفة لمعسكرات الاعتقال النازية ونزلائها حتّى فقدت قدرتها على تحقيق الصدمة، ليواجه المتلقّي ظاهرة كلاسيكية تتمثّل بما يُسمّى: (الضعف العاطفي)، عندما يتحول المتلقّي أو المشاهد لهكذا أعمال إلى مجرّد مستهلك سلبيّ للعواطف التي تتجسّد بقوّة على الشاشة، والنتيجة تسطيح الشعور؛ فكلّ شيء يتساوى عندما يتمّ تجسيده بالطريقة نفسها.
إنّ هذا المصطلح تحديدًا (تسطيح الشعور) هو ما ينطبق على الحالة السوريّة التي تعجز بعد سنوات عشر عن كسب التأييد والتعاطف معها؛ لم تفلح كلّ الصور والبثوث الحيّة والمباشرة للقصف والمجازر التي يستحيل تكذيبها أو القول بأنّها مفبركة، بخلاف الهولوكوست الذي رُكّبت صورته من قصص وشهادات فردية للناجين منها؛ لم تفلح تفاصيل الهولوكوست السوري التي ملأت وسائل التواصل الاجتماعيّ خلال السنوات العشر على تحقيق التأثير المطلوب الذي يدفع بعض الضمائر الحيّة إلى إيقاف نزيف الدم المستمرّ على الأقلّ، ووضع حدّ لتلك الأوضاع الإنسانية للسوريين التي تتردّى يومًا بعد يوم؛ سواء كانوا في الداخل أو في بلدان اللجوء.
اعتادت القوى العظمى التنديد حينًا والصّمت في أكثر الأحيان، دون أن تدفع باتّجاه تحويل ما تصفه المنظّمات الحقوقية الدولية بأنّه "جرائم حرب" و"جرائم ضدّ الإنسانية" إلى محكمة الجنايات الدوليّة
يحيي المجتمع الدوليّ المتمثّل بهيئاتِ الأمم المتّحدة وجهات كثيرة بينها برلمانات ومنظّمات اليوم؛ ذكرى المحرقة اليهودية (الهولوكوست) التي ذهب ضحيّتها ملايين اليهود بسبب البطش النازي، هذا المجتمع نفسه وعلى رأسه مجلس الأمن الدوليّ لم يحرّك ساكنًا بخصوص التعذيب الممنهج الذي يمارسه نظام الأسد على السوريين منذ ما يزيد على عشر سنوات؛ حيث اعتادت القوى العظمى التنديد حينًا والصّمت في أكثر الأحيان، دون أن تدفع باتّجاه تحويل ما تصفه المنظّمات الحقوقية الدولية بأنّه "جرائم حرب" و"جرائم ضدّ الإنسانية" إلى محكمة الجنايات الدوليّة.
إنّ كثرة المشاهد والصور المؤلمة للمحرقة السورية والتي باتت تملأ كلّ مكان قد حقّقت أثرًا عكسيًا، وبدلًا من التعاطف المطلوب خلقت حالةً من (تسطيح الشعور) لدى العالم بأسره ولدينا كسوريين؛ إلّا أنّها بمرور الوقت ستتكدّس في متحف الهولوكوست الأسدي، وربّما تصل يومًا ما إلى المنسوب الذي يسمح للعالم اعتبارها بمستوى الهولوكوست اليهودي، وقد يأتي من ينفض الغبار عنها بعد زمنٍ طويل ليصرّح بأن الهولوكوست السوري لا يقلّ وحشيّة عن الهولوكوست اليهودي من دون أن يستهجن أحد تصريحه ذاك، قد يذرف صاحب التصريح ذاك الدموع أيضًا ويطالب العالم بأن يخصّص يومًا لإحياء ذكرى الهولوكوست السوري أسوةً بالهولوكوست اليهودي الذي ما يزال حتّى يومنا هذا أكبر مذبحة جماعيّة في التاريخ.