"الهجانة في تشكّل الأحزاب السياسية الحديثة: المجال العربي أنموذجًا"، كتاب صدر حديثً اعن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، من تأليف الباحث ياسر اشتي. ويتضمن الكتاب (288 صفحة) أربعة فصول تتمحور حول بحث جذور نشأة الأحزاب بوصفها مؤسسات وتنظيمات، والمفاهيم الرأسمالية لنشأة الأحزاب في مراحل البزوغ والصعود والاستواء والتشكيك والتراجع، ويتناول بالذكر أحزاب النخبة والأحزاب الجماهيرية وتسلمها السلطة، وما يسمى "الحزب الماسك" و"حزب الشبكة"، وغيرها. ويركز على أدبيات نشأة الأحزاب باللغات الأجنبية، ثم يعرج على الأدبيات العربية في هذا المضمار، مبيِّنًا التقليد المأزوم فيها، مستعرضًا الظروف التاريخية لنشأة الأحزاب العربية من حيث مفاهيم ثلاثة: "الدولة" و"البنية" و"الإمرة"، ليصل في الختام إلى الحديث عن لبِّ موضوع البحث، وهو الهجانة وحضورها في الأحزاب العربية، وأثرها في ضعضعة أهداف هذه الأحزاب، متناولًا بالبحث المفصّل حزبين أنموذجين في العالم العربي هما: حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي اللبناني. وختامًا، يصل المؤلف إلى نتيجة مفادها استحالة تكريس الأنموذج الغربي للأحزاب في العالم العربي.
للأحزاب أهمية بالغة في السياسة، مثالها الأعلى تلك التي قامت على قواعد الثورة الصناعية والرأسمالية في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، والتي عُمم أنموذجها في العالمَين الثالث والعربي بين نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وقد سار على هدي ذلك الأنموذج باحثون كَتَبوا عن الأحزاب في بلداننا. لكنّ التقدُّم بالمجال السياسي العام لم ينجح خلال قرن ونيّف مع الأحزاب العربية، التي تراجع حضورها وتشظَّتْ، مع ردِّ محللين ذلك إلى بُعدها عما أُسِّست عليه من مبادئ، وآخرين إلى تخلُّف البنى المجتمعية العربية، وفريق ثالث منهم إلى مجافاتها الأنموذج الغربي الرأسمالي الحديث.
يواجه كتاب، الهجانة في تشكّل الأحزاب السياسية الحديثة – المجال العربي أنموذجًا، واقعَ الأحزاب العربية المأزوم، بوصفه مثالًا للبلدان خارج المركز الرأسمالي، عبر عرض إشكاليةٍ فيه تُعارِض حتى تشكّل الأحزاب في البنى المجتمعية الهجينة مقارنة بتشكُّلها في العالم الغربي، منطلِقًا من فرضية اختلاف المحددات البنيوية لتكوين الحزب العربي بعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر عما هي عليه في الدول الحديثة، وهجانة هذه المحددات مجتمعيًّا ودولتيًّا.
لقد أسس الحزب السياسي الحديث بنيانه على الانتقال بالعلاقات الاجتماعية في الإنتاج الزراعي إلى أخرى في ظل الإنتاج الصناعي، أساسها الرأسمالية ومواجهة الإقطاع والإمبراطوريات، وتشكيل دول قومية أرسى مؤتمر وستفاليا (1648) حدودها، وأتيح فيها للقوى المجتمعية تشكيل أحزابها، التي لم تتضارب محدداتها مع التطورات العلمية والتكنولوجية إلا شيئًا يسيرًا في ما خصَّ الدولة السيدة وحكم القانون وإنتاج السلطة من الشعب في مقابل العلاقات الرأسمالية والمعرفة العلمية.
استقبلت البنى المجتمعية في البلدان العربية، على حين غرة، فكرة الحزب السياسي الحديث المكتمِل التشكل في بيئات زراعية في معظمها ومجال سياسي متشظٍّ بين سلطات أبوية ونبوية وأوتوقراطية محكومة بالولاء والتبعية والاستبداد. فلم يؤدِّ الانخراط الإمبريالي في الاقتصاد والسياسة والعسكر، منذ تفكك الإمبراطورية العثمانية، إلى تعزيز الإنتاج وتحديثه وبناء دول قومية حديثة، بل اقتصر على تعزيز التبادل التجاري والتحديث الخدماتي وقيام إمارات تؤمّن مقتضيات توسع الطرف المسيطر. وحتى دول ما بعد الاستقلال وحركاته الحاكمة لم تفلح في بناء دول حديثة وإنتاج صناعي واقتصاد حديث ومستقل، بل غالت في تعزيز سلطتها بذريعة تحرير فلسطين، وشرذمت العلاقات الاجتماعية بين الولاءات للسلطة وعدمها، وكرّست التبعية على قاعدة خدمتية.
ركز الكتاب، خلال معالجته إشكالية الهجانة في الأحزاب العربية، على الأدبيات الأجنبية في علوم السياسة والسوسيولوجيا والتاريخ عن تشكّل الأحزاب السياسية المتفاوتة المناهج، ثم مقارنتها بالأدبيات العربية التراثية والحديثة، لمحاولة إظهار تصورِ كلٍّ منهما لمفهوم الحزب وتشكله.
وتتبع الكتاب بالدرس كذلك تفاعل الأحزاب العربية لدى احتكاكها بالوافد الرأسمالي، والمفاهيم التي أفرزتها عن الدولة، والبنية المجتمعية، والإمرة، والنخب، والحقل السياسي، والهدف، والحامل الاجتماعي، والبشر، والتنظيم، والفاعلية.
وتتبع الكتاب أيضًا مراحل تشكل الأحزاب السياسية الحديثة الخمس في المركز الرأسمالي (بزوغ الأحزاب الحديثة، صعود الأحزاب، استواء العمل الحزبي والتعددية الحزبية، التشكيك في الأحزاب، تراجع الأحزاب)، والأربع في المجال العربي (أحزاب الوجهاء، الأحزاب المتجاوزة، الأحزاب في السلطة، الأحزاب في التخبط).
وشرح بالتفصيل مكونات الأحزاب، من حيث البيئة المجتمعية التي تنتجها ومن حيث ما يتجاوزها، وبيَّن الهجَانة السياسية والفكرية والمجتمعية في تشكل الأحزاب السياسية العربية، منتقيًا أنموذجَين منها هما حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي اللبناني (معتبرًا إياه ممثِّلًا عن الأحزاب الشيوعية العربية).
استنتاجات الكتاب
وقد توصل المؤلف، في كتابه الهجانة في تشكّل الأحزاب السياسية الحديثة – المجال العربي أنموذجًا، إلى ربط تشكُّل الحزبية عمومًا والسياسية خصوصًا بنزوع نخب وجماعات مكتفية اقتصاديًا إلى ضمان مصالحها وديمومتها. وميَّز بين الحزبية السياسية بصفتها مؤسسة تحكم الصراع الثنائي على الإمرة والأحزاب السياسية بصفتها تنظيمات تمثل فئات مجتمعية تسعى إما للاحتفاظ بمواقعها أو للمشاركة في الإمرة.
وأعلن الكتاب ثلاث مراحل تاريخية لتطور الحزبية السياسية العصبية من دون لحظ تطورها، وهي: الحزبية السياسية عصبيةً دموية عُرِفت مع "الدولة المدينة" و"الدولة القبيلة"، والحزبية السياسية عصبيةً فكرية عُرفت مع الإمبراطوريات، والحزبية السياسية عصبيةً سلطوية عُرفت مع الثورة الصناعية وصعود الرأسمالية وقيام الدولة الحديثة، مع عدم بقاء الحزبية السياسية على سوية واحدة، بل تغيُّرها تبعًا لأمرَين: موقع البلد ودرجة التبدل في نمط الإنتاج.
استحالة تجسيد الأنموذج الغربي: النتيجة الأهم
كان أهمّ ما توصل إليه البحثُ القولَ بـ "استحالة" بناء الحزب السياسي على شاكلة الأنموذج الغربي في المجال العربي؛ لتباين الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمراحل التي حكمت تطور كل منهما، وبإمكانية بناء "أنموذج جديد" للحزب السياسي العربي بتمييز مكونات الحزب العامة من البنى المجتمعية التي أنتجتها، لإعادة الاشتغال بإنتاج هذا المكونات، وقد يكون المدخل الذي اقترحه البحث الاشتغال ببناء دولة القانون.