لا يعد العمل بلمّ الكرتون والخبز اليابس والبلاستيك، ظاهرة جديدة في المجتمع السوري؛ إذ إنّ الطبقات الأكثر فقراً اعتادت على هذا العمل وإن كانت نسبة العاملين بـ"النبش" قبل بدء الحرب السورية قليلة وفي أشكال غير منظمة.
ومع ازدياد عدد النازحين "داخلياً" والمهجّرين من مناطق الاشتباكات والقصف، تحوّل هذا العمل خلال سنوات الحرب إلى مهنة منظمة لها "شيخ كار"، وتعمل بها عائلات كاملة من أصغر أفرادها حتى أكبرهم، ويسكنون في أبنية "المخالفات" والعشوائيات وحتى في الأبنية غير مكتملة الإكساء بعد، إلى جانب تأسيس "مراكز بيع وشراء" ومستودعات كاملة في مناطق دمشق الشعبية وفي الريف.
مصدر دخل جيد رغم قسوة الظروف
يؤمن العمل بلم المخلفات ونبش القمامة مصدراً يومياً لعائلات بكاملها، ولا يأخذ هذا العمل الطابع نفسه الذي نراه في الدول الأوروبية التي تنشئ مؤسسات كاملة لأهداف بيئية تسعى إلى تنقية الطبيعة والشوارع تطوعياً، بل إن دافع العاملين الوحيد هو حاجة قسرية لتأمين لقمة العيش، ولا سيما لأولئك الذين لا يمتلكون شهادات أو أعمال خاصة يعملون بها، إذ يصبح الارتزاق بالاعتماد على القمامة روتين يومي ومهنة ذات أسس يتم توريثها وتعليمها.
خلال لقاء موقع تلفزيون سوريا مع إحدى العاملات بلمّ المخلفات (هدى)، قال إنّ عائلتها بكاملها تعمل في لمّ البلاستيك والكرتون على وجه التحديد، مضيفةً: "نخرج من السابعة صباحاً ونمرّ على مكبات النفايات ونجمع كل ما نجده من بلاستيك وكرتون، ففي الشتاء يزداد الطلب على الكرتون للتدفئة عليه أما البلاستيك ومعه النايلون فهو مطلوب بصورةِ دائمة والخردة تعطي وزناً جيداً عند يبعها".
أما عن المال الذي يحصلونه من هذا العمل فهو يختلف من يوم إلى آخر بحسب وزن ما يجمعونه ونوعيته؛ إذ إن جمع مواد نحاسية أو قطع كهربائية أو أدوات مطبخ قابلة للتدوير أو الاستعمال مرة أخرى، يكون ذا مردود أفضل وقد يعفيهم من العمل بقية النهار.
وتابعت هدى: "كنّا خلال سنوات الحرب نجد أسلاكاً نحاسية أو قطعاً كهربائياً محترقة أو تحتاج إلى تصليح ليُعاد استعمالها، أما الآن فقد قلّ وجود هذه المواد، ويتم حساب المواد كالبلاستيك والكرتون بالكيلو". ويصل سعر كيلو البلاستيك إلى 3-4 آلاف ليرة سورية".
يتراوح مدخول العاملين بـ"النبش"، فهو يتراوح وسطياً بين 40 ألف و250 ألف ليرة يومياً، ويزداد بازدياد عددهم والكميات التي يجمعونها ووزنها، وبحسبة بسيطة نستنتج أن واردهم الشهري أفضل بأضعاف من راتب الموظف الحكومي.
والتقى موقع تلفزيون سوريا مع بعض الأطفال الذين يمتهنون "النبش" في منطقة الدخانية بدمشق، حيث أشهر أحدهم رزمة سميكة من فئة الــ5000 ليرة سورية، كنوع من الزهو والافتخار بـ"الغلّة".
النساء والأطفال: ضحايا في سبيل لقمة العيش
تتألف جماعات نبش الحاويات من النساء والأطفال بصورة أساسية؛ إذ يشكلون منظمات مصغرة تضم جميع أفراد العائلة؛ وجميعهم لديهم هدف واحد: تنقية الحاويات والشوارع ومكبات النفايات والحدائق من جميع أشكال البلاستيك والخبز اليابس والتَنَك والكرتون.
إحدى الحالات التي استطاع موقع تلفزيون سوريا تقصّيها في منطقة الزاهرة الجديدة بدمشق، هي لطفل يجلس طوال النهار على مكب النفايات، ويعلّق على الحاويات أكياس اللم البلاستيكية (شوالات)، وقد تبيّن أن كل كيس مخصّص لمادة معينة؛ كيس للخردة (جميع أشكال المعادن) وكيس للكرتون وآخر للبلاستيك.
ويجمع الطفل (أسامة) هذه المواد في آخر النهار ليبيعها، أما أمه وأخته فتعملان في نبش الحاويات ضمن المناطق القريبة، يقول: "أعمل بشكل يومي، أجلس على ظهر الحاوية وأنتظر أن تمتلئ الأكياس في آخر النهار، ثم تأتي أمي وأختي الكبير ونجمع أكياس اللمّ لنبيعها في مركز الصناعة".
وتبدو هذه المهنة مربحة ومريحة في الوقت نفسه لمن يعملون بها على الرغم من تعاطف الناس معهم؛ إذ لا تحتاج إلى رأس مال أو مجهود فكري، لكنها بكل تأكيد لا تخلو من الأمراض والمشكلات الصحية والعمل المضني.
لكن اللافت للانتباه في مهنة "النباشين" هو العدد الكبير للأطفال العاملين؛ وذلك باندفاع من الأطفال نفسهم لمساعدة أهلهم مادياً أو بدافع من الأهل بعد إخراج هؤلاء الأطفال من مدارسهم أو حتى مع التزامهم بالدوام المدرسي صباحاً وبالعمل في نبش حاويات القمامة مساءً.
تسرب من المدرسة بسبب الفقر
وصلت نسبة الأطفال المتسربين من المدرسة إلى 2.5 مليون طفل في عموم سوريا حتى شهر حزيران من العام الفائت، بحسب تقرير "منسقو الاستجابة سوريا"، أما وزارة تربية النظام فلم تقدم نسبة منذ العام 2022، حول أعداد الأطفال المتسربين من المدرسة وكيفية معالجة هذه الظاهرة.
ويزداد عدد الطلاب المتسربين بمرور السنوات، نظراً لتردي الأوضاع المعيشية والفقر والجوع وعدم قدرة الأهل على تحمل تكاليف الدراسة، إلى جانب حاجتهم لإرسال الأطفال إلى العمل لتأمين لقمة العيش وإيجارات البيوت.
مصدر خاص في بلدية ريف دمشق أوضح لـ موقع تلفزيون سوريا، أنّ العاملين في هذه المهنة هم من النازحين وأطفالهم؛ إذ ينقسم الأطفال إلى قسمين: متسرب من المدرسة ويعمل في النبش أو مهن أخرى قاسية في معظمها، أو ملتزم بمدرسته ويعمل إلى جانب دراسته، وتتراوح أعمارهم بين 7 سنوات و17 سنة.
موقع تلفزيون سوريا التقى بالطفل (ياسين) البالغ من العمر تسع سنوات، وأخبرنا بأنّه يداوم في مدرسته صباحاً ويخرج إلى العمل بعد عودته إلى المنزل وحتى ساعات المساء المتأخرة.
وأوضح:"أعيش في منطقة الدخانية، وأعمل في (لمّ) الكرتون والبلاستيك من الشوارع والحاويات ثم أبيعها لمراكز (المستعمل) في جرمانا، وأعود إلى بيتي في الساعة 11 ليلاً، وأعطي أهلي المال ثم أعود إلى الدوام في مدرستي صباحاً".
مراكز مخصصة للشراء ومناطق محظورة
تنتشر في المناطق الشعبية وعلى أطراف دمشق، عدة مراكز لشراء البلاستيك والكرتون والمواد المستعملة، وتوجد أكبر هذه المراكز في مناطق: الحرجلة، الكسوة، الصَّهية، الصناعة، إذ يجري تحويل النفايات حسب نوعها إلى "بالات" تُنقل لاحقاً إلى معامل متخصصة لإعادة تدوير هذه المواد بالصهر والخلط وإعادة التشكيل.
وتتعامل كل مجموعة من مجموعات النباشين مع مركز معين لبيع ما جمعوه، كما أن كل منطقة أو شارع تحت "وصاية" مجموعة معينة من النباشين، وبالتالي فهي محظورة على بقية المجموعات، الأمر الذي يتسبب بمشاجرات بينها، إذا تعدّت إحداها على منطقة ليست منطقتها أو اقترب أحد الأطفال من حاوية تتبع لمجموعة غير مجموعته.
ولا نتحدث هنا عن مشاجرة عادية، بل مشاجرة لا تخلو من الضرب والأذية والتهديد، إذ قد يتحول هذا النوع من المشاجرات إلى اشتباكات بالأسلحة البيضاء، والغريب في الأمر أنّ بعض هؤلاء الأطفال باتوا يربّون كلاب الشوارع كبيرة الحجم كنوع من التسلية والحماية أيضاً، ولا سيما أنهم يعملون حتى ساعات متأخرة من الليل.
الكرتون: سلعة مطلوبة شتاءً
يشتري بعض الناس الكرتون من مجموعات النباشين أو من مراكز بيع القمامة والمواد المستعملة لتوفيره للشتاء، فحرق الكرتون وعلى الرغم مما يحمله من أضرار صحية وتنفسية وبيئية إلا أنه يقي من الموت برداً.
وعادةً يُحرق الكرتون والورق في "تنكة" كبيرة تُستخدم عادةً لتعبئة السمن والزيت، أو استخدامه كفتيل لإشعال النار في مدافئ الحطب التي انتشرت في السنوات الأخيرة بصورة كبيرة، نتيجة غلاء المحروقات ورفع الدعم عنها وأزماتها المستمرة التي يفتعلها النظام بين الحين والآخر.
يتراوح سعر كيلو الكرتون بين 800 و1500 ليرة سورية، ويمتنع بعض أصحاب المحال التجارية عن رمي الكرتون الذي تُعبأ فيه البضاعة، بل قد يبيعون الكرتونة الواحدة بسعر يصل إلى 3000 ليرة سورية ولا سيما الكرتون الثخين، الذي يستخدمه الناس عند نقل البيوت وترحيل الأثاث.
مصدر خاص أوضح لـ موقع تلفزيون سوريا، أن مراكز الكرتون في دمشق، هي فقط مراكز تجميع ونقل، ولا توجد معامل لإعادة تدوير هذه المادة، بل تُنقل في شاحنات كبيرة إلى حلب لتصنع منها ألواح سميكة أو عُلب تعبئة بعد معالجتها وخلطها بمواد معينة.
ميليشيات النظام تسيطر على مهنة القمامة
استطاع موقع تلفزيون سوريا تقصّي ملكية بعض مراكز تجميع القمامة في ريف دمشق، وتبيّن أنّها تتبع لأشخاص كانوا من المجندين في ميليشيا "الدفاع الوطني"، الذين عملوا سابقاً في مناطق الغوطة وببيلا ويلدا والتضامن، قبل أن يتم إنهاء عمل مجموعات الميليشيا في دمشق.
وبعضهم الآخر عساكر من قوات النظام لا يزالون على رأس عملهم، وهم يستفيدون من "صفتهم العسكرية" السابقة أو الحالية في إعماء عيون لجان البلدية عنهم والتحكّم بجماعات "النبّيشة" من المدنيين.
ولا يقتصر عمل هذه الميليشيات على إدارة هذه المراكز وتشغيل الناس بها، إنما يعملون وعائلاتهم في نبش القمامة وتجميعها، ولا سيما مع حالة الفقر التي يعاني منها مجندو النظام وحاجتهم إلى مصدر دخل إضافي.
وقد أوضح مصدر خاص من العاملين في هذا المهنة لـ موقع تلفزيون سوريا (فضل عدم ذكر اسمه)، أن عملية جمع الخردة وشرائها وإعادة تدويرها تشرف عليها بصورةٍ مباشرة "جماعة ماهر الأسد"، بحسب قوله؛ أي الفرقة الرابعة.
فلم يكتفوا بعمليات "التعفيش" لجميع مواد البناء و"التنحيس" (سرقة الأسلاك النحاسية) في المناطق التي سيطر عليها النظام بعد تدميرها بالقصف العشوائي، بل وضعوا يدهم على جميع مراكز الخردة (جميع أشكال المعادن المستعملة والتالفة والمرمية) ومعامل الحديد ومواد البناء في دمشق وحلب؛ إما بامتلاكها بصورة مباشرة والإشراف عليها، أو بالقوانين الاقتصادية الجائرة التي فرضها النظام على معامل الحديد والفولاذ الخاصة، إلى جانب الغرامات والإتاوات، يقول المصدر: "وضعوا يدهم على كلّ شي، إلا الخبز اليابس!".
ظروف غير إنسانية: سرقة وضرب وأذية
انتشرت في الآونة الأخيرة عربات متنقلة كانت تُستخدم سابقاً لبيع الخضراوات، يدفعها طفل لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، ويضع أمامه ميزان صغير يزين به البلاستيك المستعمل وأكياس الخبز اليابس والبطاريات التالفة.
في وسط دمشق، تحديداً في ساحة يوسف العظمة، التقى موقع تلفزيون سوريا بطفل في الرابعة عشرة من عمره، يدفع مع أخيه الصغير عربة عليها بعض الخرداوات (بطاريات تالفة، قطع كهربائية مستعملة، خردة معدنية)، والغريب في الأمر رؤية ظاهرة كهذه في منطقة تتجمع فيها المؤسسات الحكومية التابعة للنظام.
وبسؤالنا عن ظروف عمله أخبرنا بأنّه يسكن في منطقة "دف الشوك" ويعمل لإعالة أهله بشكل يومي، فوالدته مريضة سكري وتحتاج إلى أدوية بصورة دائمة ولا سيما أن قدمها بُترت، ووالده كبير في السن، يقول: "تعرضت للسرقة قبل فترة قصيرة، طلبت من (المعلم) أن يرسل لي بعض المال مع أخي الصغير لأشتري بطاريات تالفة من أحد أصحاب محال الألبسة في منطقة الصالحية، لكن المبلغ سُرِقَ مني، إذ اعترضنا شخص وضربني على رأسي ثم سرق الميزان والمال الذي أرسله لنا المعلم، وهرب".
ملاحقة من لِجان المحافظة في دمشق وريفها
لا يسمح مجلس محافظة دمشق وريفها التابع للنظام بانتشار ظاهرة النبش وجمع القمامة، تحت مسمى "مظاهر غير لائقة أو غير حضارية".
وتحارب هذه الظاهرة لا بمعالجة أسبابها أو تقديم المساعدة والدعم للفئات المهمّشة في المجتمع، بل بملاحقتهم لمصادرة حمولتهم أحياناً أو إلقائهم في السجن، ولا سيما إن كانوا أطفالاً قاصرين، وقد يتم تركهم وشأنهم بعد دفعهم رشوة للمسؤول عن اللجنة أو عناصره، يقول الطفل (ياسين): "يلاحقون لقمة عيشنا رغم قسوة الحياة علينا".
تعنيف وإذلال في أقسام شرطة النظام
لا تخلو مهنة نبش القمامة من مضايقات يومية، إلا أنّ أكبر مخاوف "النبّاشين" هو إلقاء القبض عليهم من الشرطة، إذ يتم تسليمهم إلى سجن "الأحداث" إذا كانوا أطفالاً، أو يسجنون في القسم نفسه، عدة أيام، حتى مجيء الأهل وكتابة التعهد أو دفع الرشوة للضابط المسؤول ليخلي سبيلهم.
في حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا يخبرنا أحد الأطفال في الثالثة عشرة من عمره بأنّ والده عسكري في جيش النظام بإدلب، وأنّه يعمل بجمع المخلفات ليعيل والدته وإخوته الصغار الذين يعيشون في دمشق، وهو من أكراد مدينة حلب، وقد اعتقله قسم شرطة عرنوس دون أن يقترف مشكلة أو جرماً.
ويضيف: "أخذني أحد العناصر من حديقة عرنوس إلى القسم وتعرضت للضرب عدة مرات، في إحداها من دون سبب أو تحقيق أو حتى حديث سابق بيني وبينهم، وكانوا يسرقون الطعام والدخان الذي تحضره لي أمي، وقد سُجنت سابقاً في سجن (الأحداث) بقدسيا؛ إذ كنت أعمل في التسول قبل أن أنتقل للعمل بجمع البلاستيك من الحاويات وشراء المواد التالفة من الناس".
أمراض مختلفة وحالات أقرب إلى الموت
يعاني العاملون في هذه المهنة من أمراض معوية وجلدية نتيجة انعدام النظافة الشخصية وظروف العمل القاسية وغياب القدرة على العلاج في كثير من الحالات؛ إذ تنتشر بينهم أمراض مثل اللشمانيا، القمل، الالتهابات المعوية المتكررة والإنتانات البولية؛ ورغم انتشار فكرة بين عامة الناس بأنّ هؤلاء الأطفال ذوو مناعة عالية جداً لكونهم اعتادوا على ظروف غير صحية، إلا أنّ فئة كبيرة منهم قد تصل إلى المشافي الحكومية وهي أقرب إلى الموت.
(صالح.ع) من مشفى المواساة وهو طبيب مقيم، صرّح لـ موقع تلفزيون سوريا بأنّ إحدى الحالات التي وردت إلى المستشفى بشكل إسعافي كان صبياً يتيماً يبلغ السادسة عشرة من عمره وهو من العاملين في لمّ الكرتون والبلاستيك.
وأضاف أنّ صاحب أحد المحال في منطقة الطفل، صحبه إلى المستشفى بعد أن لاحظ تدهور حاله واصفرار لونه ونحوله، وبعد إجراء التحاليل اللازمة تبيّن أن الطفل يعاني من التهاب الكبد الوبائي الحاد.
وتابع: "كتبت له الأدوية اللازمة بعد تشخيص الحالة، وأوصيت مرافقه بشراء الدواء له، وطلبت منه مراجعتي في حال عدم قدرته على شراء الوصفة الطبية لمساعدته في ذلك".
يشار إلى أنّ ظاهرة عمالة الأطفال تفشّت في معظم المناطق السوريّة بشكل لافت للنظر، حيث يقدّر بعض الخبراء أن عشرات آلاف الأطفال تركوا مقاعد الدراسة سعياً وراء مصدرٍ للزرق يعيلهم وأهاليهم، من خلال العمل في مهن تُصنف على أنها "سيئة" أو "قاسية"، مثل نبش القمامة ومسح السيارات على إشارات المرور.