قتلت جبهة النصرة، أو أعوانها أو أشباهها أو روافدها او تفرعاتها، الشهيدين حمود جنيد ورائد فارس في كفرنبل المخطوفة يوم الجمعة الماضي. وبدأت وسائل الإعلام تتحدث عن مجهولين أطلقوا النار وفروا هاربين. ومن وجهة نظر قضائية، فهي محقة، لأن الفاعل، ما دام لم يتم إلقاء القبض عليه وتحديد جهة الانتماء لديه، لا يمكن أن يتم تحديده، وإلا صار الأمر اتهاماً غير مسنود إلى أدلة. هذا القضاء الذي، في ظل انعدام مصداقيته في مجمل الأراضي السورية، وتشوّهه الشرعي في الأراضي المخطوفة شمالاً، لا يمكن أن يُعتدّ به ولا الاعتماد عليه.
وبالتالي، يمكن أن نصدّق أكثر الوقائع المتراكمة والتهديدات المتتالية والعقلية الجرمية التي تتميّز بها هذه العصابات بتغطية "شريكة" ممن دافع عنها يوماً واعتبرها "مكوناً من مكونات الثورة" واعتبر أن بندقيتها "تخدم القضية الوطنية". إلى درجة أن هؤلاء الشركاء في الجريمة أخلاقيا على أقل تقدير، وصلت بهم الحال لأن يكذبوا على محاوريهم الأوروبيين، حيث أوقعوا في الخطأ، وأكاد أقول الخطيئة، سياسياً فرنسيا محنّكاً كـ وزير الخارجية الأسبق لوران فابوس، دافعين به للدفاع عن هؤلاء القتلة استناداً إلى ما زوّده به محاوروه "الديمقراطيون والعلمانيون" السوريون ويا ليتهم أُصيبوا بالخرس قبل أن يقترفوا هذا الإثم.
بعد هذا الخطب الجلل الذي تكسّر كالنصال على جسم متهتك من نصال العدوان والخيانة والتخاذل، حفلت وسائل التواصل بالنعوات الصادقة والبروتوكولية، وأضيف إليها تلكم الكاذبة ـ والتي ربما لا يمكن توصيفها بذلك حتماً لأنها ربما صدرت عن مشاعر حقيقية ـ ولكنها كاذبة لأن أصحابها ما فتئوا يبررون لهؤلاء القتلة الخيارات غير الوطنية، وكانوا من صنف من ورد توصيفهم من المعجبين بعصابات النصرة وممن أيضا ساهموا، عن خبث أو غباء، في تحطيم الأمل بجسم قضائي متحرر من الاستبداد، فأخضعوه، أو قبلوا بإخضاعه، بتوقيعهم شهادات تخريج لقضاة شرعيين لا يفكون الجرف بعد دورة ظلامية لمدة أسبوع.
قبل وسائل التواصل كان للموت وقعٌ عظيمٌ في النفس والذاكرة
قبل وسائل التواصل، كان للموت وقعٌ عظيمٌ في النفس والذاكرة. وكان التأثّر بالفقدان حقيقياً وعميقاً لمن هو بأمره معني، كما أنه كان تفاعلاً بروتوكولياً لمن لا يمت بصلة من قريب أو بعيد، عائلية أو إنسانية، إلى الفقيد. وذلك مع إمكانية توفر نصف جرعة حزن تهتم بالحالة المجردة، وهي الموت والغياب عن مشهد الحياة. إذا، وعلى الرغم من جفاف المشاعر الذي كان يمكن أن يُـتهم به غير المعنيين، إلا انه كان يمكن القول على الأقل بأنهم لم يكونوا منافقين.
مع وسائل التواصل اليوم، والتي شكّلت مرتعاً للتعبير عن حزن حقيقي وعن أحزان وهمية، عن تعاطف واقعي وعن تعاطفات مسرحية، صار الموت رفيقاً يومياً يُصاحب الإنسان منذ قهوة الصباح، ولم يعد ذاك الشيء العظيم الذي يمكن أن يُشكّل حالة رهاب أو توجّس.
فما قبل اليوم، كنا إذ نسير في شوارعنا، نعبر الرصيف أمام دور العبادة إلى الطرف الآخر غالباً حتى لا نقرأ النعوات الملصقة، أو أننا نفعل العكس تطفلاً ليس إلا. وأما اليوم، فلا نكاد أن نفتح الأعين، لننظر إلى الصفحات الافتراضية متسائلين عن موتاها. تعودنا الموت بعد أن كنا نخافه ونتوجّس منه، وصار التعليق عليه مفتوحاً للتعازي حيناً وأحياناً لطرح أسئلة لا تحترم حرمة لميت أو حي. سُخِّف الوقع الجلل وصار الألم الناجم عنه مبستراً حيناً، أو أنه صار استعراضياً أحيانا.
فُرِّغ الموت من هدوئه ومن قداسته ومن تحريضه الدفين للمشاعر، وتقولبت هذه الأخيرة لتصير عبارات نرددها كيفما كان وبل نُحاسب بعضنا بعضا على شكل العبارة وصياغتها بعيداً عمن فقد الحياة. صار من الطبيعي أن نقابل الموت بالصورة دون أي وجل، والصورة للميت بعد موته، ويا ليتها كانت حاملة ابتسامة الحياة كما كان يرسم التدمريون على قبور موتاهم الحجرية.
لم يعد يرسخ في الأذهان وجه ابتسامة أو حزن الفقيد بقدر ما صار استراق النظر إلى جسده دون حياة راسخا في الأذهان
مع وسائل التواصل الاجتماعية والافتراضية، تعودنا أن نقابل الدمار والقتل والتعذيب كمسترقي نظر متطفلين على حيوات وأجساد الآخرين الحية أو الميتة، وبأي صورة كانت قد آلت اليها. ولم يعد للجسد أية خصوصية تُذكر، ولم يعد يرسخ في الأذهان وجه ابتسامة أو حزن الفقيد بقدر ما صار استراق النظر إلى جسده دون حياة راسخا في الأذهان وآخر ما نراه منه، ولن يغادرنا. ونلتفت بعدها، بعد أن نطمئن إلى أنه لم يفتنا موتٌ واحدٌ على الشاشة في مواقعها كافة، إلى ما تبقى من أخبار ومن صور.
رائد وحمود انتظرا الحرية فتأخرت عن موعدها، وأرسلهم الإيمان بها إلى حياة أخرى ربما يكون فيها من النفاق والكذب جرعة أقل. لقد غادرونا وعيونهم تحملق في الأجفان الباردة لمن دافع يوماً عن قتلتهم وهي لا ترف، بل إنها تشارك بالعزاء وهي الشريكة في الموت. يبتسمان وهما يُغادران على أجنحة ملائكة لا تحمل فيسبوكا أو تويترا، وفي قلبهم رأفة لما وصلت إليه حالنا التي صارت، بحكم العادة، جامدة وعديمة الأحاسيس غالباً، كما الرأفة لما نحمله من "مشاعر" مقولبة وجاهزة للاستهلاك السريع.