لمصطلح المواطنة المتساوية وقع جميل على الآذان، وخاصة مواطني الدول التي عانت من حكم الأنظمة الاستبدادية، التي كانت تعتاش على التمييز بين أبناء الوطن الواحد على أسس مختلفة، كالدين واللغة والعرق والرأي السياسي وغيرها من حوامل ذاك التمييز، ولا نبالغ إن قلنا إن سوريا في العقود الماضية كانت مثالاً حياً لكل صور التمييز تلك، وقد لعبت الدساتير السورية المتعاقبة دوراً لا يستهان به في تكريس ذلك بين المواطنيين السوريين، ويمكن القول بأن تلك الدساتير اعتمدت في سياساتها التمييزية على عدة عوامل، أهمها القومية والدين واللغة، وكانت الدساتير التي أعقبت مرحلة الوحدة بين سوريا ومصر من أكثر تلك الدساتير تمييزاً وتهميشاً للسوريين من غير العرب.
فقد كان لمسألة تمجيد القومية العربية والحديث عن دورها في بناء الحضارات ولا سيما الحضارة السورية، حيز كبير ومهم في تلك الدساتير، والنص على اعتبار اللغة العربية كلغة رسمية وحيدة في البلاد، عاملاً خطيراً في إنكار وتحقير باقي اللغات الأصيلة الموجودة على الأرض السورية منذ آلاف السنين، وصلت إلى حد منع باقي المكونات من التحدث بلغتها الأم واعتقال كثيرين ممن حاولوا تدريس لغتهم الأم سراً، وكل هذه الأمور نسفت مبدأ المواطنة المتساوية في سوريا، وكانت من المسببات الأساسية لوضع بذور التفرقة والتمييز في الأرض السورية.
عندما قامت الثورة السورية في ربيع 2011 اعتقدنا كسوريين، ولفترة لا بأس بها، بأن تلك النصوص والمسببات في طريقها إلى الزوال وإن رياح التغيير تهب نحونا
وعندما قامت الثورة السورية في ربيع 2011 اعتقدنا كسوريين، ولفترة لا بأس بها، بأن تلك النصوص والمسببات في طريقها إلى الزوال وإن رياح التغيير تهب نحونا، خاصة وأن الشعب السوري كان يهتف بملء الحناجر، "الشعب السوري واحد"، لكن مع مرور الأيام ورفع الغطاء الذي كان يتقنع به البعض ممن يدعي معارضته لنظام الأسد وحكمه الاستبدادي، اكتشفنا بأن كثيرين من هؤلاء لم يقطعوا مع منظومة الاستبداد وتهميش الآخر المختلف وعدم تقبله إلا بالصورة التي يحبون أن يرونه فيها، فرفضِ الاستبداد وإقصاء الآخر كان بالنسبة لهم عبارة عن "عدة الشغل" التي من خلالها سيكسبون دعم المجتمع الدولي والمواطن السوري المتعطش للحرية والكرامة، وفهموا التغيير بأنه يكمن فقط في إزاحة الأسد وأزلامه عن الحكم، دون أن تكون لديهم أي نية في تغيير المنظومة الفكرية التي حكم بها النظام هذه البلاد.
ومناسبة هذا الكلام هو أن غالبية مؤسسات المعارضة ولا سيما تلك المشاركة في المسار الدستوري الجاري في جنيف، تحبذ الإبقاء على اسم الجمهورية العربية السورية في الدستور المزمع كتابته في جنيف، هذا الاسم الذي يعتبر دخيلاً على اسم الدولة السورية، إذ كانت سوريا تعرف قبل عام 1961 باسم الدولة السورية وقبلها المملكة السورية، متناسين أن الإبقاء على كلمة العربية سيقضي على بصيص الأمل الذي حلم به السوريون طيلة السنوات الماضية في تحقيق المواطنة المتساوية، فكيف لنا إقناع الكردي والسرياني والأرمني والشركسي، والقائمة تطول بالمكونات السورية، بأنه يتمتع بكل حقوق المواطنة مثله مثل المواطن العربي، طالما إننا سنفرض عليه أن يقر بأنه مواطن عربي سوري، وطالما أنه سيحمل الجنسية العربية السورية في بطاقته الشخصية، وطالما أن كل ورقة رسمية سيكتب عليها بأنها "خاصة أو تمنح للمواطنين العرب السوريين"، كما كان حال كثير من أوراق ووثائق مديريات السجل المدني (النفوس).
وعندما يحاول البعض من هؤلاء، التغطية على مطلبهم الإقصائي بالقول إننا سنورد في الدستور بأن الجمهورية العربية السورية تتكون من إثنيات وأعراق متعددة، كالعرب والكرد والأرمن والسريان والشركس والتركمان، وبأن الجميع متساوون في الحقوق والواجبات، فيمكن الرد عليهم بكل بساطة بأن الدساتير السابقة كانت تتضمن نصوصا مماثلة وأحيانا متطابقة مع مقترحكم المذكور، ومع ذلك فإن التمييز بحق تلك المكونات غير العربية كان عنواناً يميز الدولة السورية، وقد تمثلت سياسة التمييز تلك بحرمان تلك المكونات من التحدث بلغتها الأم وحرمان البعض منها من الجنسية السورية، ومصادرة العقارات من أبناء تلك المكونات ومنحها للمواطنين العرب وغيرها من السياسات الاستفزازية العنصرية، التي كانت من مسببات الحالة المزرية للوضع السوري، وبالتالي فإن مثل تلك النصوص بقيت وستبقى حبراً على ورق ما دام سيفرض على أبناء المكونات الأخرى أن تعرِّفَ عن أنفسها كمواطنين عرب لا غير.
عندما يتمسك نظام الأسد بمثل هذا المطلب فهذا الأمر له أسبابه، كون هذا النظام اعتاش على مدى سنوات حكمه على السياسة التمييزية الإقصائية، وتفضيل مكون على آخر، كون هذا السياسة هي التي مكنته من زرع بذور الشقاق بين السوريين، وعدم اطمئنان المكونات لبعضها البعض، وهذا ما سيجعل تلك المكونات تلوذ دوماً بحمى النظام الزاعم بحمايته للأقليات، وهذا ما كان يسهِّل عليه السيطرة على الجميع والتحكم بهم، إضافة إلى إن هذا النظام سيتظاهر دوما كما كان في السابق بأنه قلب العروبة النابض وبأنه الحريص على تحقيق وحدة البلاد العربية، ويبدو أن كثيرا من المحسوبين على المعارضة، أعجبهم هذا الطرح من قبل وفد الأسد في اجتماعات اللجنة الدستورية، ومن الممكن أن تكون هذا المسألة إحدى أكثر النقاط التي سيتم الاتفاق عليها بين ممثلي النظام والمعارضة والمجتمع المدني الحاضرين في اللجنة الدستورية، باستثناء القلة القليلة من المكونات غير العربية وبعض المعارضين الذين تمكنوا من القطع مع مفهوم الاستبداد حقيقة وليس فقط من باب الشعارات والمزايدة، وتمكنوا من تقبل الآخر المختلف كما هو لا كما يتصورونه في مخيلاتهم.
ومناسبة هذا الكلام هو أن غالبية مؤسسات المعارضة ولا سيما تلك المشاركة في المسار الدستوري الجاري في جنيف، تحبذ الإبقاء على اسم الجمهورية العربية السورية في الدستور المزمع كتابته
حقيقةً، لو تمكن النظام وبمشاركة هؤلاء الذين يشاطرونه طريقة التفكير نفسها، من فرض كلمة العربية في اسم الدولة السورية، فهذا يعني بأن مسببات الشقاق والتناحر لن تزول من المجتمع السوري المنهك أصلاً من ويلات المحرقة التي يعيشونها منذ ما يقارب العقد من الزمن، وبالتالي فإن هذا الدستور سيكون كسابقاته من الدساتير التي لم تكن أبداً عاملا في لم شمل السوريين، بل كانت عاملاً قوياً في شتاتهم وتفرقهم، وخلق الشعور لدى باقي المكونات غير العربية بعدم انتمائها إلى هذه الدولة، طالما أن الأخيرة لا تعترف بوجودهم كمواطنين سوريين، بغض النظر عن أعراقهم وقومياتهم، وطالما أن هذا الدستور سيسعى إلى صهر السوريين بجميع مكوناتهم في بوتقة القومية العربية، هذا الهدف الذي يعتبر من صلب أهداف حزب البعث العربي الاشتراكي الفاسد الذي يقود الدولة السورية والمجتمع السوري لما يزيد عن الخمسين عاماً، هذه القيادة التي جعلت من سوريا دولة منهكة ومرتهنة للكثير من القوى الإقليمية والدولية على مدى العقود الماضية.
وإذا كانت حجة البعض بأن الأغلبية في سوريا هم من العرب ويتحدثون العربية، فهذه الحجة لا تسوغ لهم أن يطوبوا الدولة كاملة باسم الأغلبية، خاصة وأن أكثر من نصف الدول العربية لا يقترن اسمها بكلمة العربية، ودول بلاد الشام، عدا سوريا، خير مثال على هذا، كما ولا تمنحهم الحق بأن يحرموا أبناء باقي المكونات من الاعتزاز بقومياتهم ومن التعلم بلغاتهم الأم وممارستها، فمن غير المعقول أن تُجبر باقي المكونات على تعلم اللغة العربية وبالمقابل تُحرم من تدريس لغاتها الأم في مدارس ومؤسسات الدولة التي تزعم بأنها تقوم أو ستقوم على مبدأ المواطنة المتساوية، فهذا المبدأ لايعني أن يلتزم الجميع بالواجبات التي يتطلبها هذا المبدأ، ويتمتع البعض منهم دون الآخر بالحقوق الناتجة عنه، لأننا بهذه الحالة سنكون أمام "دكتاتورية الأغلبية" التي لا تختلف عن دكتاتورية الفرد من حيث آثارها التدميرية، وليس من حق هذه الأغلبية أن تتحكم بمصير ووجود المكونات الأخرى المؤلفة للشعب السوري، بحجة ممارستها للديمقراطية، فالديمقراطية هي مجرد وسيلة لتحقيق غايات أسمى وأهمها العدل والحرية للجميع، فأي قرار يصدر عن الأغلبية ويكون فيه مساس بحق من حقوق أي من الأقليات، لا يمت للديمقراطية والعدالة بصلة، ويتنافى قطعاً مع مبدأ المواطنة المتساوية.