على أرض حلب وبفتوى فقهائها أُعدم اثنان من أشهر المتصوفة في التاريخ الإسلامي بتهمة الكفر والخروج عن الإسلام، هما: أبو الفتوح شهاب الدين السهروردي المقتول (587هـ -1191م) صاحب الدعوة الإشراقية، وعماد الدين النسيمي (820هـ -1417م) صاحب الدعوة الحروفية الذي سُلِخت جلدةُ رأسه حيًا، وعُلِّق على باب خان الشونة المقابل لباب قلعة حلب.
لا تنفي هاتان الوقعتان السابقتان كون حلب مدينة عريقة في صوفيتها، فقد عاش على ثراها أكثر من مئة متصوف بارز في تاريخها، وزارها كبار المتصوفة، من مثل مولانا جلال الدين الرومي ومحيي الدين بن عربي وغيرهما، وسُميت كثير من حاراتها ومقابرها ومساجدها بأسماء صوفية، وانتشرت الزوايا والتكايا والخوانق والربط في معظم حاراتها القديمة التي احتضنت مدافن الصوفية وأضرحة أوليائها.
حلب مدينة مفتوحة على جهاتها الأربع، اجتمعت فيها القوافل التجارية من بلاد الترك، والفرس، وبلاد الحج والعراق، ومصر وأرض المغرب وصولًا إلى الأندلس، وهو حالها أيضًا لمن حضر إليها من رحالة العلم والفكر والتصوف، فكانت بوتقة انصهرت فيها تجارب المتصوفة الكبار - القادمين إليها من تلك البلاد - ومركزًا لزواياهم، وهذا ما جعل حلب واحدة من أهم حاضرات التصوف الإسلامي، ومنارة من مناراته على مدى العصور المتوالية.
تركت عراقة التصوف في حلب وامتداده الحضاري، إضافة إلى الحضور القوي للطرق والزوايا والتكايا الصوفية وانتشارها، فكان من الجلي أثرها الكبير والواضح في حياة الحلبيين ونشاطهم الثقافي المتنوع، وقد صنعت بمجملها هوية ثقافية صوفية لمدينة حلب قلّ نظيرها في التاريخ المعاصر.
لئن كانت حلب عريقة في صوفيتها نتيجة لقدم انتشار الزوايا والطريق والخوانق والربط الصوفية فيها، فإنه من الطبيعي أن تكون حلب حاضرة الإنشاد الصوفي الذي أبدع فنونًا مختلفة، مثل الموشحات والقدود الصوفية، وقد تطورت الأناشيد الصوفية - خاصة بعد خروجها من الزوايا الصوفية إلى الحياة الفنية في مدينة حلب - إلى الإنشاد الصوفي؛ تيار له تاريخه وتقنياته الغنائية الخاصة، إضافة إلى تنوع موضوعاته الإنشادية بين مدائح الأولياء، ومدائح نبوية وصحابية، ومدائح المولوية، التي أضحت لاحقًا أيقونات في فن الإنشاد الصوفي، منها: فاصل اسقِ العطاش، والنوبات الأندلسية، إضافة إلى بروز رجال وضعوا بصمتهم الخالدة في هذا الفن، منهم : صالح الجذبة (1858- 1922م)، وعمر البطش (1885 - 1950م)، وصبري مدلل (1918 - 2006م)، وغيرهم كثير.
لم يكن تيار الفن الغنائي الطربي بعيدًا من تأثير الحركة الصوفية في حلب، بل نشأ في أحضان الزوايا الصوفية، فغنى جزء من رجال هذا التيار الموشحات والقدود الحلبية ذاتها، والتراث الصوفي الشعري، لكن بقالب غنائي ترافقه الآلات الموسيقية العصرية، لخلق أساليب وتنقلات إيقاعية وغنائية جديدة، ومنهم: صباح فخري، ومحمد خيري، ومحمد النصار، وعمر سرميني، وسمير جركس، ونهاد نجار، وخيري حمام وغيرهم.
تجب الإشارة إلى العلاقة المتداخلة والمتشعبة وصعوبة التمييز بين الإنشاد الصوفي والفن الغنائي الطربي في مدينة حلب، ليس في الألحان والشعر والأداء والموضوعات المشتركة وحسب، بل حتى في القالب الغنائي الموحد بينهما؛ فالأمر في مدينة حلب لا يُعدّ تشابهًا بين نمطيين فنيين، إنما أبعد من ذلك، إنه مسحة روحية واحدة تجمع بينهما.
كما وضعت حلب بصمتها الخاصة في الرقص الديني الصوفي الذي ارتبط بالأذكار وأداء الموشحات، ومن الإضافات النوعية التي أغنت فيها حلب التجربة الصوفية في مجال الرقص الصوفي تنقل (السماح)، وهو المفهوم الذي يرتبط بجذره اللغوي، أي طلب الإذن ببدء التنقل الحركي من شيخ الطريقة. ويتفق معظم المهتمين بهذا الموضوع على أن رقص (السماح) أبدعته شخصية صوفية حلبية لها منزلتها في تاريخ التصوف، وهو الشيخ عقيل المنبجي، الذي كان أول من رتب رقص السماح، وكان من العلماء المتصوفين، وكان يقيم في داره الأذكار، وله تلامذة ومريدون، فكان يعلمهم الأناشيد والتواشيح على الإيقاع، كما قام الشيخ عقيل بتحويل نغمات الموشحات والأناشيد التي كانت تُغنى في الزوايا الصوفية إلى حركات متلاحقة تتم تأديتها بالأرجل.
في القرن العشرين لم يكتفِ عمر البطش - الذي أخذ (السماح) عن شيخيه أحمد عقيل وصالح الجذبة - بنقل السماح من الزوايا والتكايا، ومن حلته الدينية، إلى الفرق الفنية الحديثة فحسب، إنما أضاف حركات وتشكيلات نوعية جمالية تواكب التطورات الحالية الفنية المعاصرة، خصوصًا في توافق الرقصات في إيقاعها الجسدي الحركي مع الإيقاع الشعري والموسيقي للإنشاد والغناء.
ومع تطور أدوات حركة الإنشاد الصوفي في مدينة حلب لحنًا وأداء ودخول الأدوات الإيقاعية وغيرها، إضافة إلى خروج الإنشاد من الزوايا إلى الحياة العامة، فقد برز في حلب شعراء صوفيون عاشوا في الزوايا أو تأثروا بالحالة الصوفية التي تهيمن على الوسط الحلبي، فعبروا عن تجربتهم شعرًا، فكانت نصوصهم مادة للمنشدين الحلبيين، ومنهم: عيسى البيانوني (1873 - 1943م)، بكري رجب الحلبي (1910- 1980م): صالح الحلبي (أبو أحمد المارعي 1907 - 1987م)،وغيرهم.
ولئن كان التصوف ركنًا أساسًا في بناء هوية مدينة حلب التاريخية والفكرية والاجتماعية، فمن الطبيعي أن يتأثر الفن التشكيلي منذ بدايته، ابتداءً من فاتح المدرس في ستينيات القرن الماضي، بالثقافة الصوفية (لوحة الدراويش لفاتح المدرس مثلًا)، وقد تطور إلى أن أصبح التعبير عن أفكار الصوفية وتصوراتهم ورموزهم موضوعًا أساسيًا لبعض فناني حلب، ومنهم: وليد كموش (1948م): الذي رسم الطقوس الصوفية المختلفة، منها: المسيرة الصوفية والمولوية والرقص الصوفي وبعض شيوخ الطرق في مدينة حلب. أما عبد المحسن خانجي (1950م) فقد تميزت لوحاته بالاتكاء على الأفكار الصوفية ورموزها، إضافة إلى التعبير عن وجدانيات الصوفية وأذواقهم وحالهم الروحي، خصوصًا لوحاته التي أطلق عليها الفنان نفسه اسم "البُنّيات"، إذ استخدم اللون البني فقط للدلالة على لون الأرض؛ قداسة المادة التي خلق منها الإنسان.
وإذا ما انتقلنا إلى ميدان ثقافي آخر من أثر التصوف في مدينة حلب مثل الخط الحروفي، فالخطاطون الحلبيون أكملوا السير على الأصول والقواعد التي سار عليها الخط العربي خلال تاريخه، كما ظهر في حلب تيار آخر عمل على تجاوز التقاليد التي اعتاد عليها الخطاطون بطريقة مبدعة أغنت الحياة الثقافية في حلب، ومنهم: الخطاط محمد عماد محوك (1959م) الذي يحيا تجربته الصوفية الخاصة - بكل طقوسها المعروفة عند أهل التصوف كالحال والسكر والحضرة والتجلي والترقي - أثناء تشكيل لوحته الحروفية، والتي تحضر فيها إبداعات هندسية فنية جمالية لم يعرفها الخط العربي من قبل.
نعتقد أن تعدد آثار التصوف وتنوعها في الحياة الثقافية لمدينة حلب جعل منها مدينة صوفية، لم تحضر فيها السلفية بأشكالها المختلفة يوماً، بل لم تكن الحركة الصوفية فيها امتدادًا لتاريخ التصوف وتطورًا له فحسب، إنما أيضًا جاءت استجابة لطبيعة حلب التجارية والصناعية التي وجدت طريقها إلى الإسلام من باب التصوف بوصفه تدينًا ليّنًا يحقق أهدافها وغاياتها.
وقد تركت القيم الصوفية الأساسية أثرها الواضح في بناء المجتمع الحلبي، وخاصة قيمة التسامح التي أسهمت في التعايش السلمي بين مختلف المكونات الدينية والفكرية والاجتماعية والإثنية لمدينة حلب.
وأسهمت قيمة التواضع ذات المنشأ الصوفي كثيرًا في تهذيب الشخصية الحلبية التي يعتز أبناؤها بأنها أقدم مدينة في التاريخ، وبأنهم أهل صناعة وتجارة وفن، إضافة إلى ترسيخ الطرق الصوفية لقيم المساواة بين المريدين والأتباع بغض النظر عن اختلاف طبقاتهم الاجتماعية الغنية أو الفقيرة، ومن ذلك على سبيل المثال إقامة دار نهضة العلوم الشرعية (الكلتاوية) كمدرسة خاصة بأبناء الريف الفقير المحيط بحلب أسوة بنظيرتها في حلب المدرسة الشعبانية الخاصة بأبناء المدينة فقط.
إن تقديرنا الإيجابي للدور الذي قامت به الحركة الصوفية في الحياة الثقافية لمدينة حلب لا يحجب عنا موقفها من الثورة السورية عام 2011م، الذي شهد انقسامًا عاموديًا حادًا كما هو حال انقسام المجتمع السوري عمومًا؛ إذ عارض جزء من الحركة الصوفية في حلب النظام الأسدي بالوسائل الدعوية والسياسية والعسكرية كلها، وبعضهم اتخذ موقفًا رماديًا صامتًا يحفظ به مكاسبه من السلطة وينال من خلاله شرف المعارضة لها، لا سيما في جلساتهم الخاصة، بينما كان الطرف الثالث الذراع الديني والإعلامي للسلطة الإجرامية الأسدية في حربها على الشعب السوري منذ عام 2011م حتى الآن.