قد يبدو العنوان غريباً (السينما الصوفية)، والأغرب هو دراستها في بلد حكمته العلمانية الصُلبة حتى مطلع القرن الواحد والعشرين، والتي كانت ثيمتها الأساسية منع الناس من كل ما هو ديني أو ما يرمز إليه، ويزداد الأمر غرابة إذا عرفنا أنها العلمانية التي أغلقت المدارس الدينية والتكايا الصوفية، عصب الحياة الاجتماعية والتربوية والدينية للدولة العثمانية.
حتى العام 1970م لم تنتج السينما التركية - ذات الصبغة اليسارية – فيلماً دينياً واحداً، بل اقتصر حضور الجانب الديني فيها على المشاهد التي تمثل الشخصيات الدينية بصورة سلبية فقط، غير أن العام 1970م حمل في طياته تحولاً كبيراً تجاه التيار الإسلامي لا على المستوى السياسي فحسب، وقد تجلى بدخول التيار للمرة الأولى في العهد الجهموري البرلمانَ التركي (نجم الدين أربكان 1926 – 2011م) بعد أن حرموا منه ما يُقارب خمسين سنة من عمر الجمهورية التركية، وإنما على المستوى الفني، فقد شهد ذلك العام ولادة أول فيلم سينمائي ديني (الطرق المتقاطعة) - ثم تلاه بعد عامين فيلم (زهرة 1972م) وظهر في عام 1973م فيلم (ابني عثمان) ... إلخ
تورغوت أوزال والإعلام الديني
لم تظهر ثمار الانقلاب الليبرالي عام 1983م على يدي تورغوت أوزال (حزب الوطن الأم) إلا في تسعينات القرن المنصرم، والتي شهدت ولادة الإعلام الديني في تركيا المتأثر بالتطورات السياسية والاجتماعية وصولاً إلى بروز ظاهرة الإعلام الفضائي التلفزيوني الذي كان فيه الإعلام الديني أحد أركانه - صحافة وتلفازاً وإنتاجاً فنياً - والذي تطورت قوته وحضوره مع تطور الأحداث السياسية التركية في القرن الواحد والعشرين وأهمها وصول التيار المحافظ (حزب العدالة والتنمية) إلى السلطة عام 2002م.
مراحل ظهور وانتشار الفيلم الصوفي
على غرار السينما الاجتماعية أو السينما السياسية أو السينما التاريخية أو السينما الدينية نزعم أن هناك سينما صوفية في تركيا، ودليلنا على ذلك، لا كثرة الأفلام التي كان موضوعها الرئيس صوفياً خالصاً فحسب، بل أيضاً التحولات الأساسية التي أصابت بنية هذه الصناعة تاريخياً منذ تسعينات القرن المنصرم حتى الآن، والتي يمكننا تقسيمها إلى مرحلتين أساسيتين هما:
المرحلة الأولى: هي المرحلة التي تمتد منذ بداية التسعينات حتى مطلع القرن الواحد والعشرين، وقد تميزت هذه المرحلة التأسيسية بإنتاج عدد كبير من الأفلام (ما يقارب ثلاثين فيلماً) تناولت شخصيات تركية صوفية شهيرة أو حتى شخصيات معروفة في تاريخ الفكر الصوفي الكلاسيكي، منها أفلام عن: عبد القادر الكيلاني، وآق شمس الدين، وبشر الحافي، وحجي بيرم ولي، وحياة ابن قيس الحرّاني، وإبراهيم الأدهم، ومالك بن دينار، وعمر بن عبد العزيز، ورابعة العدوية، وأويس القرني، ويونس آمره، وغيرها الكثير. وتميزت أفلام هذه المرحلة أنها أفلام سيّر ذاتية تاريخية لهؤلاء المتصوفة الكبار، ترصد حياتهم الشخصية ورحلاتهم الروحية، إضافة إلى مكانتهم الاجتماعية والصعوبات التي واجهتهم في مسيرتهم الصوفية.
المرحلة الثانية: هي المرحلة التي بدأت مع مطلع الألفية الثالثة ووصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، وهو الحزب الذي جمع في تجربته بين أصالة الأفكار الإسلامية ومعاصرة الحداثة السياسية في إطار سياسي جديد لم تعرفه تركيا ولا العالم الإسلامي من قبل. وهذه المرحلة شهدت إنتاج أفلام متواضعة من حيث العدد قياساً بالمرحلة السابقة، لكنها مرحلة تناولت موضوعات صوفية معاصرة وأثرها سياسياً واجتماعياً وتربوياً وفكرياً، منها: "الإمام" الذي مثّل نبوءة الصراع بين الأصالة والحداثة في السينما الدينية التركية، وصولاً إلى النقلة النوعية في السينما الصوفية وهو فيلم "تقوى" عام 2006م، الذي تناول منزلة الطرق الصوفية وجماعاتها في المجتمع التركي ودورها في الحياة الاجتماعية والسياسية والتربوية والاقتصادية.
أما على المستوى التاريخي فقد ظهر الفيلم الشهير "الاستماع إلى الناي" عام(2008م)، وهو قصة واقعية تروي الدور السياسي الذي لعبه المتصوفة العثمانيون في مواجهة المؤامرات الغربية التي تحاك ضد دولتهم عام (1798م)، إضافة إلى إنتاج فيلم "الإنسان الحر" عام 2011م، الذي جسّد شخصية سعيد النورسي صاحب رسائل النور الجماعة الأقوى في تركيا، وصولاً إلى فيلم "الأب الخبّاز" عام 2016م الذي تناول أفكار متصوف شهير عاش في القرن الثامن الهجري هو حميد أقصرايلي.
تميزت أفلام هذه المرحلة بتطور أدوات الإنتاج السينمائي في تناول الأفكار الصوفية نتيجة لدخول التيار الإسلامي على خط الإنتاج الفني بمختلف أشكاله الدرامية بعد إدراكه لأثر هذه القوة الناعمة وأهميتها ومكانتها في صياغة مشروعه الجديد كأنموذج ليس لتركيا فحسب، وإنما للعالم الإسلامي عامة.
التصوف والجماعات الطرقية الصوفية ليس تياراً طارئاً على الحياة التركية، بل هو متجذر تاريخياً منذ الدولة العثمانية التي شكل التصوف مرجعيتها الدينية والفكرية والاجتماعية،
التصوف والجماعات الطرقية الصوفية ليس تياراً طارئاً على الحياة التركية، بل هو متجذر تاريخياً منذ الدولة العثمانية التي شكل التصوف مرجعيتها الدينية والفكرية والاجتماعية، التي لم تستطع العلمانية الصُلبة بكل عنفها أن تقتلعه من صدور الأتراك، بل بقي كنزاً مخبوءاً يبحث بكل الوسائل عن الطريقة التي يعبر بها عن نفسه في الحياة التركية.
لا يعود تطور السينما الصوفية في تركيا إلى التقدم التقني العالمي الذي ترك أثره الكبير في المجال الفني والإعلامي عامة أو تراكم الخبرات الفنية والفكرية في هذا المجال فحسب، بل الأهم برأينا هو إدراك السلطة الحاكمة لدور الطرق الصوفية ومكانة جماعاتها في المجتمع التركي، وهو ما أدى إلى السماح لها قانونياً بتنظيم نفسها في جمعيات ومنظمات مجتمع مدني بطريقة رسمية لأداء واجباتها في المشاركة ببناء تركيا الجديدة، والنظر إليها بوصفها ركناً أساسياً في هذا المشروع النهضوي.
لا تبدو أهمية السينما الصوفية التركية في أنها شكلت تياراً فنياً خاصاً بها داخل تيارات السينما التركية المتنوعة، وهو التوجه الذي لا نجد له شبيهاً في السينما العربية مثلاً، بل تبدو أهميتها أيضاً في التعرف إلى مكانة التصوف والطرق الصوفية وجماعاتها المتعددة ودورها في بناء الحياة الدينية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية التركية، كما أن تحولات السينما الصوفية التركية تمثل انعكاساً لحالة تطور وعي الطرق والجماعات الصوفية التركية بنفسها، وهو الانتقال من الإبعاد والابتعاد عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والزهد فيها إلى المشاركة الفاعلة والعملية في ميادينها المختلفة.