icon
التغطية الحية

(المملكة الأخيرة).. التاريخ كما لو أنه إرث عائلي

2022.03.11 | 23:15 دمشق

almmlkt_alakhyrt-_tlfzywn_swrya.jpg
+A
حجم الخط
-A

لكل ثقافة وحضارة ودولة قصص كثيرة عن جذورها ومراحل تشكلها، وتختلف في هذه القصص المراجع، ويختلط فيها المنقول شفاهياً بالمنصوص كتابة، فيمتزج الحقيقي بالخيالي، وقد تمتد الحكايات والمرويات الشعبية حول شخصيات كان لها أدوار بارزة في زمن غابر، فتأخذ، مع مرور الزمن، شكلاً أقرب للأسطوري، وتكاد لا تخلو ثقافة من مثل هذه الشخصيات، ويكون لها أثر مهم في تعزيز صفات عامة لدى الجماعات اللاحقة من سلالتها بالدم أو الانتماء.

ولكن ما أثر ذلك في حياة الكاتب؟ فماذا لو وصل إلى نزار قباني، مثالاً، أنه سليل هارون الرشيد؟ أو إلى ممدوح عدوان أنه سليل جساس؟ أو وليد سيف أنه سليل المعتمد بن عباد؟ هل كنا سنقرأ شيئاً مختلفاً عند نزار؟ وهل كنا سنشاهد مسلسل الزير سالم أو ثلاثية الأندلس بشكل مختلف؟

وهذا يحدث بالفعل مع الروائي الإنكليزي برنارد كورنويل، المنتسب لعائلة أمه (كورنويل) بعد تركه لعائلة أبيه بالتبني (ويغنز)، وفي الأصل يعود إلى عائلة أبيه بالحقيقة (أوتريد)، وبعد أن يكتشف أنه سليل بطل ساكسوني أقرب للأسطوري اسمه أوتريد حاكم بيبنبرغ، يكتب ثلاث عشرة رواية تحت اسم (قصص الساكسون/ The Saxons stories) تتحدث عن نشأة إنجلترا منذ منتصف القرن التاسع الميلادي، ومن المعلوم أن نشأة الممالك الساكسونية بدأت قبل ذلك بقرابة الأربعة قرون، ولكن معالم الدولة الواحدة لم تبدأ إلا منذ القرن التاسع مع الملك (ألفريد العظيم)، وهو الوحيد من الملوك ذوي الأصل الإنجليزي الذي حظي بهذا اللقب، وعلى الرغم من أنه لم يحكم كامل إنكلترا، إلا أنه أسس لفكرة توحيدها بما يشبه الرؤية، فسار على نهجه ابنه إدوارد ومن بعده حفيده أثليستان الذي يعتبر أول ملك لكامل إنكلترا بممالكها (ويسكس، ميسريا، أنجليا الشرقية، نورثيمبريا...).

 

images.jpg
سلسلة (المملكة الأخيرة)

 

في ذلك الزمن عجت إنجلترا بـ الأنجلو-ساكسون، والفايكنغ، وبعد معارك دامية كثيرة بينهم وصلوا للتصالح التدريجي في دولة واحدة، حتى القرن الحادي عشر حيث وصل (كنوت) غازياً إلى سدة حكم إنجلترا، وهو ثاني دانماركي يحكم إنجلترا بعد أبيه سوين، وثاني ملك لإنجلترا يلقب بالعظيم بعد ألفريد، وصادف فترة (كنوت العظيم) وجود شخصية أقرب للأسطورية في نورثمبريا اسمه (أوتريد الجريء) الذي كان قد هزم الإسكوتلانديين في معركة تراجيدية كُتبت فيها القصائد واشتهرت عنها الأغاني، فيقتله كنوت، وأوتريد الذي اكتشف برنارد كورنويل انتسابه إليه، وإذ كانت غاية الكاتب التوثيق الروائي لنشوء إنجلترا فقد سحب شخصية جده أوتريد قرابة مئة عام قبل مولده الحقيقي، وبذلك يعاصر نشوء إنجلترا منذ (ألفريد العظيم) حتى حفيده (أثليستان)!

يفترض الكاتب أن أوتريد (الخيالي في الرواية) ذا العشر سنوات كان ابن حاكم قلعة بيبنبرغ، فيقتل الفايكنغ أباه ويأسرونه، بينما يسعى عمه الذي حكم القلعة إلى قتله لأنه الوريث الشرعي لأبيه، في حين يربيه الفايكنغ كولد لهم، وبذلك ينشأ (بقلب ساكسوني مؤمن ودم فايكنغ وثني يجري فيه)، وإذ يتحرى الروائي، فيما عدا شخصية أوتريد، الدقة ببناء الشخصيات وتسلسل الأحداث والوقائع، فإنه يؤسس لسمة مميزة وفضاء واسع يناقش من خلاله جملة من القيم والأفكار سادت في ذلك الوقت، كان من أهمها قضية الدين، حيث كان (ألفريد العظيم) وعائلته مؤمنين بالمسيحية لا كدين فقط بل كضرورة حتمية لتوحيد إنجلترا، بينما كان أوتريد الوثني ضرورة حتمية أيضاً لحماية وبناء إنجلترا، فهو الذي قاد الجيوش وحقق الانتصارات التي سجلها التاريخ باسم الملك، كما كان الشخصية المقبولة من قبل الساكسونيين والفايكنغ على حد سواء، وكان لذلك دور كبير في الحد من القتال بين الفريقين وفي اتفاقهما في النهاية، وفي الوقت الذي لم يستطع ألفريد تحمل فكرة أن الوثنية هي ذات الفضل الكبير على انتصاراته فقد أبعد أوتريد وشكك به دائماً وسجنه أحياناً وكاد أن يقتله في مرات عديدة، لكنه في النهاية لم يأتمن غيره على رعاية ابنه الذي سيرث العرش، وابنه بدوره ائتمنه على رعاية ابنه غير الشرعي أثليستان.

وكفلسفة عامة للكاتب في نظرته للتاريخ لا يربط فقط الأحداث ببعضها ضمن تسلسل منطقي، بل يربط بين الغايات أيضاً

وتناقش الرواية القدر والإرادة كنقيضين بوجهات نظر الأجيال المتلاحقة، وهذا يبدو بين الملوك وأبنائهم، وبين أوتريد وأبنائه، فابنه الذي أصبح راهباً ينتقد آراء أبيه الدينية وأن آلهته تسيره إلى ما تريد، وابنته الوثنية تأخذ عليه إهماله لأسرته انسياقاً لقدره المزعوم، بينما تبدأ فتيات القصر برفض قدرهن كأدوات في زيجات سياسية وإن كانت غايتها توحيد إنجلترا، ويدافعن عن رغباتهن وحبهن ولو كان لأشخاص من العامة.

وكفلسفة عامة للكاتب في نظرته للتاريخ لا يربط فقط الأحداث ببعضها ضمن تسلسل منطقي، بل يربط بين الغايات أيضاً، فلو لم تلتق غاية ألفريد المريض (رجح الأطباء أنه داء كرون وفقاً لوصف الأعراض في سيرته) مع غاية أوتريد باستعادة قلعته في بيبنبرغ لما توحدت إنكلترا، ولو لم يعان الساكسونيون والفايكنغ من المذابح الكبيرة بينهما لما انسجموا في النهاية ضمن دولة واحدة، ولعل في ذلك نظرة إيمانية على مبدأ (الخيرة فيما اختاره الله) ويقين بالقدر كحال جده أوتريد، على الرغم من أن الكاتب نشأ في عائلته للتبني وكانت صارمة التدين ما أدى إلى إلحاده في النهاية!

أفكار وقضايا كثيرة يمكن أن يجدها القارئ بين صفحات الرواية الطويلة جداً، كالجرأة والعدل والخوف والشجاعة والخيانة والمكر والتضحية، وهذا الخلط بين التاريخي والخيالي جذب الاهتمام التلفزيوني للرواية، فعرض أول موسم عام 2015 على شاشة BBC America، ثم عرضت المواسم التالية على شاشة نتفليكس ليُنشر جزؤها الخامس قبل أيام قليلة، بحيث غطى كل موسم تلفزيوني روايتين من السلسلة المكتوبة.

 وأخذت المواسم التلفزيونية جميعها اسم الرواية الأولى (المملكة الأخيرة/ The Last Kingdom) من الروايات الثلاثة عشر التي كانت، كما أسلفنا، تحت اسم (قصص السكسونيين)، وبالفعل فإن سلسلة عروضه التلفزيونية شيقة وتستحق المتابعة، وحازت درجات عالية في أشهر مواقع التقييم، إلا أنها كحال كل الأعمال المرئية المأخوذة عن أعمال مكتوبة لا تصل إلى روعة ودقة الوصف الروائي، كما أنها تحيد أحياناً عن شخصياتها بتكوينها النفسي والعاطفي والانفعالي، وكذلك الفكري، بحيث لا تتشابه مع الشخصيات التي يتصورها من يقرأ الرواية أولاً، وأيضاً فهي تضخم بعض التفاصيل الصغيرة في الرواية وتمر سريعاً على قضايا أو أحداث مفصلة فيها، ولعل ذلك يكون طبيعياً لاختلاف جوهري بين شروط المكتوب والمرئي وطرق الإثارة في كل منهما، وبين الزمن اللازم لتلقي كل منهما، ولعل الأعمال المرئية تحيد أحياناً حتى عن طبيعة العلاقات بين شخصيات الرواية لتأمين حبكة مرئية أكثر تماسكاً، لأن الرواية تعتمد على فنيات السرد والمكنون اللفظي والبناء اللغوي، دون إشراك الجسد أو الملامح التعبيرية، في إشخاص الانفعالات والعلاقات المعقدة بين الشخصيات المتناقضة.

لعل روبرت كورنيول انتصف لنفسه ولجده من جهة، لكنه من جهة أخرى ينتصف للمُغْفل حتى من هوامش التاريخ والمنسي في تكوينه الحقيقي، فليس يرى العظمة في من أصبحوا ملوكاً فقط، ولا الإنجاز لمن كان على رأس أول الدولة، بل في الذين صنعوا الملوك -إن صح التعبير- وفي الذين بنوا الدولة، ومن هذا المنطق قد يكون الجندي أهم بكثير من الملك، ويكون الضحايا في حروب أهلية طويلة الأمد أهم من النظريات والشعارات، والأهم من ذلك كله أن الدين حين لا يكون عامل انفتاح وتخاطب مع الآخر، وحين يحاول فرض نفسه على مجتمعات لها أديانها أيضاً يصبح عامل هدم أكيد، ولا يكون معه أي احتمال للبناء المديد.