جمعني القدر بأحد كبار المثقفين العرب في مهرجان ثقافي في مدينة ألمانية. ومن الشائع عن هذا النخبوي المتطلع دائما إلى جوائز عالمية ما زالت تتحاشاه، أنه يصف بالتطرف الديني كل شاردة وواردة في الحركات الاحتجاجية العربية مبرراً بالتالي لشخصه اتخاذ موقف الحياد عن الضرورة الإنسانية والأخلاقية لتأييدها كحركات تحرر شعبية من نير العسف والاستبداد. ومع ذلك، فقد ارتضيت أن أتردد في حسم الموقف منه ودعوت نفسي للاستفادة من فرصة هذا اللقاء غير المرغوب فيه، علّه يقنعني، عبر تفسيرات حداثية، له الباع الطويل فيها، على صحة موقفه. أو ربما، فقد يتمكن من أن يُصحّح موقفي منه فأعتدل في إدانة صمته أو بالأحرى عدائه. لكن الصدمة كانت مركبة، وبالتالي، فلن أستعرض إلا الجزء اليسير منها، والمتعلق بموضوعة هذا المقال.
صارت مثل هذه المقارنات شبه قاعدة عامة في أي نقاش وتلي أية دعوة لدى النخب ولدى العامة
في ذلك المهرجان، كنت سأعلق على فيلم "تدمر" التسجيلي للصديق الشهيد لقمان سليم والذي يتحدث عن معاناة مواطنين لبنانيين في هذا المعتقل السوري الأشهر من النار على الجسد. وتوجهت إلى مثقفنا الكبير أدعوه لحضور هذا العرض والنقاش الذي سيليه متيقناً بانعدام الحجة التي يمكن أن يختبئ وراءها أي إنسان، فما بالي بمثقف كبير مثله وصاحب همِّ إنساني كما يحلو له أن يقدم نفسه. وكانت الصدمة التي رافقت إجابته الأسرع من الصوت والتي خلت أنني سمعتها مشوّهة، وبالتالي غير دقيقة لتسمح لي استيضاح موقفه، فطلبت تكرارها. وكان محتواها الواضح يقول: ولماذا لا تعرض فيلماً عن معتقل غوانتانامو؟ ولماذا لا تعرض فيلماً عن سجن أبو غريب؟ فتراجعت شبه راكضٍ باتجاه الخواء الذي أتحفتني به هذه المقارنة. هي المقارنة الأسوأ بسبب حاملها، ولكنها بالتأكيد ليست الوحيدة، بل صارت مثل هذه المقارنات شبه قاعدة عامة في أي نقاش وتلي أية دعوة لدى النخب ولدى العامة. فما أجملهم يردمون الهوة التي تفصلهم تقليدياً بمثل هذا المشترك المسيء للعقل وللمنطق وللإنسانية.
في الشرق وفي الغرب توجد فئة من الناس تعتمد هذا المنهج، وهي لديها من المقارنات الجاهزة والمعلبة ما يكفي قروناً من النقاش. فإن أشرت في حديثك إلى الاحتباس الحراري وضرورة العمل على وقف التقهقر المناخي الذي سيفني العالم بأثره، سينبري أحدهم محتجاً على اختيارك لمسألة البيئة وعدم تطرقك إلى دور كارتيلات السلاح العالمية في زعزعة الاستقرار الدولي. وإن تطرقت إلى أحداث غزة والاعتداءات الصهيونية على شعب أعزل يخضع لاحتلال واستيطان وعنصرية، سيعترض محاورك، وهو يكاد أن يُشكّك في سويتك الأخلاقية، مستغرباً لإغفالك المتعمّد لأحداث اليمن. فأين كنت عندما تعرضت صنعاء للقصف الوحشي. فإن استبقت الأمور ونددت بما يحصل في اليمن التعيس، من المؤكد أنك تستفز آخر لن يحلو له مرورك مرور الكرام أمام مأساة جنوب السودان. وإن جال في خاطرك أن تؤيد في عبارة أو في موقف القضية النسوية، فسيُشهر أحدهم عبارته التي ستسألك عن غياب موقف واضح لك فيما يخص قضية السود في العالم العربي وما يتعرضون له من عنصرية. وفي الحالة العكسية، فلن تُعفيك مبادرتك للحديث عن ملفٍ جدلي مؤجل يتعلق بالعنصرية في البلدان العربية، من تلقي الصرخات التي تستنكر تجاهلك لحقوق المثليين إمعاناً منك في تعزيز هيمنة الفكر الذكوري المتحجّر. وهكذا دواليك.
إن ثقافة المقارنة المباشرة التي تسعى لإظهار ضعف ما يتبناه الآخر ورجاحة الاختيار الذاتي، أصبحت منتشرة بشدة في المجتمعات الحديثة عموماً والعربية منها خصوصاً
إنها متوالية هندسية تتفاقم تصاعداً مع رغبة فردية متضخمة للهروب من التوافق على مواقف مبدئية. كما أنها تدخل في البنية الشخصية التي تجد نفسها دائماً في موقف دفاعي تبريري تعبيراً عن عجزها في الانضمام إلى قضية عامة محقة خوفاً من تبعيات هذا الأمر السياسية أو الاقتصادية أو الدينية. كما يمكن أن تُترجم هذه المقارنات الجاهزة موقفاً عقائدياً يرى المشهد الإنساني العام من زاوية شديدة الحصر، والتي تختار مشجباً لتعليق الأوهام عليه متجاهلة ما تبقى.
إن ثقافة المقارنة المباشرة التي تسعى لإظهار ضعف ما يتبناه الآخر ورجاحة الاختيار الذاتي، أصبحت منتشرة بشدة في المجتمعات الحديثة عموماً والعربية منها خصوصاً. وهي لا تتعارض، بل تتكامل، مع كونها ثقافة تتجاوز الفرد لتصيب المؤسسات والدول. إذ إنه وبعد كل تقرير حقوقي مثلاً صادر عن مؤسسة دولية يخص دولة تنتهك حقوق مواطنيها سيكون هناك ردٌّ مباشر لممثلي الدولة المعنية بعيداً عن أي منطق تفسيري أو حتى تبريري. أنهم سيتخندقون فوراً في لعبة المقارنات لإدانة المؤسسة لمصدرة للتقرير لأنها تغافلت عن الإضاءة على إقدام دولة أخرى ـ يتم اختيارها عشوائياً ـ لقيامها بانتهاكات مماثلة.
لا يمكن للفرد أو للمؤسسة أو للدولة عند التطرق إلى حدث بعينه أن يبتعدوا عن التحديد. وإدانة انتهاك أو التنبيه على خطر ما أو رفض ممارسات بعينها، لا تحصر الفرد أو الجماعة في حيّز ضيق من الشأن العام إلا إذا كان هذا مستهدفاً بوضوح وقابلاً للتكرار. مع طعن سلمان رشدي وحملات التنديد التي تلته، خرج أفراد كُثُر كما جماعات للتنديد بهذا التنديد على أن قضية مختلفة تخصّهم سبق وأُهملت.
لكي تحظى القضايا المشروعة على مصداقية، يتحتم على أصحابها اعتبارها، على أهميتها، جزءاً من كل قضايا التحرر والحرية والعدالة.