لم تخرج انتخابات حزب البعث التي جرت منذ بضعة أيام عن سابقاتها، حيث لم تكن سوى انتخابات صورية ومعدة النتائج مسبقاً، ولا تمتّ بأي صلة إلى النزاهة أو الشفافية، وكررت مهزلة إعادة انتخاب بشار الأسد أميناً عاماً لهذا الحزب، في خطوة ما كان من الممكن تصور خلافها، كما لم يكن من داع لإجرائها سوى مناكفة أطراف في الخارج، ومحاولة الإيحاء بأن كل شيء على ما يرام في مناطق سيطرة الأسد.
لعل الجديد هو أن هذه الانتخابات جاءت في وقت يجري فيه الترويج لمحاولات تشي بأن النظام، وعلى الرغم من الأوضاع الكارثية في سوريا المقطعة الأوصال، ما يزال لديه متسع من الوقت كي يستمر في إصلاحاته، وذلك بالتزامن مع ما أشيع عن قيامه بخطوات لإعادة هيكلة أجهزته الأمنية، وما تحدثت به لونا الشبل، مستشارة بشار الأسد، عن أن الأخير أعطى توجيهات بالعمل على فصل حزب البعث عن السلطة، وإخراجه من مؤسسات الدولة ضمن قانون الأحزاب!
سبق أن تخلى البعث منذ سنوات عديدة عن خطابه العابر لحدود الدول العربية، وخاصة بعد أن ألغيت قيادته القومية، وتبدلت تسمية قيادته القطرية إلى القيادة المركزية
يذهب بعض المراقبين إلى اعتبار أن هذه الخطوات تدخل في ضمن مساعي نظام الأسد وحلفائه، من أجل المضي في محاولات تعزيز تعويمه عربياً ودولياً، لكن مثل هذه الاعتبارات لا تحدد الغاية من فصل البعث عن السلطة وسواها من الخطوات، بالنظر إلى أن طبيعة هذا النظام وسلوكياته تظهر، ومنذ سنوات مديدة سابقة، أنه لا يقوم بأي خطوات إصلاح داخلية بناء على مطالبات خارجية، إن لم تكن مقرونة بضغوطات فعلية وكافية، وتمارس من طرف قوى مؤثرة، فضلاً عن أن الأنظمة العربية التي طبّعت علاقاتها مع النظام لم تشترط عليه شيئاً من هذا القبيل، وكان تطبيعها مجانياً معه، ويتسق مع ما بذلته من مساع وجهود لإجهاض ثورات شعوب المنطقة، وينسجم مع متطلبات عملية إعادة اصطفافها الجيوسياسي على مستوى الإقليم والعالم، باقترابها أكثر من المحور الروسي الإيراني في المنطقة.
سبق لنظام الأسد أن اتخذ خطوات عديدة حيال وضعية وتركيبة حزب البعث في عام 2018، قضت بتحويله من حزب عروبي قومي، صاحب مقولة "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، إلى حزب عصبوي محلي، تقزّم وجوده ليس في الدول العربية، التي كان يوجد فيها صورياً وشكلانياً، إنما حتى في سوريا نفسها، وخاصة بعد الثورة السورية، حيث انفضّ عنه عناصره في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، واقتصر وجوده فقط في مناطق سيطرة النظام السوري. وسبق أن تخلى البعث منذ سنوات عديدة عن خطابه العابر لحدود الدول العربية، وخاصة بعد أن ألغيت قيادته القومية، وتبدلت تسمية قيادته القطرية إلى القيادة المركزية، وألغي كذلك منصب الأمين القطري المساعد، ليبقى فقط منصب الأمين العام، والأمين العام المساعد.
كشف واقع الحال أن هذا الحزب كان يمثل، بالنسبة إلى نظام الأسد، واجهة طيّعة للتستر على نهجه الطائفي، ولكل ممارسات القمع السياسي والاضطهاد، التي قام بها ضد السوريين.
تعود بداية التغييرات، التي ضربت هذا الحزب على مختلف المستويات التنظيمية والسياسية والاجتماعية، إلى لحظة اتخاذه مطيّة من طرف السلطة العسكرية الانقلابية التي حكمت باسمه منذ انقلاب الثامن من آذار عام 1963، ثم حوله النظام الديكتاتوري الذي بناه حافظ الأسد وورثه لابنه بشار، إلى حزب سلطوي مسيطر، حيث قام الأسد الأب بفرض دستور في عام 1973، نصّت مادته الثامنة على أن حزب البعث قائد للدولة والمجتمع، وحاول تسويق مقولة "الحزب ضمير الشعب وعقله" المزيفة، في حين كشف واقع الحال أن هذا الحزب كان يمثل، بالنسبة إلى نظام الأسد، واجهة طيّعة للتستر على نهجه الطائفي، ولكل ممارسات القمع السياسي والاضطهاد، التي قام بها ضد السوريين. ثم جرى إلغاء المادة الثامنة من الدستور مع بداية الثورة السورية عام 2011، لكن ذلك لم يغير في الأمر شيئاً، إذ استمر حزب البعث يتصرف وفق منطق المطية والواجهة للسلطة الديكتاتورية في مناطق سيطرة النظام، ويتصرف مسؤولوه وكأنهم ما يزالون أحد أركان السلطة الديكتاتورية.
لا شك في أن حزب البعث يتحمل، بأطروحاته وبممارسات السلطة التي حكمت باسمه، مسؤولية الإجحاف والقمع السياسي، الذي مورس بحق مختلف تكوينات ومركبات المجتمع السوري، وبحق الوطنية السورية، حيث تبنى هذا الحزب إيديولوجيا استبعادية، وزّع أصحابها تهم الخيانة والعمالة على كل مختلف بالرأي والتوجه، في حين أنتجت التسلطية الأسدية، منذ ثمانينيات القرن العشرين المنصرم، نمطاً من الإذعان، نهض على قوة من الضبط والمراقبة، رمزية ومادية، طاولت حتى حزب البعث نفسه، فلم يعد حزباً فاعلاً أو مؤثراً في قرارات السلطة الحاكمة وتوجهاتها، بل إن قيادته فقدت دورها القيادي، فلم تعد تقوم، بدءاً من التسعينيات، بدور الهيئة أو المطبخ السياسي، الذي يعتمد عليه النظام الأسدي.
لا يمتلك الكلام عن تجديد دور حزب البعث أي وجاهة، على الرغم من تشدق الأسد بعبارات لا يفهمها هو نفسه، حين يتعامى عن أن دور هذا الحزب تراجع كثيراً، بل وبات هامشياً منذ سنوات طويلة، وبالنسبة إلى فهمه المحدود، فإن "ما يجري ليس تراجعاً وإنما إعادة تموضع". طبعاً هو لا يعي أي وضع سيناط به للبعث، لذلك راح يتحدث عن "الخونة" و"الثيران"، واعتبر في طور هيجانه أن التموضع "يحمي الحزب من إشكالات العمل الإجرائي اليومي الذي تقوم به الحكومة، وبالتالي تحميل الحزب مسؤوليات لا يحملها"، وكأن هذا الحزب يحمل مسؤوليات ثقيلة في ظل ديكتاتورية نظامه. طبعاً ليست المرة الأولى التي يسوق فيها بشار الأسد كلمات لا يفهم معناها، ولا يعرف مبناها، فأية مسؤولية يتحملها البعث بعد أن استدعى قوى الاحتلال الروسي والإيراني كي تسانده في حربه على السوريين، من أجل بقائه جاثماً على صدورهم، وباتت جيوش خمس دول تحتل الأراضي السورية، وتتحكم بمصائر السوريين فيها.
المشكلة ليست في فصل حزب البعث عن سلطة نظام الأسد، بل في النظام نفسه، لذلك لن تغير خطوات نظام الأسد حيال هذا الحزب شيئاً مما يجري في مناطق سيطرته، لأن فصل الحزب عن السلطة أو إقالته لن تفضي إلى تغييره، بمعنى أنه لن يبدأ في التحول إلى تنظيم سياسي عادي في ظل نظام الأسد، ولعل الحل الناجع والوحيد هو رحيل هذا النظام، وتطبيق حل سياسي وفق قرارات الشرعية الأممية، بما يفضي إلى إتاحة الفرصة أمام السوريين القادرين على العمل الإيجابي والمشاركة في إعادة بناء الاجتماع السياسي في سوريا، وهو أمر مستبعد، للأسف، وفق كل المعطيات الراهنة.