المشاركة السياسية للمجنسين.. مُقاربات سوريّة في تركيا

2024.06.29 | 05:49 دمشق

آخر تحديث: 29.06.2024 | 05:49 دمشق

64555555555555555555
+A
حجم الخط
-A

لم ترتقِ تجربة المشاركة السياسة للمجنسين السوريين في تركيا، إلى المستوى المطلوب من حيث مستوى التفاعل مع الحياة السياسية، أي تبوّء مقاعد معينة في المنظومة السياسية على اختلاف أنماطها، وبقيت في حدود الاقتراع كحدٍ أقصى.

يعود ذلك لأسباب مركزية - سياسية أهمها؛ المرتبطة بالاستقطاب الأيديولوجي الحاد في البلاد على الصعيد القومي، إذ ما زال هناك تفسيرات متضاربة للمادة الثالثة من الدستور التركي (1982) حول شكل الهوية؛ بين من يعتقد أنّها ذات بعد قومي صلب، وفئات تراها ذات بعد وطني-حداثي "المواطنة"، ولعلّ أبرز ملامح هذا الصراع ينطبق على المواطنين الأتراك من خلفيات أيديولوجية متباينة.

لا يمكن اعتبار محدودية مشاركة السوريين "رقمية" فوفقاً للأرقام الرسمية؛ تحصّل أكثر من 238 ألف لاجئ سوري على الجنسية التركية، وفق آخر تصريحات وزارية من قبل وزير الداخلية علي يرلي كايا، في كانون الأول، 2023 وهي أعداد جيدة، لكنها من منظور الفعل السياسي ضعيفة/ أو منعدمة التأثير. كذلك، ليست "نوعية-نخبوية" فالمتخرجون من اختصاصات العلوم الإنسانية لم يكن لديهم حظوظ وفرص في المشاركة. مع أنَّ هذه الكتلة تُعتبر مُطّلعة بشكل مقبول على مفاصل الحياة السياسية. لكن لم يتولّد عندها الرغبة بالمشاركة على مستوى الأحزاب، وبقيت محصورة في التفكير داخل حدود الاقتراع/التصويت.

تركيبة الحياة السياسية التركية كعائقٍ أساسي

تحمل التكتلات السورية اللاجئة في تركيا انتماءات أيديولوجية مختلفة إذ تنقسم في المجمل بين الكتلتين المحافظة والليبرالية، بالمعنى الأيديولوجي المحلي وليس التياري وفق السياق التركي. ولدى الحياة السياسية التركية خصوصية وتركيبة استثنائية -إلى حدٍ ما- مرتبطة بأيديولوجية الدولة الثابتة لدى جميع الأحزاب لكنها تتراوح من حيث الاهتمام والأولوية بين اليسار واليمين.

فتعبّر الهوية "الكمالية" في الدولة عن انتماء محلي/ قومي خاص بالقومية التركية الحداثية ويمكن اعتبارها فرعاً من الطورانية الحداثية. لكن ليس بالمعنى القومي الواسع للمفهوم ولا سيما بعدما تشكلت الانتماءات المحلية بعد الحرب العالمية الأولى وانتقالها للحالة الديمقراطية كهوية بعد الحرب العالمية الثانية. بينما يرى المواطن السوري المجنس قلّة في الأحزاب التركية التي تمثل/ تحمل الأفكار التي يحملها، بالرغم من وجود ما يزيد عن 125 حزباً تركياً بينها على الأقل 26 حزباً خاضوا الاستحقاق الانتخابي، وفق هيئة الانتخابات العليا (Yüksek Seçim Kurulu).

لربما من التساؤلات المهمة أن حزب العدالة والتنمية (AK PARTI)، وحزب المستقبل (Gelecek PARTI) قد يحملان تقاطعات فكرية مقربة إلى حدٍ بعيد للتيار المحافظ، وقد يكون ذلك صحيحاً، لكنه يبقى هذا دافعاً فقط لفئة محددة أي الفئة المهتمة "المحافظة" للانخراط في تلك الأحزاب رغم أنّها في نهاية المطاف قد تمثّل بشكل أو بآخر هذه النوعية من التعقيدات الأيديولوجية.

من الصعب في مكان أن يكون هناك فرصة للمواطن السوري المجنس في ظل هذه التحديات القائمة للمشاركة الواسعة.

عند الإشارة للتيار الليبرالي، نرى وجود عدد جيد من الأحزاب القريبة من المدرسة الليبرالية لكن مع خصوصيتها، لعلّ أبرزها حزب الديمقراطية والتقدّم (Demokrasi ve Atılım Partisi) الذي يرأسه علي باباجان. مع ذلك، لا توجد تجربة سورية نوعية في تلك الأحزاب الليبرالية لأنّ فيها خلاصات محليّة أيديولوجية تطغى على الليبرالية. كما أنّها، مختلفة بشكل كبير عن تلك التي في البرلمان الأوروبي على سبيل المثال؛ حزب الخضر.

فضلاً عن أن بعض الأحزاب الكلاسيكية ترى الهوية التركية لها بعدٌ لا يُكتسب بالمواطنة الحديثة التي قد تمر أحد تمفصلاتها عبر اللجوء، وإنما حصراً بالسلالة كما يجادل أبرز الأحزاب التي تمثل التيار الكمالي حزب الشعب الجمهوري (Cumhuriyet Halk Partisi). هذه الرؤية نفسها يراها زكي الأرسوزي للقومية العربية الذي يُعدّ من المفكرين العرب البارزين الذين يرون أنّ الروابط العربية تقاس بالسلالة فقط وليس باللغة.

لذا، من الصعب في مكان أن يكون هناك فرصة للمواطن السوري المجنس في ظل هذه التحديات القائمة للمشاركة الواسعة مما يجعلها محدودة ومقتصرة على التيار المحافظ. في التوقيت ذاته يتضح أنّ إمكانية تشكيل أحزاب سياسية مستقبلية في حال ارتفع عدد المجنسين من المؤشرات الهامة للتحسن مما يعني وجود مداخل جديدة للمشاركة.

الاستقطاب السياسي الحاد: قلق وارتباك

يُشير مفهوم المشاركة السياسية إلى درجات مختلفة من الفاعلية، أي يمكن أن يكون حجم المشاركة في درجات متدنية مثل؛ متابعة الأخبار اليومية، أو المشاركة في التعبير عن بعض الآراء، أو حتّى التصويت. ينطبق على حالة المجنّس كنموذج، فاهتمامه لا يتجاوز هذه الإطارات، وذلك؛ بسبب الخوف من أيّة تداعيات قد يتعرض لها. سيما مع بروز مجموعة من التجارب السيئة التي لا تشجع كثيراً في رفع درجات الاهتمام. على سبيل المثال؛ كان هناك تجربتان مهمتان للمجنسين السوريين، في حزبي العدالة والتنمية، والمستقبل المحافظين. وفي الحديث عن تلك التجارب تبرز شخصية "محمد الشيخوني"، الذي كان صاحب أهم تجربة بالقياس مع الأهداف، أي الوصول إلى البرلمان التركي، وهو سوري يحمل الجنسية التركية وترشح في انتخابات العام (2018) عن ولاية بورصا.

لكن تعرّضه لهجوم كبير من قبل إعلام مرشح المعارضة "محرم إنجه" أدى لنتائج عكسية على حزبه في العدالة والتنمية وتجربة المشاركة السورية. فلم ينجح الشيخوني في تحقيق الأصوات بسبب صعوبة منح المواطن التركي صوتاً لمواطنٍ حصل على الجنسية "حديثاً". بينما، كانت تجربة "خالد خوجة"، رئيس الائتلاف الوطني المعارضة العام (2015)، لها سياق وإرهاصات مختلفة عن التجارب الأخرى. بعد انتقاله من الحياة السياسية السورية إلى التركية، وشكّل برفقة "أحمد دواد أوغلو"، وزير الخارجية التركية سابقاً حزب المستقبل (GELECEK PARTI) بعدما تعرّض الخوجة لهجومٍ كبيرٍ من قبل الإعلام التركي، وأحزاب المعارضة التركية، أضف أنّه لم يسلم من انتقادات وجهت له من قبل السوريين أنفسهم، على انخراطه في الفعل السياسي غير المحلي بعيداً عن سوريا والثورة السورية.

من المثير، أنّ كلا التجربتين، رُصد بهما؛ استبدال الأسماء من قبل صاحبيها. إذ قام محمد الشيخوني باستبداله إلى محمد أردوغان، بينما اكتشف أن اسم خالد خوجة هو ألبتكين هوجا أوغلو عند القدوم إلى تركيا. وهذه نقطة توّكد أكثر الانطباع السائد فيما يتعلق بالتمازج الثقافي أي مرتبطة بالهوية والخلفية الثقافية، وتدفع بعض المجنسين من خلال اعتقادات سائدة لتبني قناعة قائمة على ضرورة التقليل/ التخفيف من إرث الأصول الأساسية لما يشكله من أهمية لدى بعض الناخبين القوميين عند القيام بالإدلاء بصوته وهذا يعيدنا إلى التعقيدات الأيديولوجية، وقد رُصد تغيير عدد كبير من الأسماء لدى المجنسين حتى على مستوى اسم العائلة.

قانونياً، لا يضع القانون التركي أيّة هواجس أو عوائق أمام مشاركة المجنسين في الحياة السياسية بعد اكتساب حقوق المواطنة كاملةً.

تحديات وفرص مشاركة المجنسين في الحياة السياسية

ثمّة اعتقادٌ سائدٌ، بأنّ المشاركة في الحياة السياسية في تركيا -قد- تعني تقليل فرصة المشاركة في الحياة السياسية السورية، على الأقل في المستقبل. مما يعني وجود تضارب مصالح إقليمية إلى حدٍ ما، مع أن الاستحقاق السياسي والتوجه التركي الراهن بخصوص الملف السوري قد يدلل على العكس تماماً؛ سيما فيما يرتبط بعلاقة تركيا بالمعارضة السورية ودعمها لها؛ بمعنى آخر تلاقي المصالح وليس تضاربها. لكن هذا التخوّف يندرج ضمن إطار وجود ضبابية في مستقبل المشهد السياسي السوري، وارتباك أو قلق سوري من طبيعة التعامل التركي، مع ملف إعادة التواصل التقني مع نظام الأسد، الأمر المرتبط بمواقف سياسية ناجزة لدى المجنس أي تحيزات قيمية ضد الأسد، مع أن هذه التحوّلات من المفترض أن تُعطي دافعاً إضافياً للمشاركة لأجل ضمان الموقف التركي ذاته تجاه الثورة السورية.

قانونياً، لا يضع القانون التركي أيّة هواجس أو عوائق أمام مشاركة المجنسين في الحياة السياسية بعد اكتساب حقوق المواطنة كاملةً. ولكن يبقى هذا الخيار من خلال دراسة حجم المنافع والمخاطر بالنسبة لبعض المجنسين خارج سياق الحسابات الذاتية والمجتمعية. لكن الواقع الحزبي في تركيا خاصة لدى استخدام أحزاب سياسية تركية الملف السوري ككرت انتخابي يرفع حجم الشعور بالمخاطرة من المشاركة لدى المجنس السوري في تركيا خوفاً من تعرضه لأي استغلال أو استهداف عبر مواقع التواصل سيما من قبل أحزاب المعارضة.

بالتالي، لا يحظى خيار المشاركة باهتمام في خضم حالة الاستقطاب السياسي الكبيرة ضمن الحياة الحزبية، وتبني التحالف "الحكومي" سياسات الاحتواء كمحركٍ لهذا الملف وكنوع لضمان الاستقرار.

في المحصلة، إنَّ إمكانية تقّبل تنوع القيادات السياسية بمرونة كبيرة بين فئات الشعب التركي، منخفض بسبب طبيعة تشكّل ورسم المشهد السياسي-الحزبي على مدار القرن، عبر حزب "الشعب الجمهوري" لكنه ممكن وغير مستحيل لكنه يحتاج الجرأة والتنظيم والوقت والحاجة وفهم طبيعة الحياة السياسية التركية وتعلم اللغة واستخدامها بشكل جيد والأهم قراءة تاريخ الحياة السياسية التركية بعقلية السياسة.