في رواية (روبرت لويس ستيفنسون) الشهيرة تنقسم الشخصية الرئيسية إلى كيانين (الدكتور جيكل والسيد هايد). كلاهما يرجعان إلى الشخصية ذاتها، وتكون الغاية من انقسام الذات هنا هو التعبير عن الصراع في داخل الإنسان في داخل الشخصية الواحدة بين العقل والغريزة، بين العلم والعنف، فالدكتور جيكل ليس إلا الجانب العقلاني والواعي من مستر هايد الذي يمثل الجوانب المظلمة والغريزية في حياة الإنسان. ومن هنا، كلما لجأ الأدب والفن إلى هذا النوع الفانتازي من انقسام الذات الواحدة إلى كيانين، كان للتعبير عن موضوعات الأنا الذهنية، النفسية، والأسئلة المتعلقة بالهوية. وقد حضر هذا الشكل من الانقسام في أدب لويس بورخيس، فرناندو بيسوا، خوسيه ساراماغو، فواز حداد، وبول أوستر.
الذات المنقسمة بين الأنا والآخر
في عرضه بعنوان (مونولوج-استفقت)، يقدم المخرج (ساري مصطفى) محاولة مسرحية لتجسيد الذات المنقسمة إلى كيانين. وذلك عبر ظهور الشخصية الرئيسية على المسرح والتي تحمل اسم الرجل (تمثيل: جوني مهنا)، والذات الأخرى المنبثقة عنها، والتي تحمل اسم الظل (تمثيل: وسام أبو صعب). في البداية، تقف الشخصية الرئيسية أي الرجل في منتصف المسرح مقابلاً للجمهور، ومن ثم يظهر من خلفه حضور آخر، إنه الظل، أو الذات المنقسمة المستقلة، أو المخاطب الغائب، أو الأنا الأخرى. كل هذه الاحتمالات ممكنة بما أن هذا الكيان الخارج من الشخصية الرئيسية يلتزم الصمت طوال المسرحية، لا يتفوه بكلمة، مقتصراً في حضوره على الأفعال الجسدية والحركات الإيمائية.
المسرحية مقتبسة من نص (مونولوج، هارولد بنتر) والذي عرض للمرة الأولى في عام 1973. يكتب (بنتر) في العبارة الافتتاحية للنص: "رجل يجلس في كرسي وحده، يشير إلى كرسي آخر لا يجلس فيه أحد"، وهكذا يشرع الرجل في المسرحية في الحديث إلى حضور غير موجود، يخاطب غائباً بضمير الأنت الحاضرة، ويتجادل مع كيان متخيل لا يمكن الجزم بوجوده من عدمه. ربما يخاطب الرجل ذاته، فالمونولوج أشبه بالحوار الذاتي الذي لا يلبث أن يتعقد حين تبدأ مناحي التنافس، الحسد، الصراع، والتنافر والتجاذب بين الشخصية الرئيسية وبين الذات المنقسمة عنه: "أظن أنني سأذهب.. (مخاطباً الكرسي) لا تسألني إلى أين.. فذاك أكثر سؤال يصيبني بالجنون.. ما رأيك أنت إلى أين تود أن تذهب اليوم؟"، هكذا يبدأ الرجل بطرح الأسئلة ويشرع بمحاولات التواصل مع آخر غائب لكنه موجود في داخله، أو التواصل مع ذاته لكن المنفصلة عنه.
إذاً، يجسد المخرج الذات المنقسمة بحضور ممثلين على المسرح، بينما يختار النص مجموعة من الأفعال التي تتم على الخشبة توحي للمتلقي تارةً أنه أمام ذات واحدة منقسمة إلى ثنائي، أو أنه أمام ذاتين لكل منها استقلاليتها، مميزاتها، وخواصها. فيشرع الرجل الوحيد الموجود على المسرح إلى اللعب بالورق، والتدرب على التنس، وكلها ألعاب تتطلب مشاركة لاعبين. ويستعمل النص صيغة المخاطب في مونولوج الرجل ليوحي بوجود رجل آخر ينصت له أو يتواصل معه، والذي هو ليس إلا ذاته الباطنية نفسها: "أنت لم تنسني أنا؟ من كان أفضل رفيق لك، من كان أخلص رفيق لك؟ صحيح أنك عرّفتني بكل من أعرفهم، لا شك.. ولكن من الذي عرّفك؟؟، ببقية الشلّة؟ كنت أفضل صديق لك طول العمر، ومازلت على استعداد لإثبات ذلك"، يبني النص علاقة صداقة بين الرجل وبين الذات المنقسمة عنه للإيحاء باستقلال كل منهما عن الآخر.
الذات المنقسمة بين الماضي والحاضر
هل الحضور المتخيل من قبل الشخصية الرئيسية في المسرحية هو مجرد عذر لسرد الذكريات؟ لسرد الأفكار والهواجس الداخلية؟ هل ابتكر الرجل الحقيقي حضوراً خيالياً ليروي له عن ذاته، أم أنه يلامس عالم الجنون بالهذيان؟ يقول الرجل: "ما أحبه حقاً، بل وإلى أقصى حد ممكن، فهو هذا النوع من المحادثة، هذا النوع من التبادل، هذا النمط من استدعاء الذكريات المتبادلة". وبينما تسرد الشخصية ذكرياتها، حكاياتها، وأفكارها، يتحرك الممثل الظل على المسرح ليؤدي أفعالاً من الحكايات المروية من قبل الشخصية الرئيسية، أحياناً يقوم الظل بما كان يتمنى أن يقوم به الشخصية الرئيسية-الرواي في الماضي. يتألم الظل لآلام الشخص الأساسي. يلهو الظل وحيداً في بعض الأحيان. ويجسد دور الجلاد حين يقوم بتعذيب صاحبه.
رويداً رويداً يصعب على المتفرج الاكتشاف هل يتابع حكاية شخصيتين على المسرح؟ أم أنها ذات تكرر نفسها؟ ويبلغ هذا التيه أوّجه، حينما يبدأ حديث الرجل الشخصية الرئيسية عن الحب، فيبدو حيناً وكأنه حديث رجل يؤنب ذاته المستقلة عنه والمتمردة عليه في حكاية حب سابقة، أما في الأحيان الأخرى فيبدو وكأنه صراع بين رجلين على حب امرأة من الماضي، ويحافظ النص على قدرته على الإيحاء بالاحتمالين معاً: "سوف تقول الآن إنك كنت تحب روحها وأنا أحب جسدها. سوف تلقي بهذه النغمة القديمة في وجهي، أعرف أنك كنت أجمل بكثير مني، أقرب للتحليق في السماء، أعرف ذلك، وأسلّم لك به، أي أقرب إلى الطبع الأثيري، أو الفكري، وأشد مكراً ودهاءً، وأنا راسخ الأقدام في الواقع الملموس. لكن دعني أخبرك بشيء لم تعرفه: كانت تحب روحي كانت تعشق روحي. كانت تغني لي، تتحسسني، تشمني، تهزني، تبعثرني، أحبتني، أجل أحبتني أنا"، تتضمن العبارات السابقة احتمال تأنيب رجل عاشق لنفسه لضياع محبوبته، وكذلك يحتمل أن يكون عتباً أو لوماً لرجل آخر نافسه في علاقته العاطفية، في الحقيقة هو ليس إلا نظيره النقيض.
حين يعاتب أحدنا نفسه، فإنه يخاطبها بصيغة الآخر المخاطب، على هذه الحدود يغلب نص (هارولد بنتر) بين ما هو مونولوج داخلي، وبين ما هو خطاب موجه إلى ذات مستقلة، وخصوصاً حينما تتسم العبارات بنوع من المقارنة، التحدي، التهجم بين الذات التي تعودان إلى شخصية واحدة، فالعبارات التالية بإمكانها أن تكون تأنيباً داخلياً أو صراعاً غيرياً: "أنت لا تستطيع أن تكشف عما تقدر على فعله، عن مكامن متعتك عن مجال تميزك وحذقك، بل ولا تستطيع أبداً، لا تقدر أبداً، أن تقدم تقييماً محدداً، شاملاً للإمكانيات الطنانة لخلايا مخك! بل وكثيراً ما تتصرف، وسوف أكون صريحاً معك، كأنما أنت ميت". ينعت الرجل الذات المنقسمة عنه أو نفسه المستقلة عنه بالميتة، ويعلن عن شعوره بالشفقة تجاهها: "إني أشفق عليك، حتى لو لم تكن تشعر بشيء ولا تشفق عليّ. أنا أشفق عليك".
الذات المنقسمة بين الحياة والموت
يحضر الحدث السوري في المسرحية بسرد مبطن وغير مباشر، فالرجل يتحدث عن المكان الذي يدعوه "هناك". "هناك" حيث شارك في المظاهرات، لكن شعاراته سقطت أمام هول الرصاص والبنادق. لندرك أن الرجل الذي يتحدث إلينا طوال المسرحية ليس إلا ميت، لقد سقط مرمياً بالرصاص أثناء التظاهر، إن المسرحية تقدمه لنا منذ البداية حين استيقاظه في العالم الآخر، عالم الموت بمقابل "هناك" أي عالم الحياة، يقول الرجل: "الوقت هنا هباء، عذراً منكم ومن هبائكم، فأنا لا أعرف ما أقوله هنا، ولا أعرف بما أفكر به هنا، ولا يعنيني أي شيء هنا، كل ما يهمني وما يشغلني، هنــــاك. وأحتقر نفسي لأني هنا ولست هناك، لربما هربت، لكن ليس من الموت، ليس من الموت. فالموت ظل يحملني وأحمله ولا شك لي بذلك، لكنني هربت مما رأيت، وأنا ما زلت هنا وهناك، أجزاء مبعثرة من كلي، وأنا لا أملك جزءاً من شيء". لندرك أننا أمام شخص ميت، كان يروي طوال المسرحية عن ماضيه، عن مغامراته العاطفية والسياسية، عن علاقاته الاجتماعية وذكرياته الحميمية. فالعبارة الافتتاحية في المسرحية تأخذ معناها في نهايتها: "لقد استفقت، استفقت" إنه الوعي ما بعد الموت. وفي المشهد الأخير يدخل الرجل-الشخصية الرئيسية رويداً رويداً في قبر منصوب في منتصف عتمة المسرح، وهو يردد العبارة الافتتاحية نفسها: "استفقت، وأنا الآن لست هنا"، وتعتم الإضاءة كلياً عن الخشبة، ليصدح غناء بأبيات من الرثاء، على إيقاعها تعود الإضاءة تدريجياً، ويخرج من القبر الشخصية-الظل، يمشي إلى منتصف المسرح ويقف قبالة الجمهور. يزيل المكياج تدريجياً على وجهه، ويكتسب الملامح الإنسانية. لقد استقل الظل بعد غياب الأصل، أو لم يكن الظل إلى الروح الحقيقة للأصل، بينهما تداخل لعبة الحياة والموت. جاء في البيان التعريفي المرافق للعرض: "بين الواقع والخيال والحياة والموت، يعيش كل أفكاره وتجاربه ليكون ذاته، ليرسم خطاً بيانيا لديمومة تدعى الانسان، فيبقى الحلم والأمل هاجساً له ويبقى الموت حقيقة الحياة.. علينا أن نحيا كما نحن نشاء".
الذات المنقسمة بين الحلم والواقع
إذا نجح عرض (مونولوج استفقت) في التعبير عن موضوعة انقسام الذات بين الأنا والآخر، بين الحياة والموت، بين الماضي والحاضر، وذلك عبر تجسيد ممثل لشخصية الذات وممثل آخر للذات المنقسمة والمستقلة عنها، فكيف يمكن التعبير عن ذلك من خلال الرواية؟ لقد اهتمت أعمال الكاتب الإيرلندي (صموئيل بيكيت) في تحقيق مجموعة من التنويعات الروائية والقصصية على هذه الموضوعة. روايته (مولوي) تعتبر مثالاً نموذجياً عن إمكانيات الرواية في التعبير عن الذات المتشظية أو المفككة. قدمتها دار نشر (مينيوي) الفرنسية التي نشرت الرواية لأول مرة بالعبارات التالية: "إن الدخول في روايات بيكيت، يشبه العبور عبر الطبقات الدائرية التي يرسم فيها دانتي الطريق بين الجنة والجحيم في كتاب الكوميديا الإلهية. فالرواية تتألف من فصلين الأول يرويه (مولوي)، والثاني يرويه (موران)، لكن القارئ لا يلبث أن يكتشف إمكانية أن يكون الفصل الأول والثاني كلاهما حلماً أو رؤيةً عن بعضهما البعض. وكأن كلا من الشخصيتين (مولوي وموران) هي حلم أو فكرة في ذهن شخصية الآخر".
في الفصل الأول يكون الرواي هو (مولوي) يروي عن نفسه للقارئ، لكن الكلمات والأفكار تعجز عن تقديم أية معلومة يرغب الراوي في إيصالها إلى القارئ، فكلما حاول الراوي تقديم معلومة تظهر غير متكاملة للقارئ. إن طريقة (مولوي) في روي نفسه أو تقديم حكايته تؤكد عجز الذات في التعبير عن نفسها عبر اللغة. فالراوي (مولوي) يقع في إشكالية الهوة التي تفصل بين أفكاره والتعابير اللغوية عنها، بين ذاته الباطنية وبين ذاته التي يرغب أن يصدرها للآخرين. كلما حاول التعريف عن ذاته عبر اللغة اكتشف عجزها، أو استحالة الإمساك بالمفردات القادرة على توصيفها، إن (مولوي) منقسم بين ذات موجودة في ذهنه، وذات تفلت منه في تعابير اللغة وفي منظور الآخر، الذي هو القارئ.
أما الفصل الثاني فهو عبارة عن تقرير تكتبه الشخصية الجديدة، وهي شخصية المحقق الخاص (موران)، الذي يتلقى اتصالاً يُطلب منه فيه أن يتتبع حياة (مولوي)، أي شخصية الفصل الأول. أي أن شخصية الفصل الثاني تنطلق في رحلة البحث عن الشخصية التي قرأنا قصتها في الفصل الأول. حين ينطلق (موران) في مهمته يكون بكامل قدراته الذهنية والجسدية، ومفعماً بالثقة. لكن رويداً رويداً، ما تلبث أن تتغير حالته بعمق، وتتدهور على كل الأصعدة. شيئاً شيئاً سيتحول (موران) إلى ما كانت عليه حالة (مولوي). يصبح المتتبع شبيهاً تماماً بمن يتتبعه، يصبحان متماثلين كأنهما شخص واحد. كأن كل منهما يتابع رسم الأدراج والسلالم التي تكمل ما يخرج من ذات الآخر. كل منهما يخرج في رحلة بحث عن شخص آخر، ليكتشف أنه في رحلة البحث عن الذات. فتصبح بذلك البدايات لا نهائية لدرجة أنها تفقد قيمتها، البدايات اللانهائية هي المراوحة في المكان، إن الرواية ببساطة تؤكد استحالة البحث عن الذات.
الذات المنقسمة بين الفكرة والتعبير
هذه التيمة ترافق كل أعمال (صمويل بيكيت) المسرحية والأدبية، إنها الفجوة القائمة بين الفكرة واللغة، وصعوبة التواصل بين الأنا والآخر. يشرع (مولوي) مراراً وتكرارً في التعريف عن نفسه، لكن اللغة تعانده في كل مرة. فكلما قدم معلومة عن نفسه زاد شك القارئ بمصداقيتها، وبالتالي لا يثق القارئ من أي من المعلومات التي يقدمها الراوي عن نفسه، حتى اسمه، فهو بعد أن يقول إن اسمه (مولوي) يؤكد أنه قد تذكره للتو، ولم يكن في ذهنه قبلاً. هكذا يقدم لنا السرد بين الفينة والأخرى معلومة، ليعيد التشكيك فيها مع تقدم النص: "مولوي، اسمي مولوي، الآن عاد إلى ذهني بوضوح، أكتبه على الورقة. لا أعلم الكثير عني، مثلاً موت أمي، هل وقع فعلاً حين بدأت أروي لكم، أم أنه لم يقع بعد؟"، الغاية من هذا السرد هو التشكيك بقدرة اللغة في التعبير عن الذات. إن التواصل وسرد الذات إلى الآخر، أو التواصل عبر اللغة، أمر مستحيل.
في الفصل الأول (مولوي) مغلق ومنعزل، وهو مدرك لهذا الانغلاق، فهو يصرح بوضوح أنه يرى هذا العالم بطريقة شكلانية. مما يوحي بانفصال شخصية (مولوي) عن العالم. وفي الفصل الثاني، حين يأتي المحقق (موران) للبحث عن (مولوي) يتحولان إلى الشخص نفسه، يصبح التقارب بينهما تأكيداً على شكلانية العالم. وفي نهاية الرواية يصبح المحقق (موران) سارداً كما كان (مولوي) يسرد في البداية، هو في غرفة وحيد، يجهل أين هو؟. في هذه الرواية، تبحث الشخصية في الفصل الأول (مولوي) عن ذاتها، لتأتي شخصية الفصل الثاني (موران) وتبحث عن الشخصية الأولى، إنها دائرة الذات المنقسمة، المتشظية التي تبحث عن نفسها من خلال فصلي الرواية. إن شخصية الفصل الأول (مولوي) هي حلم أو فكرة في ذهن شخصية الفصل الثاني، أما شخصية الفصل الثاني (موران) هي ليست إلا نبوءة أو الذات المنتظرة القادمة في المستقبل لشخصية الفصل الأول (مولوي)، إنها دائرة البحث عن الآخر للوصول إلى الذات، أو هي دائرة الانقسام بين الأنا والآخر، بين الحاضر والغائب، بين الوجود الماضي والوجود الراهن. (موران) ينطلق للبحث وتعقب (مولوي)، فيتحول إلى شخصيته-ذاته، أو يكونهما منذ البداية.
الذات المنقسمة بين الوجود والعدم
حين صدور رواية (مولوي)، كتب عنها الناقد (جان جاك مارشاند) بأنها أكثر الأعمال الأدبية الواعدة في التاريخ المعاصر منذ رواية (الغثيان، لجان بول سارتر): "إن المبدأ الأساسي في هذه الرواية بسيط جداً، إنها رحلة البحث عن الذات التي بدأها بيكيت منذ أعماله المبكرة. إن البحث عن الحقيقة يصبح في أعمال بيكيت متساوياً في البحث عن العدم. الحقيقة واللا شيء متساويان. لقد عبر بيكيت مراراً ودائماً أننا لن نتمكن من التيقن من شيء على الإطلاق، وأنه يمكن لنا فقط التحدث عن أنفسنا، في هذه الرواية يبين استحالة ذلك".
في عام 1931، نشر (بيكيت) كتاباً صغيراً عن الروائي الفرنسي (مارسيل بروست)، يبرهن (بيكيت) في هذه الدراسة الصغيرة أن المؤلف الأدبي الضخم (البحث عن الزمن المفقود، 8 أجزاء، مارسيل بروست)، كانت غايته الأساسية هي البحث عن الذات. وهذا ما يطبقه على روايته الحالية، إن كلاً من (مولوي) و(موران) شخصيتا الرواية ينطلقان للبحث عن الآخر، لكن مصيرهما يتماثل خلال هذه الرحلة، ليصلا إلى اكتشاف حول الذات في أنهما ذات واحدة في فصلين روائيين، أو ذاتين مستقلتين تتحدان بين صفحات رواية.
في كتابه (بيكيت وحضور الأدب)، يصف المؤلف (جيرار ديروزوا) تجربة قراءة هذه الرواية: "يصل التشابه بين فصلي الرواية، حداً يجعلنا نتساءل إذا لم يكن (موران) يمثل في الحقيقة ماضي (مولوي) البعيد. وإن كان هذا يبدو غير معقول فإن القصة في هذه الرواية غير مهمة. إنها رواية حيث السارد يخبر القارئ عن إمكانية أن تكون قصته غير صحيحة. إن مغزى الرحلة كلها هو العودة إلى الذات التي ينبغي التفكير بها، وبالتالي لن يكون لصحة القصة أو عدم صحتها من أهمية، شرط أن تشير إلى الحدث ذي الأهمية الجوهرية، أي رحلة الإفقار". أما الناقد وأستاذ السوربون (جون جاك مايو)، فكتب عن رواية (مولوي): "رواية ساخرة وهزلية، تنشأ فيها السخرية من التعارض المستمر بين الكلمات وبين القيم التي تعبر عنها. إنه مصير تراجيدي مروي بسخرية".
تقدم لنا مسرحية (مونولوج-استفقت) ذاتاً منقسمة بين الأنا والآخر، بين الماضي والحاضر، بين الحياة والموت، بينما تقدم لنا رواية (مولوي) ذاتاً منقسمة بين الوجود والعدم، بين الفكرة والتعبير، بين الاعتقاد والواقع.