تحت شعار "التجديد والبناء"، أُقيمت مؤخراً انتخابات حزب البعث في سوريا، مسدلةً الضوء على توجهات النظام السوري القادمة.
ولكن خلف ستار الديمقراطية المزعومة، يُخفي المشهد واقعاً مُراً: تعزيز قبضة بشار الأسد على السلطة عبر "علونة" الحزب، وتجاهل واضح لآلام ومعاناة الشعب السوري الذي أنهكته الحرب والفساد والفقر.
يحاول النظام عبر هذه الانتخابات إظهار صورة حزب حيّ ونشط، تُضخ فيه دماء جديدة، ويُشارك في رسم سياسات الدولة. إلا أن الواقع يُظهر أن السلطة الحقيقية في سوريا تكمن في الأجهزة الأمنية والعسكرية، وأن حزب البعث مجرد واجهة لتمرير القرارات وتلميع صورة النظام.
كلمة بشار الأسد خلال الانتخابات، والتي ركزت على "الكادحين" وإعجاب واضح بالنظام الصيني، تُشير إلى توجه نحو مزيد من المركزية والشمولية في الحكم، وتجاهل واضح للحاجة إلى تنمية مستدامة وتحسين مستوى معيشة جميع السوريين.
اللافت في هذه الانتخابات هو التركيز على سياسة "علونة" الحزب، والتي تظهر بوضوح في التشكيلة الجديدة للجنة المركزية. فزيادة نسبة العلويين ومنح مقاعد إضافية لمدن الساحل ذات الأغلبية العلوية على حساب مدن مركزية كحلب ودمشق، يُظهر بوضوح توجه بشار نحو تعزيز قبضته على السلطة عبر الاعتماد على الولاءات الطائفية.
هذا النهج، والذي يُشابه ما حدث في الجيش السوري وفق دراسة لمركز عمران للدراسات، يُضعف المؤسسات ويُحولها إلى أدوات طائفية تخدم مصالح فئة محددة على حساب الوطن.
اللافت أيضاً هو التناقض الصارخ بين ادعاءات النظام بأن حزب البعث حزب عقائدي يسعى للعدالة الاجتماعية، وبين واقع الحال الذي يُظهر أن قيادته الجديدة تتكون من تجار حرب، وقادة ميليشيات طائفية، وضباط أمن ومخابرات متورطين في جرائم حرب، وقضاة تستروا على انتهاكات الدستور والقانون. هؤلاء جميعاً شاركوا في تدمير سوريا ونهب ثرواتها، وساهموا في تغيير ديموغرافي يخدم المشروع الإيراني ويُعزز حكم الأقليات.
حديث النظام عن فصل الحزب عن الدولة يبدو مجرد ذر للرماد في العيون، ومحاولة يائسة لامتصاص غضب الشارع السوري الذي يُطالب بإصلاحات سياسية حقيقية.
فحزب البعث هو الغطاء السياسي للطغمة الحاكمة، و"فصله" عن الدولة يعني تفكيك النظام بالكامل، وهو ما لن يسمح به بشار الأسد الذي يصر على استمرار المهزلة وإغلاق الباب أمام أي تغيير ديمقراطي، مُخيراً السوريين بين القبول بالواقع أو الهجرة.
إن "علونة" حزب البعث ليست ضمانة لبشار الأسد، بل هي وصفة لتعميق الانقسامات الطائفية وتأجيج الصراع.
هذا النهج يُقصي شريحة واسعة من السوريين ويُحولهم إلى معارضين للنظام، مما يزيد من احتمالية تجدد الصراع. سوريا بحاجة إلى نظام جامع يُمثل جميع مكونات الشعب ويضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، لا إلى نظام طائفي يُقصي ويُهمش ويُعمّق الجراح.
حزب البعث هو الغطاء السياسي للطغمة الحاكمة، و"فصله" عن الدولة يعني تفكيك النظام بالكامل.
ومن يتابع مجريات الأحداث يرى بأن الإصلاح غائبٌ عن قاموس بشار الأسد ونظامه. ففي بداية الثورة السورية، طالبت الجماهير بالحرية والإصلاح، قبل أن تطرح مبادرة الجامعة العربية الثانية في يناير 2012، التي نصت على:
● تشكيل حكومة وحدة وطنية سورية خلال شهرين.
● منح النظام السوري مهلة للحوار السياسي مع المعارضة.
● تفويض نائب الرئيس للتفاوض مع المعارضة.
● إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة.
● سحب جميع القوات العسكرية من المدن.
لكن بشار الأسد رفض المبادرة، معتبراً أن الإصلاح يُشكل تهديداً للنظام، وكاشفاً للصندوق الأسود لفساده منذ انقلابه عام 1970. وعزّز سيطرته من خلال إقصاء معارضيه خارج مناطقه، وخلق مجتمع متجانس، كما ادعى الأسد. فمن سيتجرأ على المطالبة بإصلاح الحزب أو النظام؟ إنّ مؤتمر الحزب ضمّ فقط من لديهم مصالح مع النظام وغارقين بالفساد، قد اعتادوا على الذل والهوان.
وسبق أن عقد النظام السوري وبرعاية رئيس النظام بشار الأسد، عدداً من المؤتمرات القطرية منذ استلامه السلطة.
لكن ومع مرور الأيام والسنوات لم ينفذ النظام ما وعد به، إنما ما جرى مجرد عملية دعائية لحزب البعث واستمرار تصديره كقائد للدولة والمجتمع إضافة إلى محاولاته تجميل صورته بإصلاحات شكلية لا تمس جوهر المشكلة.
وفي عام 2012، ألغى النظام السوري المادة الثامنة من الدستور التي تنص على قيادة حزب البعث للدولة والمجتمع. وكان هذا الإجراء محاولة للتغطية على مطالب الثورة وإيهام الناس بإصلاحات حقيقية، لكنه لم يكن مقنعاً لأحد، فالجميع يعلم أن المشكلة ليست في الدستور بل في السلطة التنفيذية التي تتصرف كأنها فوق الدستور والقانون.
وفي عام 2018، تم إلغاء القيادة القومية للحزب وتغيير اسم القيادة القطرية إلى القيادة المركزية. وفي عام 2024، ركز بشار الأسد في حديثه أمام مؤتمر الحزب على إعادة تموضع الحزب وإعادة صياغة فكره وهيكله التنظيمي.
أصبح الولاء للسلطة هو المعيار الأساسي لعضوية وأنصار الحزب، بدلاً من الإخلاص للفكر أو القيم الحزبية، كما حلّت مصلحة الاستفادة من مزايا الانتماء للحزب محلّ القناعة بالأفكار والمبادئ.
وعلى الرغم من عدم جدوى الإصلاحات الدستورية، واصل النظام الترويج لخطاب إعلامي يوحي بوجود مساعٍ حقيقية لإصلاح حزب البعث. وكمثال على ذلك، التغطية الإعلامية المكثفة لانتخابات اللجنة المركزية للحزب، ولقاء بشار الأسد مع اللجنة التحضيرية للانتخابات وتوجيهاته بإجراء انتخابات شفافة ونزيهة.
وكان اللافت للانتباه، أن التركيز الإعلامي على انتخابات حزبية شكلية بات يثير تساؤلات حول جدواها، فالجميع يعلم أنها لن تغير شيئاً في واقع استفراد حزب البعث بالسلطة وقمعه للمجتمع السوري.
وفي السياق ذاته، يستنتج مركز حرمون للدراسات، أن حزب البعث يهيمن على الحكم في سوريا منذ عام 1963، مما أدى إلى اندماجه المطلق مع السلطة التنفيذية. نتيجة لذلك، فقد تفكّك محتواه الفكري والأيديولوجي تدريجياً.
فقد أصبح الولاء للسلطة هو المعيار الأساسي لعضوية وأنصار الحزب، بدلاً من الإخلاص للفكر أو القيم الحزبية، كما حلّت مصلحة الاستفادة من مزايا الانتماء للحزب محلّ القناعة بالأفكار والمبادئ.
يُظهر هذا الافتقار إلى القيم الراسخة أنّ فقدان السلطة يُمثل انهياراً تاماً لأسس وجود هذا الحزب. وبالتالي، فإنّ أي محاولة لإصلاحه حقيقة ستكون مستحيلة ما دامت بنية السلطة ذاتها تُرسخ بذور هذه الاستحالة.
ومن هنا، وفي ظل هذه التطورات يبدو مستقبل سوريا والسوريين قاتماً، فالنظام يُصر على الاستمرار في نهجه القمعي، غير آبهٍ بمعاناة الشعب وتطلعاته. كما يصر على تعميق الانقسامات الطائفية وعلى استمرار الأزمة الاقتصادية في تجاهل تام للحاجة إلى إصلاحات اقتصادية حقيقية.
إن إصرار النظام على نهجه الحالي سيُبقيه في عزلة دولية، ويُعيق عملية إعادة إعمار سوريا. وبالتالي فإن سوريا اليوم أمام خيارين: إما الاستمرار في دوامة العنف والقمع والفقر، أو التحرك نحو دولة ديمقراطية تُحقق العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية لجميع السوريين. الخيار بيد الشعب السوري، ولكن الوقت يمضي، والتحديات تزداد تعقيداً.
وبالعودة إلى انتخابات حزب البعث الأخيرة، نرى بأنها ليست سوى فصل جديد من مسرحية عبثية طويلة، تُظهر بوضوح أن النظام السوري غير معني بالإصلاح أو التغيير. سوريا اليوم تقف على مفترق طرق، فإما أن تتحرك نحو دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية، أو تنزلق نحو مزيد من الانغلاق والطائفية والصراع. الخيار بيد السوريين أنفسهم، فهل سيُدركون خطورة المرحلة ويتحركون قبل فوات الأوان؟