وجهة نظر حول "المصالحة السورية".. ما إمكانية تحقيقها في المستقبل؟

2024.11.22 | 02:27 دمشق

آخر تحديث: 22.11.2024 | 02:27 دمشق

5444444444
+A
حجم الخط
-A

في ظل النزاعات العسكرية الداخلية التي شهدتها سوريا منذ عام 2011، تبرز المصالحة كأحد أهم أهداف العدالة الانتقالية. هذا ما تحدث عنه مركز حرمون في دراسة حديثة أصدرها، تسلط الضوء على تصورات السوريين حول المصالحة المستقبلية، مما يفتح الباب أمام نقاشات موسعة حول دور المصالحة في بناء السلام وتعزيز الاستقرار في سوريا، وما إذا كانت المصالحة سهلة التحقيق في ظل ظروف وتحديات عديدة تلقي بظلالها على المشهد السوري.

بيّنت الدراسة أن هناك عينة كبيرة من السوريين ترغب في تحقيق مصالحة شاملة تضمن بناء السلام المجتمعي ومحاكمة مرتكبي الجرائم.

استندت هذه الرغبة إلى نماذج تاريخية مثل تجربة يوغسلافيا ومحاكمات نورمبيرغ، مما يعكس تطلع السوريين إلى عدالة شاملة وإنصاف الضحايا، إضافة إلى رغبتهم الحقيقية في تحقيق مصالحة شاملة، مما يعزز الأمل في مستقبل أفضل لسوريا.

بالتأكيد، تعتبر المصالحة وسيلة حتمية لتحقيق السلام في الدول التي عانت من نزاعات داخلية. في الحالة السورية، تأتي المصالحة كضرورة ملحّة بعد سنوات من الحرب وعدم الاستقرار، إذ تهدف المصالحة إلى معالجة الجروح المجتمعية ومحاكمة مرتكبي الجرائم وإنصاف الضحايا، مما يساهم في تهدئة النفوس وبناء مجتمع متماسك.

لكنّ جهود المصالحة في سوريا تواجه تحديات عديدة، منها الانقسامات الطائفية والسياسية، وغياب الثقة بين الأطراف المتنازعة. مع ذلك، فإن وجود رغبة قوية لدى السوريين في تحقيق المصالحة يشكل دافعًا قويًا لتجاوز هذه التحديات.

ومع أن المصالحة السورية تعد خطوة ضرورية لبناء مستقبل مستقر وآمن، إلا أن تحقيقها يتطلب تضافر جهود جميع الفاعلين المعنيين والعمل على تهيئة بيئة تضمن العدالة والإنصاف للجميع.

هنا يمكن لمجموعة من الفاعلين الرئيسيين لعب دور أساسي في إدارة جهود المصالحة، منهم زعماء العشائر، القادة الروحيون، منظمات المجتمع المدني، الأكاديميون، الإعلاميون، والمؤسسات القانونية والقضائية، إضافة إلى دور الفاعلين الثانويين مثل المؤسسات العسكرية والأمنية، الأحزاب السياسية، والمنظمات النسوية.

وفي خضم التحديات المعقدة التي تواجه سوريا بعد أربعة عشر عامًا من الحرب، برزت مجموعة من القضايا الحيوية التي تشكل جوهر عملية المصالحة الوطنية. تتمحور هذه المصالحة حول مجموعة من الأهداف الأساسية التي تسعى لتحقيق العدالة وإعادة بناء النسيج الاجتماعي الممزق.

إنّ أساس الظلم في سوريا بشار الأسد ونظامه المجرم. فإن زالا، فلا خلاف في ابتداء عملية مصالحات كبرى تشهدها المنطقة والتاريخ.

في المقام الأول، تأتي الحاجة الملحة لمحاكمة مرتكبي الجرائم ومنتهكي حقوق الإنسان، مع التركيز على إنصاف الضحايا وإطلاق سراح المعتقلين وتسهيل عودة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم. فالشعب السوري، المنهك من سنوات الصراع الطويلة، يتوق بشدة إلى تحقيق السلام المجتمعي.

وتتجلى التحديات الرئيسية في عدة محاور رئيسية: أولها التغييرات الديموغرافية التي نفذتها إيران في مناطق النظام، حيث تبلورت أربع جغرافيات رئيسية - وربما خامسة للدروز - كل منها تمتلك "دولة عميقة" تسيطر على مفاصل منطقتها. يكمن الخطر الأكبر في احتمال تحول هذه المناطق إلى كانتونات منعزلة.

المخاوف الأخرى تتمحور حول احتمال اندلاع حرب أهلية، خاصة في ظل الأحقاد العميقة وبسبب المعتقلين في السجون. يُضاف إلى ذلك التحذير من عواقب الحل السياسي غير المتوازن الذي قد يعيد السلطة للنظام دون مراعاة مصالح مختلف المكونات.

من المهم جدًا تطبيق القرارات الدولية، وخاصة القرار 2254، وتشكيل هيئة حكم انتقالي. إضافة إلى ذلك، تُعد التعويضات المادية والمعنوية للمتضررين خطوة أساسية لإطفاء نيران الحقد والانتقام.

من التوصيات الجوهرية اللازمة أيضًا في أي عملية مصالحة قادمة هي ضرورة خروج القوات الأجنبية والميليشيات الإيرانية من سوريا، مع التركيز على المعالجة الشاملة التي لا تقتصر على العوامل المحلية، بل يجب التعامل مع الملفات الاستراتيجية الحساسة كالمعتقلين والتغيير الديموغرافي واحتمالات التقسيم.

بالعودة إلى دراسة مركز حرمون حول "تصورات السوريين عن المصالحة السورية في المستقبل"، لا بدّ من التأكيد على أن الإنسان مفطور على حب الآخرين ومخالطتهم والاستئناس بهم. العداوة والبغضاء والحيادية ليست من الفطرة السليمة. كما أن السوريين بمجملهم شعب طيب ومسامح، يحب الصلح والخير ويرفض الخصومة والعدوان - وهذا بشهادة مِلل وأمم من خارج أهل الشام. ولكنّ هذا الشعب، إذا تعرّض لأمر يمسّ كرامته أو شرفه أو دينه، فإنّه ينقلب إلى نَمر مستنفر أو سبع كاسر.

المصالحة تكون بين خصوم اختلفوا في أمور مادية أو شخصية، لا في دين ودماء وأعراض وحرمات. فليس من المعقول أن يقبل أي سوري بمصالحة ظالم سفك دماء الملايين وشرد نصف سوريا واعتقل واغتصب ونهب، وبعد ذلك نقول له: "سامحتك ويا دار ما دخلك شر".

الصلح والخير موجود في سوريا ولم يفارقها، وجميع السوريين يتوقون إليه بجميع مشاربهم وطوائفهم وانتماءاتهم، ولكن بشرط زوال الظالم وسبب الظلم وآلته ونظامه وأفراده، ومحاسبة كلّ من ساهم في تلك الانتهاكات. هذا شرط لازم بل حتمي. فقد آن الأوان أن يرتاح شعبنا بعد خمسة عقود من التعب والشقاء والظلم والآلام والفرقة والتشرد.

إنّ أساس الظلم في سوريا بشار الأسد ونظامه المجرم. فإن زالا، فلا خلاف في ابتداء عملية مصالحات كبرى تشهدها المنطقة والتاريخ. ولن يتوانى شعبنا العظيم في الدخول بتلك المصالحات التي ستعمّ جميع فئات الشعب مباشرة. ولكن بقاؤه على عرشه الدموي الشرس لن يأتي إلا بمزيد من الطامات الكبرى من الفرقة والضعف والفساد وتصلّب الإرادات لدى أهل الدم والمظالم وغيرها من الأوبئة المستعصية التي يسعى النظام إلى زرعها في بلادنا.

فعلى الدول والمنظمات والمجالس والمؤسسات التي تنادي بالمصالحة في سوريا أن تزيل أو تساعد أولًا في إزالة واستئصال سبب هذا الورم الخبيث وتبعياته، ثم تبدأ بإعطاء الدواء الشافي لذلك المريض المنهك.

عندما تصل المجتمعات إلى نقطة الإدراك بأن العنف لم يعد يجدي نفعاً في حل خلافاتها، تبدأ رحلة البحث عن المصالحة الوطنية.

على الضفة الأخرى، يرى البعض أن المرحلة الحالية، في ظل السعي نحو المصالحة الوطنية، تستدعي تشكيل مجلس عسكري يدير شؤون البلاد بشكل مؤقت، بدلاً من قيادة مدنية. وفق هذا الطرح، لا يمكن تجاهل أهمية أن يكون الحكم في البداية عسكريًا لضمان الأمن والاستقرار وضبط الأوضاع في البلاد خلال فترة انتقالية.

كما لا ينبغي الاكتفاء بالاعتماد على المجتمع المدني أو رؤساء العشائر والأحزاب فقط، بل يجب تجنب الحلول المبسطة التي تتجاهل تعقيد المشاكل الممتدة لأكثر من 13 عامًا. فالمرحلة المقبلة، عند البدء بمشروع المصالحة، تتطلب معالجات واقعية بعيدة عن التنظير مع التركيز على خطط قابلة للتنفيذ.

ولا بد أن تشمل الخطوات الأساسية لهذه المرحلة، كما يرى البعض الآخر من سوريين مهتمين بسوريا المستقبل، إزالة السلاح تدريجيًا كخطوة أولى، يعقبها منع حيازة السلاح بشكل كامل. كما يجب التعامل بجدية مع قضايا تعويض الضحايا، إلى جانب معالجة المشكلات المتعلقة بالميليشيات الحالية وخططها المستقبلية التي قد تؤثر على استقرار سوريا القادمة.

إن هذه القضايا تمثل عناصر جوهرية يجب أن تكون ضمن أي رؤية تُطرح لإدارة المرحلة الانتقالية، مع ضرورة الالتزام بخطة واضحة وشاملة تضمن الوصول إلى حل مستدام يعزز الاستقرار والسلام في البلاد.

أختم بكلام أشار إليه الكاتب غازي دحمان في ورقة سياسية نشرها في موقع "معهد العالم للدراسات" عام 2017، بما معناه أنه عندما تصل المجتمعات إلى نقطة الإدراك بأن العنف لم يعد يجدي نفعاً في حل خلافاتها، تبدأ رحلة البحث عن المصالحة الوطنية.

هذه الرحلة تشبه مسيرًا طويلًا يتطلب من جميع الأطراف التخلي عن أحلام النصر المطلق، والقبول بتسويات تمنح كل طرف جزءًا من مطالبه. لكنّ هذه العملية ليست مجرد اتفاقات على ورق، بل هي تحول عميق في فهم العلاقة بين الدولة والمجتمع.

فالمصالحة الحقيقية تتطلب الاعتراف بأن المجتمع ليس كتلة متجانسة، بل فسيفساء غنية من المصالح والتوجهات المختلفة، وكلها تستحق التمثيل والاحترام.

وكأن المصالحة تشبه عملية ترميم بيت قديم؛ فهي تتطلب إزالة الركام القديم من المظالم والانتهاكات، وبناء أسس جديدة من الثقة والتعاون. هذا البناء الجديد يجب أن يقوم على أعمدة راسخة من الديمقراطية الحقيقية والمشاركة المتساوية، لا على دعائم زائفة من الوعود الكاذبة.

لنجاح هذا المشروع المجتمعي، لا بد من وجود قيادات حكيمة ونزيهة تحظى باحترام جميع الأطراف، وتلتزم بالمعايير الدولية في حل النزاعات. فالمصالحة ليست مجرد شعار، بل هي مشروع متكامل يحتاج إلى خارطة طريق واضحة وإرادة صادقة من جميع الأطراف للمضي قدمًا نحو مستقبل أفضل.

الخلاصة أن المشكلة السورية بالغة التعقيد، وتتطلب نهجًا شموليًا يراعي المشاريع الجغرافية وقوى الأمر الواقع المتجذرة، بعيدًا عن الحلول السطحية التي تكتفي بـ"تبويس الشوارب".