قبل التوصل إلى فهمٍ حديث لمفهوم المجتمع المدني بعد عصر النهضة، بكونه منظمات غير حكومية تعمل في الشقين الإنساني والاجتماعي كطرفٍ وسيط بين الدولة والمجتمع لا يسعى للوصول إلى السلطة، ساهم قبل قرونٍ في حركات النهضة والتغيير الديمقراطي في العالم، خاصة في عصر التنوير الأوروبي، وقبل عقودٍ قليلة بثورات شرق أوروبا، إذ كان يعتبر محركاً أساسياً للمجتمعات المحلية في صراعها مع السلطات الاستبدادية القائمة.
رغم تمييز جون لوك، المجتمع المدني، عن الدولة لكنه لم يلغِ تماما الروابط التي تجمع بينهما عندما أشار إلى أن قيام المجتمع المنظم سياسياً ضمن إطار الدولة
ولم يقتصر فحسب على الضرورات التي تفرضها النزاعات من بعدٍ إنساني فحسب، بل في الاستحقاقات السياسية والاجتماعية؛ خاصةً وأن السياق والحيثيات التي نشأ من خلالها المجتمع المدني، سبقت الدولة والمجتمع القائم بذاته. فمن المجتمع المدني، انبثقت الدولة والأحزاب والحركات السياسية التيارية ومجموعات الضغط، ومن خلاله تتشكل معظم السياسات العامة الداخلية والخارجية، أي كان يتطور باستمرار مع المجتمعات المحلية ومتطلبات الديمقراطية والحداثة.
ورغم تمييز جون لوك، المجتمع المدني، عن الدولة لكنه لم يلغِ تماما الروابط التي تجمع بينهما عندما أشار إلى أن قيام المجتمع المنظم سياسياً ضمن إطار الدولة مهمته تنظيم عملية سن القانون الطبيعي الموجود دون الدولة وفوقها، كذلك جان جاك روسو اعتبره محركاً أساسياً في الإرادة العامة والسيادة، وطالما أنّ فلاسفة العقد الاجتماعي أكدوا على دور المجتمع المدني في العقد الاجتماعي لا يمكن اقتصاره فقط على البعد الإنساني-الإغاثي.
وليس العكس كما تعتقد معظم المنظمات العربية التي قفزت قفزات نوعية محدثة فجوات تاريخية مع الحاضر بشكل غير واضح باستنساخ التجارب الأوروبية دون أن تعيش تجربتها الخاصة، معتقدة أن الدول التي تتفاعل معها كانت نتاج حركات الاستقلال التي تراها "مكتملة".
في الوضع السوري القائم، لا يختلف الأمر كثيراً، فنرى أن منظمات المجتمع المدني، بعيدة بشدة عن الشقين السياسي والاجتماعي وتركز بنزعة متشددة نحو الجانب الإنساني، مع أهمية هذا الدور لكنه هامش بعض الشيء، لأن تشكلات الوضع السوري في معظمه سياسي واجتماعي أي صراع السلطة - المجتمع.
تبرر المنظمات السورية ذلك، انطلاقاً من معيار الحيادية الذي تنطلق منه في عمليات الاستجابة الإنسانية لكل المتضررين بصرف النظر عن توجهاتهم السياسية، وقد يكون في هذا الطرح جملة من المتناقضات ربما من بينها أن الموقف السياسي من الاستبداد لا يعني عدم دعم المتضررين بصرف النظر عن توجهاتهم، ولا سيما وأن تلك المنظمات تعمل في الغالب، ضمن مناطق المعارضة السورية.
على ما يبدو بأن المشكلة هي أعمق من مجرد التعبير عن موقف سياسي واضح، بل مرتبطة بسوء فهم لدور المجتمع المدني وربطها في سياقات غير سورية أي بدول تعيش حالة من الاستقرار السياسي، وعلى هذا الأساس تُعرف المنظمات السورية نفسها بأنها منظمات غير حكومية تعمل ضمن الإطار الإنساني، لكن مع غياب دور الدولة في سوريا، من غير المبرر إطلاق توصيفات وتحميل أدوار ليست في مكانها للمنظمات، فإما أن تكون جزءًا من المجتمع المحلي الذي قرر التمرد في الثورة ضد الاستبداد، أو الاصطفاف مع الدولة بكونها غير حكومية، لكن ممارسة دور الحياد السلبي كجمعيات خيرية أو طبية مثل الهلال الأحمر قد يعني وجود أزمة هوية حقيقية لديها.
مع ذلك، رغم إيمان المنظمات بهذا الدور، إلّا أنّها تشارك في العملية السياسية في إطار اللجنة الدستوري ضمن ما يسمّى وفد المجتمع المدني، وهو منقسم بين النظام والمعارضة، لكن مواقفهما أقل ليونة من الأطراف السياسية، وهذا يدفع للقول بإنّه من الصعوبة في مكان إبعاد تلك المنظمات عن دورها الريادي والأساسي في العملية السياسية السورية، بعكس ما يقال بضرورة بعدها عن لعب هذا الدور انطلاقاً من توصيفات صلبة.
لذلك، إنَّ دور المنظمات السورية هو أكبر مما هي قائمة عليه، ويجب أن يشمل الجوانب الاجتماعية والسياسية، من خلال بلورة سياسات واضحة تجاه الثورة السورية، تعبّر من خلالها عن موقف واضح متزن وتقوم بعملها بناءً على تلك المحددات السياسية، وتقدم الحلول للمشكلات الإنسانية التي نتجت عن مواقفٍ سياسية واجتماعية.
يتحمل المجتمع المدني، مسؤولية وطنية في البحث عن هوامش ضمن الوضع السوري المعقد لأجل التأثير والتوجيه بالعمل مع القوى الوطنية السورية المدنية
فمن الصعب في مكان سلخ القضية السورية في أثناء التعامل مع تفاعلاتها من حيثياتها السياسية، حتى مفهوم الدعم الإنساني هو متصل بشكل وثيق بمتطلبات الانتقال الديمقراطي في سوريا، ومشروط بمدى التقدم الذي يمكن إحرازه في العملية السياسية، رغم ذلك يوجد تجاهل لتلك المفاهيم أو التغاضي عنها، حتّى وإن كان هناك تفاعل في مستويات معينة فهي غير كافية بالمقارنة مع متطلبات الملف السوري.
يتحمل المجتمع المدني، مسؤولية وطنية في البحث عن هوامش ضمن الوضع السوري المعقد لأجل التأثير والتوجيه بالعمل مع القوى الوطنية السورية المدنية، وإفراغ الحالة العسكرية في سطوتها وهذا لا يمكن إلّا عبر السعي نحو فهمٍ أعمق لتشكل المنظمات ودورها في حركة التاريخ، والواقع أن معركة الحرية هي ليست مرتبطة بطرفٍ بعينه بل هي وثيقة بالمجتمع المدني ذاته فمن دون فضاء تسوده الحرية لا يمكن أن تمارس أي عملٍ بالضبط كدورها قبل الثورة الذي يكاد يكون معدوماً.