في أيلول 2019 أعلن الأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونيو غوتيريش تشكيل اللجنة الدستورية السورية، "لمراجعة الدستور بهدف التوصل لحل سياسي ينهي النزاع العسكري المستمر"، وهذه اللجنة موزعة عددياً على ثلاثة أثلاث، ثلث للنظام وثلث للمعارضة والثلث الثالث هي من حصة المجتمع المدني، مع تحفظنا الشديد على كلمة المجتمع المدني، فيما يخص اللجنة الدستورية، فغالبية السوريين يعلمون كيف تم اختيار هذا الثلث، وكيف تدخلت دول وأزالت أسماء وأضافت أخرى بشكل يتوافق مع أجنداتها المخطط لها في سوريا، وهذا الأمر يتناقض مع ماهو متعارف عليه بالنسبة لاستقلالية وحياد المجتمع المدني، وهذا موضوع من غير المجدي الخوض فيه، كونه أمراً واقعاً ومفروضاً بإرادة دولية أقوى من إرادة السوريين وطموحاتهم.
وهذه اللجنة وإن كان المجتمع الدولي وبشكل خجول يحاول الترويج بأنها من بنات أفكار القرار 2254، إلا أن الحقيقة نعلمها جيداً، فهي تمخضت عن مؤتمر سوتشي الذي تبنته ورعته روسيا بتاريخ 30/12/2018، وقد اتفق المؤتمرون في بيانهم الختامي على (تأليف لجنة دستورية تتشكل من وفد حكومي ووفد "معارض واسع التمثيل"، وذلك بغرض صياغة إصلاح دستوري يسهم في التسوية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة وفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي 2254)، وقد تلقف المبعوث الأممي نتائج هذا المؤتمر والذي تمحور بشكل أساسي حول بنية اللجنة الدستورية، وتبنى تلك النتائج، ليعلن أن تشكيل اللجنة الدستورية يتوافق بشكل أساسي مع القرار 2254، وبالتالي أعلن ضرورة السير في هذا المسار، متناسياً المسارات الثلاث الأخرى التي أكد عليها في الجولة الرابعة للمفاوضات في جنيف، ولا سيما المسار الخاص بتشكيل هيئة الحكم الانتقالي، ذات الصلاحيات التنفيذية الكاملة، ولم تنزعج روسيا من هذا السيناريو والإخراج، طالما أنها ستحقق ما تريد دون أن تزعج الأصدقاء، فالمهم النتيجة، عملية سياسية عرجاء تُخْتَزَل في سلة الدستور، الذي يبدو أنه لن يكتب إلا على هوى الروس والأسد، طالما أن ردة فعل المجتمع الدولي، كما ألفناها كسوريين، لن تكون سوى بعض التصريحات الفاترة التي لا تتجاوز حدود القلق، مع التأكيد على "الاحترام والالتزام الكامل بالسيادة الوطنية السورية، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية"، هذه الأسطوانة التي صمَّت آذاننا لتكرارها الممل.
صحيح أن روسيا كانت ترغب بدايةً في عقد سلسلة من حلقات عملية كتابة الدستور في سوتشي، كما فعلت برفقة باقي شركائها في حلقات مسلسل الأستانة، الذي كانت نتيجته الوحيدة قضم الكثير من الأراضي السورية لصالح الأسد، إلا أن معارضة المجتمع الدولي لهذا الأمر الشكلي (عقد جلسات الدستورية في سوتشي) جعل الروس يتنازلون عنه طالما أن النتيجة المطلوبة تحققت، ولا يهم بعدها إن عقدت الاجتماعات في جنيف أو حتى في جزر الكناري أو جزر القمر.
على كل حال، اللجنة تشكلت والمسار صار واقعاً مفروضاً، لكن بقي هذا المسار يراوح في مكانه دون أي تقدم، مع أننا لا نملك أي فائض في الوقت، فعلى الرغم من مرور أكثر من سنة وثلاثة أشهر على تشكل هذه اللجنة وعقد أكثر من أربعة لقاءات فيزيائية، النتيجة صفرية، فلا اتفاق حتى الآن على جدول زمني لإنهاء أعمال هذه اللجنة وكتابة الدستور الجديد، ولا اتفاق أيضاً على الغاية الأساسية من كل هذا المسار، هل هو تعديل للدستور الحالي أم هو صياغة دستور جديد؟، صحيح اللجنة هي من ستقرر هذه المسألة، لكن من شبه المستحيل أن تحقق المعارضة مبتغاها في كتابة دستور جديد، وستكون قصة التعديل هي الأقرب للتحقق، طالما أن أي قرار أو اتفاق سيحتاج إلى موافقة 75% من مجموع أعضاء اللجنة الدستورية، البالغ عددهم 150 عضواً، خاصة إن أخذنا بعين الاعتبار أن أعضاء المعارضة (المعارضات) ليسوا على قلب رجل واحد كونها تضم مجموعة منصات وهيئات وأجساماً، بعضها محسوب على موسكو، وبعضها الآخر محسوب على دول لها مصالح حيوية في سوريا، كما أن أكثر من نصف أعضاء المجتمع المدني هم من المحسوبين على النظام، وأعتقد أن هذا الأمر لم يعد سراً، كونه ورد على لسان أكثر من عضو من أعضاء اللجنة أصحاب النفَس المعارض للنظام.
الجدول الزمني المفتوح يناسب النظام بطبيعة الحال، كونه ليس على عجلة من الأمر، وأحياناً يساوره الشك بأن أي تعديل جوهري في مضمون الدستور، قد يؤثر على حكمه
ولا شك أن لمسألة تعديل الدستور أو كتابته من جديد تداعيات مهمة وخطيرة على المستقبل السوري، فعلى فرض أنه تم الاتفاق على تعديل الدستور الحالي، وهذا الاحتمال هو الأقرب للتحقق، نظراً للتوازنات الموجودة داخل اللجنة والتي تصب دوماً في مصلحة الأسد الطامح إلى بعض التعديلات الطفيفة، فهذا يعني القبول بشرعية الأسد في الحكم طوال السنوات السابقة، ولا سيما تلك السنوات التي قتل فيها ودمَّر وشرَّد، طالما أنه كان يحكم بموجب دستور ستثبت اللجنة مشروعيته وصلاحيته لحكم سوريا، وكذلك الاعتراف بكل القوانين والتشريعات التي صدرت في سنوات الحرب وكانت سبباً في قتل السوريين وتهجيرهم وتعذيبهم وخنق حرياتهم ومصادرة ممتلكاتهم، ومثلها الأحكام التي صدرت عن محكمة قضايا الإرهاب، السيئة الصيت، طالما أن كل ما ذكر تم استناداً إلى الدستور الذي سيتم الاعتراف بمشروعيته.
ونظرا لأهمية مسألة الجدول الزمني لأعمال اللجنة الدستورية، سنتحدث عنها مرة أخرى، هذه المسألة التي لم ولن يتم الاتفاق عليها، طالما أن وفد النظام للجنة وهو الذي يعكس وجهة نظر النظام نصاً وحرفاً، لايرى أي مشكلة في الدستور الحالي، وقد يرى أن هذا الدستور لا يحتاج إلى التعديل أصلاً، وهذا الجدول الزمني المفتوح يناسب النظام بطبيعة الحال، كونه ليس على عجلة من الأمر، وأحياناً يساوره الشك بأن أي تعديل جوهري في مضمون الدستور، قد يؤثر على حكمه، لذلك فهو ليس مضطراً للقبول بهذه الاحتمالية، طالما أن الأمور تسير في صالحه، وهو بالإسم يزعم أمام المجتمع الدولي الساكت، بأنه يسير في عملية سياسية تفاوضية مع الوفد الآخر، ويتعاون مع هذا المجتمع لتحقيق متطلبات القرار 2254، بينما تصرفاته تكذِّب أقواله.
ونؤكد هنا بأن النظام غير مكترث بالعملية الدستورية ولا يعول عليها الكثير، ويعلم جيدأ أن عمل هذه اللجنة سيستغرق الكثير من السنوات، والدليل على ذلك أنه عاقد العزم على السير بالانتخابات الرئاسية بعد عدة أشهر، وهذا ما أكده وزير خارجيته فيصل المقداد في تصريحه الأخير بأن الانتخابات الرئاسية القادمة لا علاقة لها بعمل اللجنة الدستورية، والورقة التي قُدِّمَتْ من وفده في الجولة الرابعة لاجتماعات الدستورية، تؤكد على نيته في إطالة أمد عمل اللجنة أو بالأحرى إفشالها كلياً، لأن تلك الورقة لم تأتِ بأي مبدأ مشترك جامع يمكن الاتفاق حوله، كاستقلال السلطة القضائية وسيادة الشعب والعدالة الانتقالية والعودة الطوعية والآمنة للاجئين والنازحين وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين واحترام العهود والمواثيق الدولية ولا سيما تلك المتعلقة بحقوق الإنسان، بل أصر على تلك "المبادئ" التي تعتبر نقاطاً خلافية وتثير الجدل، كضرورة دعم "الجيش العربي السوري"، هذا الجيش الذي قتل ودمَّر وشرَّد، وعدم المساس بالنشيد الوطني وهو يتضمن تمجيد الجيش، وعدم المساس بعروبة سوريا، الأمر الذي سيثير حفيظة باقي المكونات السورية، وغيرها الكثير من النقاط الخلافية، والتي تكمن غايتها الأساسية في توتير الأجواء وزيادة عدد الجولات الحوارية، والنقطة الوحيدة التي يمكن أن تكون مشتركة هي نبذ العمليات الإرهابية، مع الاختلاف في تعريفها وتحديد هوية منفذيها.
لكن رغم كل هذا التفنيد الذي ذكرناه بخصوص عقم المسار الدستوري، ثمة أشخاص ذوو خيال واسع وأحلام لا تنتهي، يؤكدون بأن المجتمع الدولي لن يعترف بالانتخابات الرئاسية القادمة في سوريا، بحجة أنهم سمعوا ذلك من وفود بعض الدول الفاعلة في الملف السوري، أو من بعض موظفي الأمم المتحدة، وتناسوا بأن العبرة تكمن بما هو موجود على أرض الواقع وليس بالتصريحات التي قد تطلق هنا وهناك، فكم من مرة طالب رؤساء الكثير من الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة "القوة العظمى في العالم" الأسد بالتنحي عن السلطة بحجة أنه فقد شرعيته، وها هم أنفسهم يقبلون التفاوض مجدداً مع وفده القادم إلى جنيف، فالمسألة ليست بالرغبات والتمني، فالحقائق الموجودة على الأرض لها كلمتها أيضاً، وإذا كان المجتمع الدولي لديه النية في إرغام الأسد مستقبلاً بالتنحي عن السلطة، بحجة أن الإنتخابات الرئاسية يجب أن تتم وفق ما سيرد في الدستور الجديد، إن تمت كتابته، لكان هذا المجتمع نفسه أرغمه طوال السنوات السابقة بالتنحي عن السلطة، أو على أقل تقدير أقنعه أو أجبره على تأجيل إجراء الانتخابات لما بعد كتابة الدستور الجديد، طالما سيكون مفروضاً عليه احترامه.
قصارى القول، لا يمكن التعويل على ما سيصدر عن المجتمع الدولي من شجب وتنديد، وكذلك لا يمكن التعويل على نتائج أعمال اللجنة الدستورية طالما أن الأسد ماض في إجراء الانتخابات الرئاسية وتنصيب نفسه سلطانا على السوريين مجدداً، فهذا الأمر قد يؤدي إلى تصفير عداد مدة ولايته الرئاسية مجدداً، لذلك سيكون من الأفضل لأعضاء اللجنة الدستورية ذوي النَفَس المعارض والذين يؤثرون المصلحة الوطنية على مصالحهم الشخصية، ونعتقد أنه توجد مجموعة لا بأس بها من بين وفدي المجتمع المدني ووفد المعارضة ممن يتمتعون بهذا النَفَس، التوقف عن المسير في هذه الرحلة العبثية إذا ما باشر نظام الأسد التحضير للمهزلة الانتخابية القادمة، والتي لن تختلف عن سابقاتها، ومن غير المجدي الانتظار إلى أن "تقع الفأس على الرأس"، صحيح أن توقفهم عن المشاركة في هذا المسار قد لا يثني الأسد عن متابعة ما عقد العزم عليه، لكن على الأقل لن يشاركوا في مراسم تنصيبه سلطاناً من جديد.