أورد موقع هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) تقريراً سلّط فيه الضوء على مرفأ مدينة اللاذقية الذي تعرّض منذ أيام لقصف إسرائيلي، والكورنيش (الممشى البحري) الذي يحتلّ حيّزاً مهماً من ذاكرة الأهالي وتاريخ المدينة الحديث، بكل تفاصيله.
تسبب الهجوم الإسرائيلي الذي استهدف الميناء التجاري في اللاذقية، فجر الثلاثاء الماضي، بحريق وأضرار مادية في محطة الحاويات. ويعدّ الكورنيش الذي شيّد عليه ذلك الميناء ذا قيمة معنوية فريدة في وجدان أهالي اللاذقية، بحسب التقرير.
وكانت منطقة الكورنيش مقصد سكان المدينة ومتنفسهم ومكان لقائهم وموعدهم اليومي مع العرض الساحر لمغيب الشمس ومركز نشاطاتهم، والموقع الذي استقبل أبرز زوار مدينتهم من أم كلثوم إلى جمال عبد الناصر. باختصار: المكان الذي يحدث فيه كل شيء تقريباً، حتى مجيء العام الجديد.
عائلة الأسد وتغيير معالم الكورنيش
كل تلك التفاصيل تغيرت قبل ما يزيد على أربعة عقود (أي منذ تسلّم الأسد الأب السلطة في سوريا)، حين هُدمت المقاهي الممتدة على الجهة البحرية من الكورنيش كما يسميه سكان المدينة أي الممشى البحري، كما ردم ميناء الصيد الصغير، واختفت الصخور والخلجان.
وأصبح البحر الذي كان حرفياً في متناول اليد، قصيا بعيد المنال، بين الناظر وبين رافعات وحاويات عملاقة، وذلك بسبب توسيع المرفأ الذي ابتلع فعليا ذاكرة المدينة.
"تبليط" البحر
"روح بلّط البحر"، كان أهل اللاذقية يستخدمون هذه العبارة عندما يتحدى أحدهم الآخر في الخلافات بمعنى "افعل ما بوسعك حتى المستحيل"، والمستحيل هنا هو بالطبع ردم البحر!
لكن في أواخر عام 1977، لم يعد لهذه العبارة من معنى، فالمستحيل تحقق، وبدأت بالفعل عملية "تبليط" البحر.
تعود جذور الحكاية إلى عام 1948، عندما اقترح مشروع بناء ميناء حديث في اللاذقية وكان السؤال: هل يبنى في المرسى التاريخي القديم عند حافة المدينة، أم يتم إبعاده إلى خارجها؟
وفاز الاختيار الأول وبدأت أعمال البناء عام 1950، واكتملت المرحلة الأولى منه عام 1951.
لاحقا برزت الحاجة إلى تطوير المرفأ ليستوعب مزيداً من السفن والعمليات التجارية، ولا سيما أنه الميناء الرئيسي في البلاد، ونشأ خلاف شديد بين رأيين، الأول، بناء مرفأ جديد في منطقة البصّة التي تبعد نحو 15 كلم عن المدينة، والثاني، توسيع المرفأ القائم بالامتداد غربا، وهذا يوجب هدم الجهة البحرية من الكورنيش بالكامل إضافة إلى ردم جزء من البحر.
وانتصر الرأي الثاني لأن كلفة التوسيع أقل. وبدأت الآليات الجبارة باجتياح كل تلك المقاهي والمسابح، رادمة معها حقبة من تاريخ المدينة تعود إلى ما قبل عام 1930.
وفي منتصف الثمانينيات أعيد تأهيل الكورنيش ليصبح في شكله الحالي، لكنه ظل هجيناً ناقصاً بعد أن فقد إلى الأبد أهم ما يميزه.
الممشى البحري
يبدأ الكورنيش -الذي ألحقت به فيما بعد صفة "الغربي"- الذي بالكاد يصل امتداده إلى كيلو متر واحد، من حديقة "البطرني"، التي تحتضن جامع البطرني، حيث يوجد مقام الشيخ "أبو بكر البطرني الأندلسي" وهو بناء مملوكي من القرن الرابع عشر أو الخامس عشر الميلادي، يليها الكازينو الذي بناه الفرنسيون عام 1926.
وإذا تابعنا المسير على الواجهة البحرية، سنجد المقاهي المصطفة بمحاذاة المياه تماما، الرشو، اللاكبان، فنيسيا، والمنتزه، ثم ميناء صيد صغير يعرفه أهل المدينة باسم "مينا القزاز"، وبعده مباشرة مقهى العصافيري بشرفته القائمة على أعمدة والممتدة فوق البحر، ثم نادي صف الضباط، يليه مسبح جورج، ومسبح أندراوس، ثم مسبح فارس.
ذاكرة المدينة
تقول الشاعرة مرام المصري، وهي ابنة اللاذقية ومقيمة في باريس منذ سنوات "من لم يمش على كورنيش اللاذقية، لا يعرف معنى أن يدق قلبه فرحا للقاء كل أهالي المدينة في وقت واحد من دون سابق موعد، لا يعرف الشوق لتقصي خطوات الحبيب، وكيف تزوغ النظرات، وتُرسل قبلة طائرة خفيّة، ولا كيف يُراقب الغروب وفي القلب أمنية. من أجل نزهة الكورنيش لبسنا أحلى ملابسنا، وتعطرنا، وفي مقهى اللاكبان تعلمنا الرقصات العصرية من الجيرك إلى التشاتشا".
ترجمت قصائد الشاعرة المصري إلى لغات عديدة، وفي مقطع من قصيدة بعنوان "أتذكر اللاذقية" تقول مرام:
"أتذكر مساء
الكورنيش
الساعة السادسة
وملتقى أقدام وأحلام
صبايا وشبان اللاذقية
أتذكر طرقات وأسماء
أتذكر
وأبكي".
ومن معالم الكورنيش الشهيرة أيضا مقهى العصافيري، وهو وإن كان لا يزال موجوداً، فقد أصبح راسياً على الرصيف، لا يطل سوى على حاويات المرفأ، بعد أن كانت شرفته الممتدة فوق البحر أهم ما يميزه، وكان الأولاد لا يملون من إلقاء الخبز منها والاستمتاع بمشهد تجمع السمك حولها بينما أهاليهم يتناولون الفطور.
كان الكورنيش مقصد الأهالي والزوار، بحسب ما نقل التقرير عن أحدهم "حتى في أيام الشتاء العاصفة كنا نراقب وقد تدافعت الأمواج العاتية لتتكسر على صخرة البطرني، أو لتسحب وراءها كراسي وطاولات المقاهي إلى عرض البحر".
كبار الزوار
في أواخر صيف عام 1931 كان الحدث الأبرز في اللاذقية، هو زيارة أم كلثوم، وقد تصدر الخبر الصفحات الأولى لصحف المدينة مثل "صدى اللاذقية" و"الرغائب" وغيرها، وكان برفقتها محمد القصبجي الملحن وعازف العود الشهير، وعازف الكمان المعروف سامي الشوا، وعازف القانون الشهير وقائد الفرقة لسنوات محمد عبده صالح.
وأقامت سيدة الغناء العربي وفرقتها في فندق الكازينو، وأحيت حفلتيها على مسرح مقهى شناتا المقابل، وتكررت زيارتها عام 1933 أيضاً.
واستقبل مسرح شناتا عدداً من أهم الفنانين والفرق الذين زاروا المدينة، مثل محمد عبد الوهاب، وفرقة فاطمة رشدي وأمين عطا الله ونجيب الريحاني، ويوسف وهبي، وعرضت على خشبته "أوبرا كليوباترا" التي كان بطلاها صالح عبد الحي وعلية فوزي.
ولم يقتصر الكورنيش الغربي على استقبال كبار الفنانين، فحين زار جمال عبد الناصر المدينة عام 1959 بعد الوحدة بين سوريا ومصر، أمضى ليلة في "فندق عوض"، وهو ملتقى آخر لأهل المدينة، يجلس الكبار على شرفته المطلة على منظر بحري بديع، في حين يلعب الأولاد في حديقته.
لكن بعد زيارة عبد الناصر قرر صاحبه تغيير اسمه إلى "فندق الجمال". وبسبب موقعه على الجهة المقابلة للبحر، لم يكن الفندق من ضحايا عملية التوسيع، لكنه فقد رونقه وهدم قبل فترة.