ساعات قليلة تفصل تركيا ومحيطها عن انتخابات فريدة في تاريخ الجمهورية، حيث تجتمع المعارضة بمختلف أطيافها وتوجهاتها على هدف إزاحة السلطة التي تحكم البلاد منذ أكثر من عشرين عاماً، في ظل استقطاب مجتمعي تركي حاد محوره نعم لأردوغان/لا لأردوغان. في هذه الأثناء، وعلى هامش عريض لا علم لمعظم الأتراك بحجمه وأبعاده، ترتقب عيون ملايين السوريين في تركيا وفي الشمال السوري النتيجة، يدفعهم الخوف من المجهول الذي بات يحاصرهم من كل الجهات.
تسلط السطور المقبلة الضوء على ما يتنظر السوريين في تركيا وفي الشمال السوري من مجهول في حال فوز حلف المعارضة، مع مقارنة بما يقابله من احتمالات في حال بقاء السلطة -بناءً على قراءة سريعة للسياق التاريخي. من دون الدخول في تعقيدات توقع نتيجة انتخابات لا تشبه سابقاتها، وتأتي بعد شهور محملة بالأزمات والأحداث العظمى التي لم تتح الزمن الكافي لاستقراء تأثيرها على توجهات الناخب.
القضية السورية والسياسة التركية
بعد كارثة الزلزال المدمر الذي ضرب الجنوب التركي والشمال السوري، تقلصت أهمية قضية السوريين في الوسط السياسي والعام التركي خلال الأشهر الأخيرة التي سبقت الانتخابات، بعد أن كانت ضمن الصدارة خلال بضع سنوات سابقة. والحقيقة أن الجدال بين الأطراف التركية حول القضية السورية -التي باتت عاملاً داخلياً لا يمكن تجاهله- يمتد للأشهر الأولى من انطلاق الثورة السورية، وتطور مع تغير الظروف خلال العقد المنصرم وصولاً إلى ظهور أحزاب سياسية ترى في التخلص من السوريين جوهراً لرؤيتها السياسية - المجتمعية.
شكّلت الصور الأولى التي تظهر عنف النظام السوري اتجاه الشعب السوري، وما تبعها من مشاهد آلاف السوريين في أثناء عبورهم الحدود للداخل التركي، صدمة للشعب التركي ما لبثت أن تحولت إلى تعاطف ملحوظ. لتتبنى الحكومة التركية رواية الشعب السوري معلنةً الأسد قاتلاً وتهديداً لأمن المنطقة.
أما المعارضة -المدفوعة من أزمات الثقة اتجاه حكومتها، وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري؛ فانتقدت انخراط تركيا كطرف ضمن الصراع السوري، وشككت برواية الحكومة التركية بإرسالها لبعثات تستقصي "حقيقة الأوضاع" في سوريا. ورغم رفضها المتكرر للاتهامات التي تفيد بدعمها لنظام الأسد، وعملت المعارضة التركية على تحميل الحكومة جزءا من مسؤولية حمام الدم السوري -خلال السنوات الأولى من الثورة السورية.
نجحت حملات العدالة والتنمية في حصر تركيز الرأي العام التركي على الجانب الأخلاقي من موقف تركيا في القضية السورية، وكررت الحكومة التركية عبر أعلى ممثليها التأكيد على أن القضية السورية "فوق السياسة". ما عطل ضغوطات المعارضة التركية مؤقتاً، والتي ما لبثت أن بدأت بالتركيز في روايتها المضادة على "التطرف الإسلامي" الموجود ضمن صفوف المعارضين للأسد. حقق هذا التوجه اختراقاً ملحوظاً في الرأي العام التركي لتناغمه مع الاستقطاب المجتمعي العلماني/المحافظ التركي، إذ وبالنسبة لشريحة معتبرة (ولو كانت محدودة) بات تبسيط ما يحدث في سوريا على أنه دعم من قبل أردوغان الإسلامي لجهات متطرفة ضد الحكومة السورية العلمانية المتحضرة؛ خياراً سهلاً ومقبولاً أمام تعقيدات المشهد السوري.
لاحقاً، ومع فشل محاولة الانقلاب العسكري عام 2016، تراجع تسامح الحكومة التركية مع المعارضة الداخلية، ودفعت الظروف الدولية وعلى رأسها سيطرة قوات الحماية الشعبية (YPG) على معظم الحدود السورية التركية لتبنيها سياسية خارجية أكثر حسماً، تمثلت بتدخل عسكري مباشر في الشمال السوري. تغيرت أولويات الحكومة التركية من إسقاط النظام السوري لحماية حدودها الجنوبية من خطر الانفصال ومنع حدوث موجات لجوء جديدة. لتصبح سوريا قضية أمن قومي وتتجاوز مرحلة الخيارات الدبلوماسية، وهذا ما أدركته المعارضة التركية التي اضطرت حينئذ أن تتماشى مع خطوات الحكومة التركية.
اللاجئون السوريون والسياسة التركية
جاءت نقطة التحول الرئيسية في الجدال التركي حول القضية السورية عبر ملف اللاجئين السوريين مع مطلع العام 2017. بعد دخول تركيا بشكل مباشر ضمن الصراع السوري، وازدياد ملحوظ في عدد اللاجئين السوريين تجاوز 3.5 ملايين، وبداية أزمة اقتصادية أثرت على معيشة المواطن. إذ ورغم محاولات المعارضة التركية سابقاً استغلال قضية اللاجئين لتجييش الرأي العام ضد الحكومة، لم تجد الصدى المطلوب بين شرائح الشعب حتى حينئذ.
مع تغير الظروف، شكلت قضية اللاجئين السوريين معادلة يمكن استغلالها لضرب السلطة الحاكمة في نقاط قوتها، مما أثار شهوة المعارضة للتمعن في استغلالها. فاللاجئون السوريون بحسب روايتهم الجديدة، هم "الآخر" الذي أدخلته الحكومة التركية ضمن مشروع تغيير ديمغرافي لمصلحتها، إذ إن معظمهم محافظون سينحازون لأردوغان بحسب الأحكام المنتشرة في الوسط التركي. وقدومهم بالملايين وبقاؤهم في تركيا رمز لفشل العدالة والتنمية في السياسة الخارجية -التي يعتمد عليها في حشد الدعم الجماهيري. وأخيراً عبئهم المالي على الشعب التركي ساهم في سوء الوضع الاقتصادي، وكما هو معروف يعتبر النجاح الاقتصادي العامل الرئيسي لبقاء أردوغان على رأس السلطة لما يزيد على 20 عاماً.
بعد انتشار خليط الخوف والكراهية اتجاه اللاجئين السوريين بين مختلف الشرائح التركية، ازدادت باطراد وعود أحزاب المعارضة التركية الرئيسية بإرسالهم إلى بلادهم. وأصبح التطبيع مع نظام الأسد سبيلاً بديهياً وسهلاً لضمان عودتهم، ولا يتّبعه أردوغان بسبب أحقاده الشخصية اتجاه الأسد -بحسب دعاية المعارضة.
ومن هنا جاءت قناعة السلطة التركية بأن قضية السوريين ووجودهم في تركيا خاصةً، لعب دوراً معتبراً في خسارتهم لانتخابات البلديات الكبرى في أنقرة وإسطنبول عام 2019، وما نتج عن ذلك من سياسات صارمة تبتنها الحكومة اتجاه السوريين أملاً بتخفيف الامتعاض الشعبي التركي. كما يفسر كثير من المحللين تبني الحكومة التركية، خطاب التقارب مع النظام السوري أخيراً انطلاقاً من الإطار نفسه، فهي بحسبهم -وبحسب مراقبين مقربين من السلطة التركية- مناورة لسحب كرت إعادة اللاجئين السوريين من المعارضة التركية قبل الانتخابات.
مصير اللاجئين السوريين
رغم تحميلها جميع أعباء القضية السورية وتبعاتها للحكومة التركية، ووعودها الانتخابية التي تراوحت بين ضمان عودة السوريين لبلادهم "بالطبل والزمر" بعد التطبيع مع نظام الأسد، وبين سحب القوات التركية من قواعدها خارج الحدود للتركيز على تحديات تركيا الداخلية؛ تدرك المعارضة أن دور تركيا في القضية السورية تجاوز مرحلة القرارات السياسية الآنية وبات في ميزان حسابات الدولة الاستراتيجية.
تدرك المعارضة أن دور تركيا في القضية السورية تجاوز مرحلة القرارات السياسية الآنية وبات في ميزان حسابات الدولة الاستراتيجية
فملايين السوريين في تركيا محميون بالتفاهمات الدولية التي تمنع ترحيلهم لمصير محتوم بالموت أو الاعتقال، كما باتوا يشكلون جزءاً من سوق العمل التركي لا يمكن التخلي عنه بسهولة، إضافة إلى عشرات آلاف الأطفال والشباب اللاجئين الذين أصبحوا جزءاً من المنظومة التعليمية والمجتمع التركي. لذا وحتى حين التغاضي عن الصعوبات اللوجستية للخطة القائمة بترحيل الملايين خلال سنتين، وبالتغاضي حتى عن وجود أحزاب ضمن حلف المعارضة تدعم السوريين مثل حزب المستقبل، من المستبعد جداً أن تتخدد المعارضة خطوات حاسمة بهذا الاتجاه في حال تسلمها للسلطة.
ويمكن الافتراض أن أسوأ الاحتمالات محدود باستمرارية حالة التضييق القائمة فعلاً منذ 2019. وهذا ما تؤكده مواقف المسؤولين في حلف المعارضة خلف الكواليس، وآراء مختصين بارزين وتصريحات مسؤولين بيروقراطيين سبق أن حاوروا موقع تلفزيون سوريا حول هذا الشأن.
بل ومن المحتمل بعد الانتخابات أن تبدأ خطوات عملية تدعم انسجام جزء معتبر من السوريين في المجتمع التركي، إذ باتت أصوات مهمة في بيروقراطية الدولة على قناعة ببقائهم طويل الأمد في تركيا، منهم المجنسون والحرفيون والشباب. وسيتيح ذلك انخفاض قيمة "كرت اللاجئين" المتوقع في الوسط السياسي التركي بعد الانتخابات، وبغض النظر عن نتيجتها.
يقول البروفسور التركي الرائد في أبحاث وقضايا اللاجئين في تركيا، ورئيس قسم العلوم السياسية في جامعة مديبول التركية، السيد "بكر برات أوزإيبك"، في تصريح له لموقع تلفزيون سوريا: "من الممكن أن يستغل كليتشدار أوغلو سلطات رئيس الجمهورية في حال فوزه بالانتخابات لتنفيذ وعوده اتجاه اللاجئين السوريين، لكن سيصطدم بالعديد من العوائق الحقيقة. أضف إلى ذلك أن ملف اللاجئين قد يخسر الأولوية التي حظي بها سابقاً لغياب من يستغله كأداة بروبوغندا بطريقة غير أخلاقية في المعارضة الجديدة (العدالة والتنمية)... أما في حال فوز السلطة الحالية في الانتخابات فقد تدرك المعارضة ضعف كرت اللاجئين وخطاب التمييز في التأثير على الناخب التركي، ما قد يتيح المجال أمام الحكومة لمقاربة ملف اللاجئين بأريحية أكبر".
مصير الشمال السوري
أما بالنسبة لمصير الشمال السوري، فالوجود التركي مستمر باستمرار التهديد الانفصالي وتعقيدات قضية اللاجئين. خصوصاً كون البيروقراطية متمثلة بالجيش والاستخبارات -والمعروفة بعمق تأثيرها على السياسية التركية طوال تاريخ تركيا الحديث- على قناعة بضرورة الوجود العسكري التركي حتى التوصل إلى حل حقيقي للقضايا المذكورة آنفاً.
وستشكل القضايا نفسها من تهديد القوى الانفصالية (من المنظور التركي) وموجات اللجوء الجديدة، بالإضافة إلى ميلها للغرب وحلف الناتو على حساب سياسة الموازنة التي يتبعها أردوغان، عوائق أمام تحقيق المعارضة التركية الحالية لاختراق فعلي في التطبيع الموعود مع النظام.
البيروقراطية متمثلة بالجيش والاستخبارات -والمعروفة بعمق تأثيرها على السياسية التركية طوال تاريخ تركيا الحديث- على قناعة بضرورة الوجود العسكري التركي حتى التوصل إلى حل حقيقي
لكن من المتوقع أن تدخل تركيا في حالة من الخمول في الملف السوري في حال وصول المعارضة إلى السلطة، بسبب انشغالها ببناء الكوادر الجديدة وبالعديد من القضايا التركية الداخلية، ما قد يستغله حلف النظام-روسيا-إيران في محاولة تحقيق مكاسب جديدة.
في المقابل، وفي حال فوز أردوغان في الانتخابات سيحافظ على قدرته على المناورة والحسم في الساحة السورية والتي عمل على تطويرها خلال السنوات السابقة، وقد تدفعه رغبته بترك إرث سياسي عالمي خلال فترته الانتخابية الأخيرة لاتخاذ خطوات غير مسبوقة في الساحة السورية التي يوليها كثيراً من الأهمية بحسب مقربين منه.
ساعات على الانتخابات المصيرية لتركيا ودول الجوار. ويبقى احتمال تمديد المعترك الانتخابي لجولة ثانية في تاريخ 28 أيار قائما بقوة. وسط ضبابية المشهد، وقد تحمل الساعات والأيام المقبلة مفاجآت حاسمة في المعترك الانتخابي المحتدم، فكما قال رئيس تركيا السابق، الراحل سليمان ديمرال: "24 ساعة مدة طويلة جداً في السياسة (التركية)".