icon
التغطية الحية

"الكُشَر" المفقود | ذاكرة

2023.11.06 | 23:20 دمشق

يبفاف
+A
حجم الخط
-A

بعد أن قبضتُ ثمن سيارتي، سلَّمت مفتاحها لمن اشتراها، وطلبت منه أن يعيدني إلى بيتي. ثم ما لبثتُ أن طلبت منه أن يعيد إليَّ المفتاح لأقود السيارة بنفسي لأنني أعرف كيف أعود إلى بيتي خيرًا منه. هكذا سوَّغتُ له طلب إعادة المفتاح إلي، لكني في الواقع كنت ألبي نِداءً أعمق في نفسي من تلك الذريعة: أن أودِّع سيارتي الأثيرة على قلبي بما يليق بها. إذ لا يليق بها أن أكون مجرد راكب غريب فيها ولا أن أفارقها فِراقًا "غيرَ وامِق" على حد تعبير هند بنت عُتبة (إن صحَّت نسبة قصيدة "نحن بنات طارق" الشهيرة إليها).

عند البيت، أغضيتُ عنها وأنا أرجو الله أن يعطي مالكها الجديد خيرها ويكفيه شرها. كان مفتاح السيارة ثاني مفتاح أسلمه خلال شهر. أما المفتاح الأول فكان مفتاح مكتبي في كلية الآداب بجامعة الطائف بعد أن انتهى عقدي فيها.

***

على مدى 24 عامًا، هي مدة اغترابي عن سوريا للعمل في جامعات الأردن والسعودية، لا أذكر أنني غادرت بلدًا إلى آخر إلا وأنا أحمل مفتاحًا واحدًا، على الأقل، إما لبيت (حتى وإن كان مستأجَرًا) وإما لسيارة. لكن في خروجي الأخير من الطائف (التي قضيت فيها عشرين عامًا) إلى إسطنبول أدركت أنني هذه المرة أخرج ووِفاضي خالٍ من أي مفتاح! حتى بيتي الذي أملكه في إسطنبول لم أكن أملك نسخةً عن مفتاحه. كانت كل مفاتيحه بحوزة ابني الذي يسكنه. أن يكون بحوزتك مفتاحُ بيتٍ يعني أن لك وطنًا تعود إليه (ولهذا يتمسك فلسطينيو الشتات بمفاتيح بيوتهم الحديدية الكبيرة التي هُجِّروا منها قبل عدة عقود. وما تمسُّكُهم بهذا الرمز المادي إلا دلالةً على عمق إيمانهم بحتمية العودة إليها).

قبل أيام من بيع سيارتي، وجدت رزمةً من المفاتيح في أحد جيوبها. لم أتذكر أيًا منها. تُرى، هل أيٌّ منها مفتاح بيتي في حلب الذي بعتُه قبل عام أم مفتاح بيتي في الرقَّة الذي دمَّرته قبل أعوامٍ طائراتُ التحالف الدولي يوم شنَّت حربَها على المدينةِ وأهلِها بذريعة محاربة تنظيم داعش الإرهابي؟ لم تعد تلك المفاتيح تعني لي شيئًا، فرميتها في أقرب حاوية للزبالة. فذلك المكان أليَقُ بها الآن. كما أنها عبء مادي على ذاكرتي المثقلة بشتى الحُمولات والراغبة في التخفُّف مما يحرك عصب الألم فيها. أما مفاتيح الوطن الأكبر فيملكونها من لا يريدون تقاسمه معنا.

***

تقول الشاعرة الأمريكية إليزابيث بيشوب (1911-1979) في قصيدتها الشهيرة One Art (فَنٌّ واحدٌ) التي نشرتْها قبل ثلاثة أعوام من وفاتها إن "فن الفقد ليس عسيرًا على الإتقان" (وهذا القول يصبح لازمةً تتكرر في كل فقرات القصيدة تقريبًا) وتزعم أن كثيرًا من الأشياء مُقَدَّرٌ لها أن تُفْقَد، ولذلك فإن فقدها ليس بكارثة. فكل ما عليك أن تفعله هو أن توطِّن نفسك على حتمية الفقد. ولهذا تحضُّ بيشوب قارئها المُتخَيَّل على التدرب على الفقد إلى أن يتقنه ويرتقي به إلى مصافِّ الفن. اللافت للانتباه هو أن أول شيء تريد قارئها أن يتدرب على فقده هو فقد مفاتيح الأبواب. ثم تتدرج قائمة الفقد إلى ساعة من الوقت يقضيها المرء بلا طائل، ثم تتطاول القائمة إلى فقد الأماكن والأسماء.

بعد ذلك تُعَدِّد بيشوب الأشياء التي فقدتها هي نفسها، ولم يشكل فقد أي منها كارثة لها، بحسب زعمها: ساعة أمها، ثلاثة منازل أثيرة على نفسها، ثم مدينتين محبوبتين، وعوالم واسعة لم تُسمِّها، ونهرين وقارَّة. وأخيرًا، تخاطب شخصًا مجهولَ الاسم والجنس وتزعم أن فقدها (له/ لها) لم يكن كارثةً. ولكن هذا الاعتراف الأخير كان أقسى ما أدلت به لأن يدها التي كتبت بها القصيدة تأبى فيما يبدو أن تَخُطَّه، لذلك تأمرها في بيت القصيدة الأخير زاجرةً "اكتُبي!" طبعًا، المخاطَب المعني بهذا الاعتراف الأخير هو صديقتها السابقة المهندسة المعمارية البرازيلية ماريّا كارلوتّا دو ماسيدو سوارس (1910-1967) التي قضت برفقتها 15 عامًا في البرازيل. وكانت العلاقة بينهما قد ساءت في السنوات الأخيرة إلى درجة أدت إلى قطيعة بينهما. وقد صوَّر هذه العلاقةَ سنة 2013 الفيلمُ البرازيلي Flores Raras (أزهارٌ نادرةٌ).

***

لا أعرف عملًا روائيًا جسَّد أهمية المفتاح مثل رواية "ثنائية الكُشَر" للروائي النوبي المصري حجّاج حسن أدول التي يمزج فيها الأحداث الواقعية بالمعتقدات الأسطورية في قريةٍ من بلاد النوبة تواجه أهلَها مشكلةٌ كبرى: سيفيض النيل ذات يومٍ ويُغْرِق القرية، لذلك لا بد لأهلها أن يبحثوا عن الكُشَر لحل هذه المشكلة. والكُشَر بالنوبية يعني المفتاح! لذلك يأخذ الفتى ساما سيب، بطلُ الرواية الأسطوري، على عاتقه أن يبحث عن الكُشَر لكي يجنب أبناء قريته الكارثة الحتمية. غنيٌ عن البيان، إذن، أن الكُشَر هو رمز الخلاص من الفناء.

كثيرٌ من السوريين أضاعوا شتى أنواع الكُشَر في عشرية الشقاء الأخيرة: كُشَر بيوتهم وماضيهم (بما فيه من ذكريات) وحاضرهم ومستقبلهم، إما تحت ركام بيوتهم وإما في قيعان البحار التي غرقوا فيها وإما في غياهب المنافي ودول اللجوء. وإلى أن يستعيدوا كُشَرَهم، إما بأيديهم وإما بِمِنَّة من أحد، سيظلون يتساءلون مع ابن زريق البغدادي: "هل الزمانُ مُعيدٌ فيك لَذَّتَنا؟"