"هذا هو عصر الضيق، أكْلُنا ضيق، شرابُنا ضيق، مضجعُنا ضيق.. عالمنا ضيق، مصيرنا ضيق… موتنا ضيق، قبرنا ضيق… الضيق، الضيق! افتحوا الأبواب والنوافذ.. سيقتلنا الضيق! افتحوا الأرض والسماء.. سيقتلنا الضيق! افتحوا الكون.. سيقتلنا الضيق! الضيق.. الضيق".
أبدأ بما كتبه المسرحي فواز الساجر على قصاصة ورق وجِدت في جيبه بعد موته، وأقول افتحوا النوافذ يقتلنا الضيق، نحن سكان الكهف، كيف نمسك خطاب الجنون، ونصرخ نريد أن نعيش، نريد أن نكون ذواتا حرة، نريد أن نكون بشرا؟
ماذا نقول بعد أن تمردنا على ثقافة إذلال الذات، ومحوها وتهميشها، هل نقول بأن الوجود السوري في المأساة، الوجود الغريب في المأساة، داخلها تماما، فالذين في الداخل يصرخون، والذين في الخارج أيضا يصرخون، يكفي أن تكون سوريا لتكون محاصرا، وأن يحكم عليك بالعذاب واليأس والخوف والقلق والتشاؤم، ولا يخلو هذا الوجود من أصوات تبث الأمل، أو تبحث عن الوهم، أو عن أي حل قدري يردده حتى اليساري والملحد اليوم، أصوات فردية لا تقترب من عمل جماعي في البحث عن طريق ما، يشكل ضوءا في هذا الكهف أو النفق الذي نعبره وكأننا داخل متاهة..
ماذا نقول بعد فشل أي عمل جماعي؟ صرنا كمن يكلم نفسه، نتمتم وحدنا، فيسألنا من حولنا هل قلت شيئا؟
خمسون عاما والأنظمة تواصل قتل روح الفريق، ومحاربة تجمع الناس ككتلة واحدة، حتى الصالونات الثقافية والفكرية حوربت واعتبرت خطرا، ففقد الناس إمكانية التفكير بشكل جماعي، ما أدى إلى سيادة روح الفردية، حتى صارت كلمة المواطن تبعث على البكاء، والضحك والألم معا، فيما يتساقط أي عمل جماعي، روابط مؤسسات جمعيات وكأنها بنيت على رمل، أو مدن ملح، أو كأنها تأسست على أن الآخر هو الجحيم، والخوف من هذا الآخر يوقعنا في شراك فكرة المؤامرة.
لا شك فإن معظم ما يكتب اليوم، في الأدب، والفكر، والصحافة، ومقالات الرأي يعكس مأساة الوجود
بتنا أمام محرقة تهب علينا من الأنظمة، وعجز النخب التي لم تستطع أن تشكل صوتا وطنيا واحدا، إلى جانب سطوة بعض التيارات الدينية وتكفيرها لللآخر المختلف، ناهيك عن عوامل دولية ساهمت في تكريس "أنا مهشمة ومهمشة" أيضا، في ترك الكرسي المنخور يزداد نخرا بالعباد.
لا شك فإن معظم ما يكتب اليوم، في الأدب، والفكر، والصحافة، ومقالات الرأي يعكس مأساة الوجود، "السوريون الأعداء فواز حداد"، "لا سكاكين في مطابخ المدينة خالد خليفة"، كتابات مصطفى خليفة، سليم بركات، إبراهيم الجبين، عبدالله مكسور، زكريا تامر، وطأة اليقين لهوشنك أوسي وأسماء كثيرة أخرى.
على طرف آخر، ثمة من بقي في الوطن وبقي يعبر عن سخطه، وثمة من وقف ضد الثورات، أو الانتفاضات، ورغم هذا يسجل اليوم تداعيات المأساة والتي تعكس انعدام توفر شرط الحياة، الماء الكهرباء الدواء الغلاء، البطالة إلى آخره.
الشاعر نزيه أبو عفش، لم نسمع صوته حين كانت المدن تهدم على رؤوس أصحابها، ولم يسجل موقفا واحدا، رغم أنه شاعر رؤيوي حفظناه عن ظهر قلب في الله قريب من قلبي وفي نصوص أخرى أشار من خلالها إلى ذات الشاعر وذات القاتل "لأننا ضعفاء.. نبكي.
نتشابه في كل شيء.. في كل شيء
لكن سامحني: تحت قميصي قلب..
وتحت قميصك.. مسدس".
اليوم يوجه رسالة يقول فيها: "أيها الأبناء والأحفاد المهاجرون إلى بلاد البشر -البشرِ البشر (المهاجرون هلعاً، أو جوعاً، أو يأساً) أنصحكم ألاّ تتحامقوا وتعودوا إلى مساقطِ أحزانكم ورؤوسكم.
هنا: لا لقمةَ تُرجى، ولا دواء يسهل تدبيره، ولا جرعة ماءٍ تروي (سوى مياه المجارير التي تفيض تحت أنظار رؤساء ورئيسات بلدياتكم، مترعةً بالأوبئة والنتانةِ وعصيّات الموت وعبيرِ نفاياتِ إخوتكم.
نعم، حتى ولا: مــاء.
فإذن، لا تعودوا!
هنا، في هذه الديار البالية، ستُمضون رحلة حجِّكم جياعاً وظامئين، فيما لصوص البلاد التي تحِنّون إليها وتَتغنّون بقداسة ترابها، مثلكم أيضاً، جياعٌ وظامئون فقط إلى.. دمائكم ودموعكم وعرقِ شقائكم.
اعقلوا، وَ لا تعودوا!".
أيها السوريون لا تعودوا، هل بتنا داخل الأنا المغترب، الأنا المريض، وكأننا سكان الكهف الذين باتوا ذوات مغتربة عن الزمان والمكان معا، اللون قاتم، اللون كاكي، لون العسكر، لون الشفاه اليابسة، وحتى لا نمضي إلى اللحظة العدمية، نبحث عن الضوء، الأمل في الوقت الذي ينسحب فيه الوطن من كلّ شيء؟
في الزلزال السوري، بتنا نعيش خللا في الأنا بات كل شيء مريضا حتى الهواء الذي نتنفسه. من فقد أمه، من فقد بيته، من فقد مدينته، من هُجِّر، من اعتُقل، من يعاني في الغربة، استحالة العودة إلى الوطن، النازح من سيئ إلى أسوأ، اللاجئ، المغترب، في هذا الوجود المأساوي يطرح البعض كيف نخرج إلى الأمل، هل ثمة خلاص؟
في سوريا حالة أشبه بالهذيان، مدن مهدمة، مع غياب مشروع إعادة التعمير، نازحون ولاجئون، مع غياب أي حل لعودتهم، معتقلون يأخذهم الموت، ملاحقون ومطرودون، نحن داخل المأساة تماما.
ومعظم الكيانات السورية المعارضة والنظام متفقة على تهميش الوطن، إقصاء الخطاب العقلاني، ولادات، مخاضات، دم للركب، لسنا هناك ولسنا هنا، حتى بتنا وكأننا في وطن الكراهية.
الكراهية التي تؤسس لثقافة التدمير وإقصاء الآخر، والتي بوسعها تدمير الكثير، ولا يزال صوت البحث عن الذات، بعد الاقتلاع والنفي و.
غربتنا عن نفسنا، بل هجرة الذات عن ذاتها، وكأننا ذرات رمل في مهب الغياب.
نفي الذات يعني نفي التاريخ، ما معنى أن تنفى الذات المبدعة، الشاعرة، ما معنى أن يستبعد المفكر والفيلسوف، وأن ننزاح إلى عالم الكهف؟!
يبدو أن العربي يعيش ورطة وجود، ورطة تاريخية كبرى، فقط لو نظرنا حولنا نرى عالما من الخراب.
ذات بلا مشيئة، ذات منفية، ذات ضائعة تائهة، وكأن الجميع في دوامة المأساة.
فإذا وضع المستبد قناعا على وجهه، وأطلق شعاراته الكاذبة، فإنه اليوم يقف عاريا ولا يهمه العالم كله، لقد سقطت الأقنعة وبات في حفلة عراة هو وكل من وقف ويقف معه.
وهنا أستحضر ما قاله الدكتور أحمد برقاوي في تعريف الثورة: "الثورة إعلان صريح وواضح وعملي بعدم الاعتراف بالمستبد أو ما شابه ذلك، من قبل ذوات توحدت في ذات مجتمعية ذات قرار موحد"، لكن ماذا لو وقف العالم مع المستبد، وبدأ ينخر بالذات المجتمعة، بل ماذا لو بتنا أفرادا مثل الرمل، تلاحقنا المحرقة أنى ذهبنا، هل نلعب على الوهم، أم نقف أمام المرآة ونواجه أنفسنا ونكون كما نحن تماما، كما الشجرة التي تقف تحت المطر والشمس.
هل أسس العرب دولا، أم سلطات تمتلك دولا بفعل تقسيم سايكس بيكو؟
ولأننا أشبه باللاجئ، هذا الكائن الذي يعيش في المؤقت، الذي يعيش داخل المأساة سواء في الداخل السوري أو خارجه، ويبقى السؤال: هل كان ثمة دولة، أو دول بالمعنى السياسي والحقوقي والوطني والمدني، أم كان ثمة سلطات تمتلك دولا؟
هل أسس العرب دولا، أم سلطات تمتلك دولا بفعل تقسيم سايكس بيكو؟
وهل أسست النخب طرق حوار موضوعي بعيدا عن الشللية والتعصبات، من خلال المنابر التي أتيحت لها الجمعيات، اللقاءات، الرابطات، المجالس والائتلافات، للتعامل مع الواقع بروح جمعي، أم شكلت بيئات طاردة كونها لم تخرج من فخ المؤامرة؟
في سياق الحديث عن صناعة الأمل أستحضر فيلم الخلاص من شاوشانك: The Shawshank Redemption
استحضره لما فيه من إسقاطات على وضعنا الراهن، نحن مثل السجناء تماما، استطاع البطل استحضار الحياة إلى داخل السجن، والبحث عن الحياة خارج السجن، استطاع البحث عن كثير من الحلول، الموسيقى، تأسيس مكتبة، تأسيس حسابات بنكية بذكاء خارق، واستطاع أكثر أن يحفر بمطرقة صغيرة نفقًا من زنزانته يحرره من ورطة الوجود، والخلاص لم يكن سهلا لأنه مرّ بطريق الصرف الصحي، للوصول إلى العالم الخارجي، الخلاص صعب، لابد من الاعتراف المتبادل بذواتنا واختلافنا، لنصل إلى ذات حقيقية، للخروج من هذا الكهف.
الأمل شيء جيد، وربما أفضل الأشياء، والجيد لا يموت على الإطلاق.