بعد أن كشفت دراسة فريدة من نوعها عن وجود مواد كيميائية يستمر مفعولها إلى الأبد، وهي عبارة عن مركبات سامة موجودة في مستحضرات التجميل والعناية الشخصية التي نستخدمها كل يوم مثل الواقي الشمسي، والماسكارا المضادة للماء، وأحمر الشفاه، تبين أيضاً بأن هذه المواد يمكن أن تتسرب عبر البشرة لتصل إلى مجرى الدم.
ففي دراسة كان الباحث ستيوارت هاراد أحد من أجروها ونشرت خلال هذا الأسبوع في مجلة إنفايرومينت إنترناشيونال، نقرأ: "إن وضعت قليلاً من تلك المنتجات على بشرتك مباشرة، وهي مواد تحتوي على مادة البيروبولي فلوروألكيل، فمن المرجح لتلك المواد أن تتسرب عبر البشرة لتصل إلى الدم".
وفي مطلع شهر نيسان الماضي، حددت وكالة الحماية البيئية أول حد لها بالنسبة لوجود هذه المواد الكيميائية التي تتمتع بمفعول أبدي في مياه الشرب، عقب ظهور أدلة كثيرة تفيد بأنه يمكن لهذه المواد الموجودة في المياه الملوثة أن تشكل خطراً على صحة البشر، حتى أولئك الذين لا يتعرضون لها إلا بنسبة ضئيلة. ومادة البيروبولي فلوروألكيل هي عبارة عن صنف صنعه الإنسان من آلاف المركبات التي تربط بين الكربون والفلورين والتي جرى تطويرها لصناعة منتجات ومواد تغطية تعمل على إزالة الدهون ومنع تسرب الماء والزيوت والحرارة. وبما أن هذه المواد صارت تعرف باسم المواد الكيميائية ذات المفعول الأبدي لذا بوسعها أن تبقى في الطبيعة لقرون.
من المتعارف عليه بأن مادة البيروبولي فلوروألكيل بوسعها أن تصل إلى الجسم عبر الأغذية والمياه الملوثة وعبر استنشاق الهواء الملوث، وقد كان الجميع يعتقد في السابق بأن هذه المادة لا يمكنها اختراق حاجز الجلد، لكن هذه الدراسة أضافت دليلاً جديداً إلى الأدلة القليلة السابقة بأن الجلد عند تعرضه لتلك المادة بوسعه أن يمتصها.
ثم إن مواد التجميل المضادة للماء مثل الماسكارا، وأنواع أحمر الشفاه غير اللماعة التي توضع على الشفتين لفترات طويلة، والألبسة المضادة للماء كلها أمثلة على منتجات دخلت في صنعها مادة البيروبولي فلوروألكيل التي بوسع الجلد أن يمتصها بحسب رأي غراهام بيزلي، وهو أستاذ في الفيزياء بجامعة نوتر دام وقد أجرى تجارب كثيرة على هذه المادة الموجودة في المنتجات التي نستخدمها بشكل يومي. بيد أن هذا الدكتور لم يشارك في هذه الدراسة. ثم إن هذه المواد الكيميائية موجودة في المئات من المنتجات المستخدمة في البيوت ومستحضرات التجميل والعناية الشخصية والتي تشمل مواد التجميل، والألبسة المضادة للماء، ومعقم اليدين، وغير ذلك من المنتجات التي تكون على تماس مباشر مع الجلد، وعموماً ترتبط مادة البيروبولي فلوروألكيل بأنواع كثيرة من السرطانات والعقم وارتفاع الكوليسترول وانخفاض وزن المواليد، وغير ذلك من الآثار السلبية التي تؤثر على الكبد والغدة الدرقية وجهاز المناعة.
وسعت هذه الدراسة الجديدة من نتائج الدراسة الوحيدة التي أجريت على البشر حول خلط مادة البيروبولي فلوروألكيل مع الواقي الشمسي ووضعها على الجلد، حيث خلصت إلى أن الجلد يمكنه امتصاص هذه المادة، وعبر الاستعانة بنماذج مزروعة لجلد الإنسان، والتي تحاكي الجلد الحقيقي، درس الباحثون القدرة على الامتصاص بالنسبة لـ17 مركباً يستخدمه الناس عادة وتصنف بأنها مواد كيميائية يدوم مفعولها للأبد. وبذلك قدر الباحثون النسبة التي تمر عبر حاجز الجلد وتصل إلى الدم، ومجموع ما يمتصه الجلد فقط، ومجموع ما لا يمتصه على الإطلاق من تلك المواد.
مواد لا يجوز للبشر استخدامها
وكشفت نتائج الدراسة عن نسب امتصاص أعلى للمركبات ذات السلاسل الكربونية الأقصر بحيث تصل تلك المركبات إلى مجرى الدم بسرعة أكبر مقارنة بالمركبات ذات السلاسل الأطول. وقد شرح هاراد وهو أستاذ الكيمياء البيئية لدى جامعة برمنغهام بأنه من الأسهل تسرب المواد الكيميائية الأصغر عبر حاجز الجلد، لتتجمع بعد ذلك في الدم، ويعلق على ذلك بقوله: "إن ذلك يشير إلى أن البيروبولي فلوروألكيل الذي يتمتع بوزن جزيئي أقل والذي يقدم كبديل لحمض البيرفلورو الأوكتانويك مثلاً يمتصه الجلد بسهولة أكثر من غيره".
أما حمض البيرفلورونبينتانويك وهو مركب يضم سلسلة مؤلفة من خمس ذرات كربون، فتعادل نسبة امتصاص الجلد له 60% تقريباً، ومنه ينتقل إلى الدم. في حين يمتص الجلد سالفونات البيرفلوروبوتان وهو مركب مؤلف من سلسلة تضم أربع ذرات كربون، فيمتصه الجلد بنسبة تعادل 50% ليصل إلى الدم.
ولكن هناك مركبات أخرى تشتمل على تسع ذرات كربون مثل مادة سالفونات البيرفلورونونين لا تصل إلى مجرى الدم نهائياً، إلا أن الباحثين يتوقعون احتمال وصول سلاسل الكربون الأطول إلى مجرى الدم أخيراً بمرور مزيد من الوقت بعد امتصاص المادة عبر الجلد. إذ خلال فترة 36 ساعة من المراقبة التي أجريت لأغراض هذه الدراسة، لم يصل إلى مجرى الدم سوى نحو 14% من مادة حمض البيرفلوروأوكتانويك المؤلفة من ثماني ذرات كربون، في حين امتص الجلد أكثر من 38% منها، كما امتص الجلد 70% تقريباً من مادة سالفونات البيرفلورونونين على الرغم من عدم وصول أي شيء منها إلى الدم.
وعن ذلك يقول هاراد: "نعتقد بأنه من غير المرجح عودة تلك المواد بأثر رجعي، أي أنها لن تخرج من الجلد، بل يرجح لها أن تنتقل عبره"، وتعتمد الكمية التي تنتقل عبر الجلد على كمية المنتج المستخدمة، وتركيز مادة البيروبولي فلوروألكيل في المنتج ونوعها.
هذا وقد تخترق مستحضرات التجميل التي تشتمل على مادة البيروبولي فلوروألكيل الجلد عندما توضع عليه مباشرة بشكل أسرع من الأنسجة والملابس التي تشتمل على هذه المادة، لأنها بحاجة لأن تتحرر من تلك الأنسجة أولاً قبل أن تمتصها البشرة عبر التعرق أو الزيوت برأي الباحث هاراد.
أما الدكتور بيزلي فقد قال: "إننا محاطون على الدوام بمنتجات استهلاكية تحتوي سواء بشكل مقصود أم غير مقصود على مواد لا يجوز أن نستخدمها"، وذلك لأن نسبة الامتصاص تزيد في المواضع الرقيقة من الجلد مثل الرقبة والفخذ والإبط.
بيد أن بيزلي الذي يعتقد بأن المصدر الرئيسي للتعرض لتلك المادة هو مياه الشرب، يشكك بنسبة التعرض عند التماس مع الجلد، ولهذا يقول: "إننا نغطي أنفسنا بهذه المادة يومياً، لذا فإن التكهنات على المدى الطويل تشير إلى أنه بوسع كميات كبيرة من هذه المادة أن تخترق الجلد وبنسبة كبيرة".
في حين ترى كاتي بيلش وهي عالمة متخصصة بالصحة البيئية بأن الدراسة أثارت مخاوف حول عمليات الاستحمام اليومية باستخدام مياه ملوثة، وينطبق الأمر نفسه على السباحة في مياه تشتمل على نسب عالية من مادة البيروبولي فلوروألكيل.
أجرت هذه الدراسة بحثاً على المجموعة نفسها من المواد الكيميائية التي تخلف آثاراً على المناعة والهرمونات وعلى النمو والتطور، بالإضافة إلى أثرها في ظهور أنواع مختلفة من السرطانات، ولهذا تقول بيلش إن نوعية التعرض لا تغير من المخاطر التي تهدد الصحة بمجرد دخول مادة البيروبولي فلوروألكيل إلى الجسم، وتضيف: "لا يخضع الجسم هذه المواد الكيميائية لعملية الاستقلاب، لذا فإنها لا تتغير إن دخلت عبر الفم أو عبر الجهاز الهضمي أو في حال وصولها إلى الدم".
ويخبرنا هاراد بأن الخطوة المقبلة في البحث تتمثل بتعريض نماذج مزروعة من الجلد البشري لأنواع مختلفة من المنتجات الاستهلاكية التي تحتوي على مادة البيروبولي فلوروألكيل مع مراقبة عملية امتصاصها، أما بالنسبة للمستهلكين، فإنه ينصحهم بالابتعاد عن المنتجات التجميلية التي تحتوي على هذه المادة والبحث عن سلع خالية من مادة البيروبولي فلوروألكيل، ويخبرنا بأن الناس بحاجة إلى توعية بشأن ما يستخدم في المنتجات حتى يعرفوا ما يستعملونه بالضبط وما المواد الداخلة في تركيبة المستحضرات التي يستخدمونها.
المصدر: The Washington Post