يبدأ تسلسل الأحداث لدى القارئ، حين يصل الإشعار في العواجل الإخبارية، بضع كلمات مرصوصة بعناية، تشبه تتالي التفاصيل في الماضي القريب. تقديرُ حجم الأهمية يأتي بعد أن تنفتح المشاهد أمام العينين! وبدلاً من البقاء على الهامش، والاكتفاء بتلقي التحديثات من خلال قنوات التليغرام مثلاً، يغرق المرء في متابعة ما يجري أمام الشاشات! وبعد هنيهات يكتشفُ أنه قد تسمر، ليس في مواجهة الصور المرعبة للموت المجاني، والأفعال التي تسترخص قيمة البشر، وتقتله بدأب، بل في العجز وسيلان القدرة، والتحول إلى مجرد كتلة بشرية مشلوحة في أقصى اللوحة، وكأنها قطعة مُكمّلة، وضعها الرسام كي لا يترك فراغات حول موضوع لوحته!
منذ فاجعتنا بما حدث في حلب، حين تكالبت عليها قوى التوحش الأسدي الإيراني الروسي في العام 2016، فقدتُ طاقة متابعة الأخبار!
كان قراراً صريحاً وواضحاً، أخذته عن سابق إصرار، بعد أن كشفت مراجعات الطبيب عن تشنج عضلي يحيط بالرأس والرقبة، بات أقسى على الجسد من إمكانية التحايل عليه، فصار عليّ الالتزام بجرعات موصوفة من المرخيات العضلية، وأدوية لمواجهة كآبة صارت مزمنة!
على الإيقاع ذاته، تصبح غزة هي حلب السورية، التي عاثت في شوارعها وأبنيتها وسكانها البراميل المتفجرة، فحولتها إلى مجرد ركام إضافي، مازال عالقاً في دواخل السوريين كنصل ينتج عنه الدم والألم
غزة في أيامنا الراهنة، ككل مدن الشام، هي بعض من معادلة جسد، لا يجد خلاصه بأدوية عابرة، أو حتى محاولة التخلص من الصدمات التي تحدثها فينا مشاهد الرعب، إنها جزء من قنوات غير منظورة يعبرُ فيها دمنا المتخم بالأحلام والآمال! وحين تخضع لمقتلة كهذه، فإن الصدمة التي تنتج رضاً تتأبد في لحظتها، لتُكرر في هيئتها وشكلها، كل ما مر علينا من فجائع مضنية! وتشاركُ فيها الدول الغربية التي تمنح إسرائيل رخصة الدفاع عن نفسها، دون أن ترى في الوقت نفسه حجم الإجرام والحقد الذي لطالما دخل به جنودها حروبهم ضد الفلسطينيين والعرب، فلا يتوقفون عن إبادة المدنيين تحت أي وازع!
وعلى الإيقاع ذاته، تصبح غزة هي حلب السورية، التي عاثت في شوارعها وأبنيتها وسكانها البراميل المتفجرة، فحولتها إلى مجرد ركام إضافي، مازال عالقاً في دواخل السوريين كنصل ينتج عنه الدم والألم.
واقعة حلب لم تكن مجرد حدث إخباري، أو هجوم سريع خاطف استعاد نظام الأسد فيه الجزء الذي فقد السيطرة عليه من المدينة، بل كانت جريمة تسلسلية رتبت الدول الإقليمية والغربية تفاصيلها، بالاتفاق مع الدول المساندة للنظام، إيران وروسيا، التي دعمت الهجوم على الأرض، وقامت عبر طيرانها بعمليات القصف من الجو، ما أدى إلى تهجير الحلبيين وإبادة الحاضرة التي خرجت عن القيد الأسدي، وكان يمكن لها أن تكون مثالاً مختلفاً، لو أن ظروفاً مغايرة وإرادات أفضل تحكمت بما جرى فيها، وطبعاً لو أن العالم سمح للسوريين الثائرين أن يمضوا في مشروعهم المدني الديمقراطي، ولم تتم عملية تنميطهم وقولبة حراكهم، وتعليبهم في صندوق الإسلام السياسي والجهادي، بعد أن احتلت واقعهم صراعات القوى المسلحة، ومحاولات الفصائل المتطرفة الاستئثار ليس بالسيطرة على شوارع حلب بل على وجه الثورة السورية كلها!
لم يكن سكان المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، من المنتسبين أو المنضوين تحت ألوية الفصائل الجهادية، فهم متنوعو المشارب والتوجهات، وهم مجتمعات كاملة، لا يمكن للعقل أن يقبل بإسباغ الصفات المستنكرة عليهم، ما يعني أن شهود ما جرى في حلب عرفوا بأن ما يجري جريمة مرخصة، لا مشكلة في أضرارها الجانبية من مجازر وتهجير بعد الدمار والسحق!
وبالتوازي، لا بد من القول إن غزة هاشم ليست حركة حماس! كي يؤخذ سكانها من نساء وأطفال ورجال بجريرة ما فعلته وتفعله كتائب القسام، بل هي وطن وشعب، سيبقى حاضراً في مضارع الزمن، ولن ينفى حتى وإن جاءته كل جيوش القتل والإرهاب!
إن العالم بدوله وشعوبه وأحزابه وجمعياته ومنظماته المحلية وبهيئاته الدولية والإقليمية، تعاطف معنا كسوريين وأقرّ للفلسطينيين بحقوقهم، لكنه ترك القتلة يكملون جرائمهم، حتى صارت المجريات والوقائع مجرد أحداث من الماضي!
كان يمكن للخلاص من الدولة الأسدية وداعميها من إيرانيين وروس ومن إسرائيل أيضاً أن ينتج معاني مختلفة، لو توفرت شروط أخرى، يأتي في بدايتها ونهايتها أن يعيش الناس دون إرهابهما، فإيران وروسيا لم تتركا أي منطقة خارجة عن سيطرتهما دون أن تدمرا مقومات الحياة فيها!
لكن كل القوى التي تمكنت من التدخل في قصتينا المأساويتين راقبت ما جرى بعينين مفتوحتين، وبعور أخلاقي كارثي، يمكن تلخيصه بالقول إن العالم بدوله وشعوبه وأحزابه وجمعياته ومنظماته المحلية وبهيئاته الدولية والإقليمية، تعاطف معنا كسوريين وأقرّ للفلسطينيين بحقوقهم، لكنه ترك القتلة يكملون جرائمهم، حتى صارت المجريات والوقائع مجرد أحداث من الماضي!
وحتى أولئك اليساريون والقومجيون الذين كانوا يُطنبون في دعم القضية الفلسطينية، ويحكون ليل نهار عن شعبها المظلوم، لم يقولوا كلمة حق في مشاهد موتنا اليومية، وذبح أطفالنا بسكاكين الميليشيات الشيعية الطائفية، وبقنابل الموت الروسية، لا بل شمتوا بهزيمة حلمنا، بعد أن برعوا في وصمنا بالعمالة والارتهان للمؤامرة، مرددين ادعاءات نظام باع البلاد كلها لمن حمى عرشه الدموي!
لا يمكن لإنسان عاش دفقة الأدرينالين العالية التي حملها التخلص من سيطرة النظام على حياته أن يعود إلى العتبة الأدنى، رغم شعوره بالخذلان من كل من حوله.
هنا، ستعيش في داخل المهزوم أفاع تلدغه صباح مساء، تسمم روحه، وتملئه بالأذى، فلا يمكنه أن يتخلص من فحش الخيانة وتكشف الوجوه عن المخادعين القذرة، إلا بالرضوخ لصوت العقل والحلم في اتحادهما المثالي الذي يظهر في فلسفات الثورات المتكررة؛ إنها جولة مرت أو ستمر، وستعقبها جولات أخرى، وما الهزيمة الظاهرة على سطح الوقت، إلا وجه لانتصار أخلاقي عميق وكبير، مازلنا نحافظ عليه رغم تبعثر قوانا وتشتتنا في أصقاع المعمورة!