icon
التغطية الحية

القيم الجمالية وعلاقتها بتطور الوعي الفردي والاجتماعي

2024.07.19 | 09:35 دمشق

5675657
(لوحات محمود مرعي - منحوتات تامر رجب)
+A
حجم الخط
-A

تختلف أهمية الفنون في كلَّ مجتمع من المجتمعات، ولكنَّها في مجملها تعبِّر عن حاجة الإنسان الجمالية، هذه الحاجة التي تدفعه إلى تطوير وعيه الجمالي، بدءاً من البحث عن الحاجات النفعية والأساسية ووصولاً إلى حاجاته الكمالية والجمالية، ما يعني أنَّ الإنسان هو المخلوق الجمالي الصرف الذي اشتغل على حواسه الجمالية المختلفة لتكون أشد رهافة ودقَّة لتلقي الموضوعات الجمالية، وذلك من خلال استكشافه مجالات الفنون المختلفة، وممارستها والاستمتاع بها، وتوسيع آفاقه الجمالية، ليرتقي وعيه تدريجياً، وتتطور خبراته الجمالية يوماً بعد يوم، ممارسةً وتذوُّقاً، سواء في مجال فن الموسيقا أو الشعر أو الرسم أو غيرها من الفنون.

يقوم الموضوع الجمالي في الأصل على مادة محددة يشتغل عليها، كالإيقاع المرتبط بالموسيقا، والحركات المرتبطة بالرقص، واللغة المرتبطة بالشعر، والحجر المرتبط بالنحت، ثمَّ يقوم الموضوع الجمالي بتحويل  تلك المادة الخام الطبيعية إلى مادة فنية بواسطة أدوات مختلفة؛ كالريشة المستخدمة في الرسم، والإزميل في النحت، وبذلك يتم اتحاد الذات بالموضوع، "ويتحوَّل إلى موضوع للتذوق الفني والحكم الجمالي من خلال الرؤية الإنسانية المدرَّبة التي تتذوقه وتبدعه، ولا تتَّخذ الاستطيقا الجمال الطبيعي موضوعاً لها إلا بقدر ما يكون هذا الجمال الطبيعي مُشكَّلاً من خلال فنٍّ من الفنون، ومُجسَّداً في تعبير فني"[1]، فعلى سبيل المثال يتَّخذ الشاعر من اللغة مادة أولية لخلق صوره الشعرية، وعن طريق الأخيلة والرؤى التي يبثُّها في هذه الصور يستطيع أن يضمِّن قصائده قيماً جمالية، يقصد من خلالها بلوغ النموذج الجمالي الأعلى، والشيء نفسه ينطبق على فن الموسيقا والنحت والرقص، وعندما يتلقَّى الفرد الموضوع الجمالي نكون قد وصلنا إلى تشكيل كامل، يمكن أن نطلق على هذا التشكيل حينذاك اسم التجربة الجمالية Experience  Aesthetic.

***

قبل ارتباط الموضوع الجمالي بالمادة يكون مجرد فكرة قابلة للتجسيد الحسي من خلال النماذج الفنية المختلفة، بمعنى انتقال الموضوع من الفكرة المجردة إلى الشكل المحسوس، وبذلك يصبح جاهزاً لتتلقاه الحواس، ومن ثمَّ ينتج عن اتصال الحواس الجمالية بالموضوع الحسي انفعالٌ جماليٌ، بعد خوض تلك الحواس التجربة الجمالية كاملة، وهذا الانفعال مهم جداً حتى نطلق على هذه التجربة اسم (تجربة جمالية)، "فالأشياء القيِّمة جمالياً وظواهر الواقع تنعكس قبل كلِّ شيء في التقبُّل الجمالي الذي يمكن أن يكون بصرياً أو سمعياً، ولكن ليس كلُّ تقبُّل لظواهر الواقع هو تقبُّل جمالي، بل يقصد بالجمالي التقبُّل الذي تصاحبه انفعالات خاصة كالارتياح النفسي أو الاستمتاع"[2]، وتتنوع الانفعالات التي تصدر عن التذوق الجمالي بين مشاعر الغبطة المصاحبة لتلقي الجميل، ومشاعر السمو المصاحبة لتلقي الجليل، ومشاعر التعاطف المصاحبة لتلقي العذابي، ومشاعر النفور المصاحبة لتلقي القبيح. وبناء على ذلك، لا بدَّ أن تتجسد القيمة الجمالية في الواقع، وذلك من خلال الفن الذي يعطي الموضوع شكلاً حسياً معيناً، إذ لا يجب أـن تبقى حبيسة داخل وعي الفنان وحده؛ لأنَّ نقلها إلى الواقع يمكِّن الآخرين من إدراكها والإحساس بها ومعاينتها ومعاناتها.

التجربة الجمالية هي تجربة فردية من حيث التحقُّق ولكن القيم التي يتمثلها الفرد في هذه التجربة هي قيم اجتماعية حاضرة في وعيه الجمالي على صعيد البنية الثقافية وبنية القيم الروحية والحاجة الجمالية

حين يقوم الفنان بخلق فنه يضع في لاوعيه الشعوري هدفاً يسعى إلى أن يصل إليه وهو المثل الأعلى الجمالي، ويعبِّر من أجل ذلك عن رؤاه وعن وعي المجتمع الذي ينتمي إليه، مقدِّماً رؤية شمولية منسجمة، بحيث لا يبقى "العمل الفني عملاً فردياً كما لو كان حلماً، فالمعايير الجمالية التي نقدِّر بها العمل الفني معايير اجتماعية مشتركة، ولا تقتصر على ذوق فردي خاص"([3])، وبذلك ينتقل الفن من حيِّز الإبداع إلى حيِّز التلقي، ويكتسب الوعي الجمالي الفردي بعده الاجتماعي الذي يسهم في بناء فكر جمالي إنساني شامل.

***

إنَّ المظهر الحسي الذي تظهر به الفكرة هي حامل الموضوع الجمالي، سواء أكان جميلاً أم قبيحاً أم جليلاً أم عذابياً أم تراجيدياً، بمعنى أنَّ حسية الموضوع الجمالي أمر لا بدَّ منه، وعلى الرغم من حديثنا عن حسية الموضوع الجمالي إلا أنَّ تلك الموضوعات مكرسة لتلبي الحاجات الروحية لدى الإنسان، على اختلاف مستوى هذه الحاجات من مجتمع إلى آخر، بل داخل المجتمع الواحد، وعلى اختلاف مراحل تطوره الاجتماعي، وتطور الوعي الفردي ضمن الوعي الاجتماعي؛ لأنَّ "أيّة دراسة سوسيولوجية لموضوع جزئي ومحدود لا يمكنها أن تتناول المظهر الواعي لهذا الموضوع إلا بإدراجه ضمن كلٍّ ليس شاملاً، وإنَّما هو في جميع الحالات أكثر اتساعاً من الموضوع الجزئي والمحدود"[4]، فالتجربة الجمالية هي تجربة فردية من حيث التحقُّق، ولكن القيم التي يتمثلها الفرد في هذه التجربة هي قيم اجتماعية حاضرة في وعيه الجمالي على صعيد البنية الثقافية وبنية القيم الروحية والحاجة الجمالية.  

وبناء على العديد من التجارب الجمالية التي يخوضها الفرد يخرج محمَّلاً بوعي جديد يحفِّز خياله وإبداعه، ويعيد بناء علاقته بذاته وبالعالم من حوله، وبالتالي يتغير الوعي الاجتماعي برمته، بغض النظر عن المدة التي سيحدث فيها هذا التغيير، ولا يخفى على أحد تأثير الوعي الفردي بالوعي الاجتماعي والعكس بالعكس، ما يجعل القيم الجمالية السائدة في فنون مجتمع ما تختلف في تراتبيتها وأهميتها، ظهوراً وغياباً، بقاءً وزوالاً، وبذلك يصبح الفن المحمَّل بالقيم الجمالية شكلاً من أشكال الوعي الاجتماعي، وسبباً مهماً في رقيه وتطوره، وسعيه الحثيث نحو المثل الجمالي الأعلى.


[1]  أميرة حلمي مطر: مقدمة في علم الجمال وفلسفة الفن ، ، دار المعارف، القاهرة، ط1، 1989، ص 9.
[2] جماعة من الأساتذة السوفييت: أسس علم الجمال الماركسي اللينيني، ص 64- 65.
[3] أميرة حلمي مطر: مقدمة في علم الجمال وفلسفة الفن ، ص 19.
([4]) لوسيان غولدمان وآخرون: البنيوية التكوينية والنق*د الأدبي، ص 35.