كثيرة هي الثيمات التي استُخدمت وما زالت تُستخدم في الشعر العربي، فيختلف تقديمها من شاعر لآخر، ومن حقبة زمنية إلى أخرى. وقد يكون أكثرها جمالًا وحضورًا في كل الأزمنة؛ القمر، الذي في الغالب كان تناوله خلال العصور؛ على أنه ذا قيمة جمالية، فغصت أبيات الغزل والمديح به، كصفة واستعارة حينًا، وفي تركيب الصورة الشعرية أحيانًا أخرى.
وكون الشعر حالة من التأمل والإبحار في تفاصيل الحياة التي قد يجدها اللا شاعر؛ عادية، في حين تشكل للشاعر فضاءً رحبًا، يستلهم منه معانيه ليقدمها إلى القارئ في قالب فني عذب. نجد أن القمر بقي حالة عمومية تخطت الشعر لتدخل في اليومي، كتشبيه للجمال التام، وكرفيق للعاشق والمسافر في ليالي السهر، وبين هلال وبدر حملت القصائد القمر منذ شعرية العصر الجاهلي إلى اليوم. لذلك لا يعد التشبيه بالقمر أمرًا حديثًا أو صفة مستحدثة، فقد حضر البدر مثلًا في الموروث العربي؛ تعبيرًا عن حالة الجمال التام، كما في قول عنترة:
وَبَدَتْ فَقُلْتُ البَدْرُ ليْلَةَ تِمِّهِ
قدْ قلَّدَتْهُ نُجُومَهَا الجَوْزَاءُ
كما تختلف دلالات واستخدامات القمر الشعرية فهو عند الخنساء تعبير مجازي عن السيادة والرفعة والتميز. حيث شكلت بصورة شعرية انسيابية؛ عائلة من النجوم يتوسطها القمر، الذي يهوي من بين نجومه في لحظة انجلاء الدجى، حيث تقول:
كُنّا كَأَنجُمِ لَيلٍ وَسطَها قَمَرُ
يَجلو الدُّجى فَهَوى مِن بَينِنا القَمَرُ
يا صَخرُ ما كُنتُ في قَومٍ أُسَرُّ بِهِم
إِلّا وَإِنَّكَ بَينَ القَومِ مُشتَهِرُ
فَاذهَب حَميداً عَلى ما كانَ مِن حَدَثٍ
فَقَد سَلَكتَ سَبيلاً فيهِ مُعتَبَرُ
كما جاء استحضار القمر لدى الشاعر أبو فراس الحمداني في السياق ذاته حين قال:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم
وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر
في حين استرسل أبو الطيب المتنبي في استحضار القمر فأنزله منزلتين في قطعة شعرية واحدة:
كَشَفَت ثَلاثَ ذَوائِبٍ مِن شَعرِها
في لَيلَةٍ فَأَرَت لَيالِيَ أَربَعا
وَاستَقبَلَت قَمَرَ السَماءِ بِوَجهِها
فَأَرَتنِيَ القَمَرَينِ في وَقتٍ مَعا
فعندما قال: "استقبلت قمر السماء بوجهها" وضع الثيمة في موضعها المباشر بلا مراوغات لغوية ومجازية، أما في الموضع الثاني "فأرتني القمرين في وقت معا" فالشاعر هنا أعاد استنساخ القمر في وجه محبوبته، بلعبة مجازية ذكية. وفي رؤية أخرى قيل إن "القمرين في وقت معا" هي دلالة على اجتماع الشمس والقمر في وجه محبوبته. وبين هذا وذاك عبر الشاعر الأندلسي ابن زيدون عن القيمة الزمنية للقمر حين قال:
ما جالَ بَعدَكِ لَحظي في سَنا القَمَرِ إِلّا ذَكَرتُكِ ذِكرَ العَينِ بِالأَثَرِ
ولا بد من الإشارة إلى أن الإنسان حين أراد احتساب الوقت أو الزمن لجأ بداية إلى القمر ودورته. فضلًا عن كونه يحمل رمزية دينية فالهلال شعار الديانة الإسلامية، ودلالة على شهر الصوم.
الارتقاء إلى المتخيل
لم يقف استخدام القمر شعريًا عند حد الوصف أو التعبير عن حالة معينة، بل كان ملازمًا للشاعر مهما اختلف طرحه وتباينت أحاسيسه، كما خرج من إطاره المادي ليدخل في المتخيل والمخاطب، وقد حفلت شعرية المراحل اللاحقة بهذا النوع من الاستحضار. فهنا مثلًا، يناجي الشاعر بدوي الجبل قمره، يبادله الأحاديث ويفشي له الأسرار، فيقول:
هات حدِّثني فقد طابَ السَّمر وأنِرْ ظلمةَ نفسي يا قمرْ
سُوَر الحُسن فلا تبخل بها إنَّ للشاعر ألحانَ السُّوَرْ
آهٍ للأزهارِ مِن شاعرة تجهلُ الأوزانَ والشِّعر شعورْ
آهٍ للأزهارِ في أوراقها كتبَ الدَّهرُ رواياتِ العصورْ
هذه الأغصانُ هزَّتها الصَّبا نضرات كنَّ بالأمسِ خصورْ
وثغورُ الوردِ في أكمامهِ كنَّ للغيدِ المعاطيرِ ثغورْ
هذهِ أسرارُ جنَّاتِ الرُّبى فاسمع السرَّ وصنهُ يا قمرْ
أما عن شعرية المراحل اللاحقة فقد اجتاز الشاعر التوظيف التقليدي للقمر، فمنحه أبعادًا مجازية ورمزية، حلّق من خلالها في المخيال الشعري، ومن الملاحظ قلة استخدام البدر إذا ما قارناه بالعصور السابقة، وهذا ما أشارت إليه نازك الملائكة في كتابها "قضايا الشعر المعاصر". إلا أن هذا التباين في استحضار الثيمة لم يقلل من شأنها بل أعطاها مساحات واستخدامات أغنى وأجمل. وربما نستطيع الجزم بندرة الشعراء الذين لم يتطرقوا إلى هذه الصورة، شأنها شأن صور كثيرة كالبحر والسماء...
ومن هذه المرحلة يقول محمود درويش:
عندما يسقط القمر
كالمرايا المحطَّمة
يكبر الظلُّ بيننا
والأساطير تحتضر
لا تنامي.. حبيبتي
جرحنا صار أوسمة
صار ورداً على قمر…
وكما أطلقت القصيدة الحرة أو قصيدة النثر، العنان للمخيال الشعري ولم تؤطره ضمن قوالب إلزامية، بقي العديد من الشعراء ينظرون إلى القمر بقيمته الجمالية البكر، والانتصار لها، وفي هذا السياق يقول الشاعر السوري حكمة شافي الأسعد:
لا تصدقي هؤلاء الشعراء
الذين شبّهوا عينيكِ بالغابة... وتدرّبوا على استخدام الفؤوس
الذين شبّهوا يدَكِ بالوردة... وقطفوا لكِ الوردَ لتصدقيهم
الذين شبّهوا ابتسامتكِ بالنهر الهادئ... وبنوا على النهر السدود
الذين شبّهوا وجهكِ بالقمر... ثم ادّعوا أنّ القمرَ حجرٌ معتِمٌ يسرق الضوءَ من الشمس
الذين شبّهوا نظرتكِ بالرصاصة... وصنعوا البندقية
ومن خلال المقطع السابق نلاحظ أيضًا، توظيف الثنائيات المتضادة في الاشتغال على ثيمة القمر، وتظهر من خلال هذه الثنائيات الحالة الشعورية / الشعرية التي ألقت بظلها أو نورها على الشاعر ليتأرجح بين حالتين، فحينًا يرى القمر بوجه محبوبته، وأحيانًا يحيله مادة صلبة معتمة لا فائدة منها. وقد تكون هذه الحالة سمة من سمات المرحلة، وقيمة إبداعية تعكس شعور الإنسان الحالي.
وأخيرًا، تطلعنا الشاعرة السورية فاطمة كريم على ذاكرة قمرها، فتقول:
وفقاً لذاكرة القمر
الليل صياد الجنون
الليل مُغترَفُ الثكالى والسكارى والحيارى والمساكين الذين يخيفهم طيف الديون
وفقاً لذاكرة القمر
وهماً يكون الضوء أو
قد لا يكون…
وجدوه يوماً خائفاً
والنجمُ معتقلٌ تكبله الظنون
وفقاً لذاكرة القمر
أنا ليلةٌ نبشت نوايا الغائبين وأقفلت أسماءهم
أنا بعض ذرات الكمون
في النهاية وبينما يعتبر القمر في الثقافة العربية سمة للأنس، نجد أنه في الثقافات الغربية رمزٌ للوحشة والخوف، إضافة إلى أنه حظي لدى العرب بمكانة شعرية عالية، وبقيمة ورمزية كبيرة، فهو: الجمال، والرفيق الذي لا يخفى، والرمز الديني. حتى ذهب بعضهم إلى إطلاقه كاسم شخصي "قمر، هلال، بدر". ومهما تباينت استخداماته ورؤيتنا له، يبقى القمر أنيسًا يضيء وحشة الليل، وشاهدًا على ما جرى وسيجرى في هذا الكون.