إن الفن التشكيلي المعاصر بالعموم صناعة غربية بامتياز، وهو نتاج طبيعي ومنطقي لمسيرة الفن التشكيلي ابتداء من عصر النهضة وتطور فن الشكل إذا أخذنا بالاعتبار تأثر الفنانين عموما بالنظريات الفلسفية والمعرفية المستحدثة، وتطور المجتمعات الغربية اقتصاديا وثقافيا ومعرفيا، فالفنان والفن بالعموم يتفاعل بشكل أوتوماتيكي مع متغيرات بيئته ومجتمعه.
بدايات الفن التشكيلي المعاصر عند العرب
لم تكن البلدان العربية بمنأى عن التأثر بهذه التغيرات التي كانت تطرأ بشكل متسارع على المجتمعات الغربية خلال أواخر حكم العثمانيين وتحديدا منذ الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت عام 1799 وكان قد جلب معه علماء وباحثين ودارسين وفنانين تشكيليين، ومن بعدها بدأت البلاد العربية بالخضوع لسيطرة الغرب بالتدريج حتى خضعت تماما وبشكل كامل إما بالاستعمار المباشر أو بالانتداب، ونتيجة لذلك فقد مرت البلاد العربية بتغيرات سياسية وفكرية واجتماعية واقتصادية أثرت بشكل مباشر في نمطية تفكير الفنان التشكيلي العربي. فانتشر الفن الغربي ومدارسه الرائجة بشكل متتابع على كل البلاد العربية التي كانت خاضعة بالكامل للاستعمار الغربي بكل أنواعه حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
ومما لا شك فيه أن الفنانين الغربيين الاستشراقيين كان لهم الدور الأبرز في تأثر الفنان التشكيلي العربي المباشر ومحاولة الاقتداء بالفنان الغربي، وبالوقت نفسه أوقع ذلك الفنان العربي في حالة من التشويش والازدواجية القائمة على رغبة الفنان التشكيلي العربي بإنتاج فن يضاهي جودة وإتقان الفنان الغربي من دون فقدان هويته الثقافية العربية حيث كانت النزعات القومية والأيديولوجيات القائمة عليها في أوجها في ذلك الزمان.
إشكاليات الفن التشكيلي العربي المعاصر
إن مصدر الإشكالية التي سبق ذكرها في الحقيقة هو الفراغ الفني الذي ساد البلدان العربية في أواخر حكم العثمانيين، فقد كانت البلاد العربية قبل ذلك محتفظة بتقاليدها الفنية القديمة كالرافدية والمصرية ومن ثم بتقاليدها الإسلامية التي منحتها شخصيتها وهويتها الفنية المتفردة والمتماسكة .
هذه الهوية التي قرر الفنان التشكيلي العربي لاحقا أن يستعيدها بشكل حداثي، وذلك لأن التجربة الاستشراقية على يد فنانين أمثال دولاكروا وماتيس وبول كيلي وغيرهم والذين قاموا بتصوير ورسم مشاهد من عادات المجتمع الشرقي، كانوا قد نبهوا الفنان العربي إلى القيمة الفنية العظيمة التي يحملها في طيات تراثه الثقافي والفني، وخاصة أن الاستشراقيين كانوا في معظمهم صادقين فعلا في إعجابهم بنمطية الحياة في الشرق وقاموا بصياغتها على شكل لوحات غاية في الروعة أبهرت الفنان العربي قبل غيره.
بعد ذلك تكونت عند الفنان العربي رغبة ملحة لتكوين هوية فنية مستقلة وظل مسكونا بهاجس الانعتاق من تبعيته للمرجعية الغربية، تلك المرجعية التي كانت سمة عامة لكل ممارساته الفنية على مر العديد من السنوات حيث استوعبت التجربة التشكيلية العربية على الرغم من محدوديتها كل مدارس الفن التشكيلي الغربي الحديثة.
فبدأ الفنان العربي بتجريب كل مايمكن أن يخدم هدفه وهو التخلص من هذه التبعية، وقد رافق ذلك كله إشكالية مازال الفنان العربي يعاني منها حتى الآن، ألا وهي غربته وانعزاله عن مجتمعه.
غربة الفنان التشكيلي العربي المعاصر
كان وما زال الفنان التشكيلي العربي يعاني من إشكالية غربته عن مجتمعه ومحيطه، فالهوة بين الفن والمجتمع وما بين الفنان والمتلقي كانت كبيرة جدا وآخذة بالاتساع والأسباب كثيرة منها ما ذكرناه سابقا بالإضافة إلى أسباب دينية وتاريخية وتعليمية .
فلا توجد ثقافة فنية حقيقية لدى معظم الشعوب العربية حيث لا يوجد اهتمام حقيقي من قبل المؤسسات التعليمية بتثقيف المجتمع فنيا، وأيضا لأسباب سياسية، فالحكومات الاستبدادية التي ورثت حكم المستعمر في البلاد العربية لم توفر للفنان مساحة من الحرية كافية للابداع الفني وليمارس فنه كما يحب ويرغب في التعبير عن نفسه وعما يريد، كل هذه الأسباب أدت إلى انعزال الفنان بشكل شبه كامل عن محيطه ومجتمعه مما زاد من بعد المسافة بينه وبين جمهوره.
وبناء على كل ما سبق نستطيع القول إن الأسس التي قام عليها الفن التشكيلي العربي المعاصر هي التي أدت بالنتيجة إلى هذه الغربة القاسية التي تبعد الفن والفنان عن جمهوره وعن الدور المؤثر الذي من المفترض أن يلعبه في المجتمع، فقد كانت البدايات قائمة على استجلاب طرق ونماذج الفنون الغربية ومحاولة فرضها على المجتمع في بيئة شرقية عربية إسلامية، هذه البيئة التي لم تكن لتتقبل هذا النوع من الفن الغريب والهجين المستورد من الخارج، كل ذلك أدى بالنتيجة إلى عزوف المتلقي بشكل كامل تقريبا عن المنتج الفني وعن التفاعل معه، والذي من المفروض أنه يخاطبه بشكل مباشر.
ذلك لأن الناتج الفني مبني معرفيا وثقافيا على قواعد بعيدة كل البعد عن الواقع المعاش للمتلقي العربي، وهذا الواقع ليس له أي علاقة من قريب أو بعيد عن المنشأ، عدم الانسجام هذا أدى إلى عزلة كاملة للفنان حتى نجد أن أقرب المقربين للفنانين والمشتغلين في الفن لم يكن لديهم أي اهتمام بما يحاول الفنان القيام به وحتى أنه قد يتعرض للسخرية أحيانا كثيرة، كل ذلك كان يضاعف من غربة الفنا ن التشكيلي العربي وانعزاله .
كان ذلك مختصرا بسيطا لأسباب غربة الفنان التشكيلي العربي عن جمهوره ومجتمعه، هذه الغربة والعزلة المؤلمة هي السبب الحقيقي وراء هوس الفنان التشكيلي العربي بتكوين هوية فنية متفردة معاصرة وأصيلة، يستطيع من خلالها أن يقوم بدوره الطبيعي وهو أن يكون مرآة مجتمعه .
وتحت إلحاح هذه الرغبة والمحاولات المتكررة والعديدة وعلى مدى عدة أجيال من الممارسة الفنية لا نستطيع أن نقول إن التشكيلي العربي قد نجح تماما من الانعتاق من سطوة الفنون الفربية، وأيضا لايمكننا أن نتجاهل تجارب غاية في الروعة في مجال إعادة تأصيل الفن التشكيلي المعاصر وعلى رأسها التصوير الحروفي المعني بإبراز جمال الخط العربي من خلال لوحات تجريدية ممتعة وجذابة ولها خصوصيتها العربية .
ختاما يمكننا القول إن المجتمعات العربية أقرب إلى النضج الفني من أي وقت مضى على الرغم من أن المسافة لا تزال بعيدة بين الفنان والجمهور بشكل عام وأيضا يجب أن نعترف أن العولمة وانتشار وسائل التواصل وسهولة الوصول للمعلومات عن طريق شبكة الإنترنت أسهمت في تقارب الفنان مع محيطه .
ويمكننا القول أيضا إن الفنان التشكيلي العربي على الطريق الصحيح لتكوين هوية بصرية خاصة تنتمي إلى هذا الشرق العظيم الذي كان على مر التاريخ قادرا على استيعاب أي حضارة وافدة ومن ثم صهرها وإعادة إنتاجها أكثر بهاء وجمالا.