خلال السنوات العشر الأخيرة، لجأ عدد كبير من الفنانين السوريين إلى فرنسا التي فتحت للسوريين أبواب سفاراتها في دول الجوار، ومنحت الكثير منهم تأشيرة سفر "D" لتقديم طلب اللجوء داخل الأراضي الفرنسية.
وعلى الرغم من أن عمل طالب اللجوء في السفارات بالقطاعات الفنية والثقافية والإعلامية قد يدعم ملفه ويساعده بالحصول على تأشيرة السفر، إلا أن الفنانين يُصدمون بالواقع فور وصولهم إلى فرنسا؛ حيث يواجهون العديد من الصعوبات والتحديات لإكمال مسيرتهم الفنية، فليس من السهل عليهم أن ينسفوا مسيرتهم الفنية التي بنوها في بلدهم الأصلي وأن يبدؤوا من جديد.
عندما يصل الفنان السوري إلى فرنسا بصفة طالب لجوء، سيجد نفسه تائهاً ومشوشاً وغير قادر على إيجاد سبيل لمواصلة عمله، بسبب عدم معرفته بالمنظمات والمؤسسات الثقافية التي تقدم الدعم للفنانين اللاجئين، حيث لا يوجد أي تواصل بين هذه المؤسسات ومراكز اللجوء، وبسبب وجود حاجز اللغة أيضاً، الذي يعيق الفنان ويجعله عاجزاً عن البحث بشكل منفرد.
ورشة حياكة وخياطة بدل الفن التشكيلي!
تقول ليزا (33 عاماً) فنانة تشكيلة سورية تقيم في نيس: "عندما أخبرت المساعد الاجتماعي بأنني فنانة تشكلية، وأنني أبحث عن مكان أو مساحة أستطيع فيها أن أرسم بسبب صغر مساحة غرفتي في الـ كادا (المكان الذي يقطن فيه طالبو اللجوء)، لم يبدي أي اهتمام ولم يساعدني في التواصل مع أي جمعية فنية في فرنسا، وإنما اكتفى بدعوتي إلى ورشة حياكة تقام للنساء في المركز لأتعلم الخياطة وأستطيع العثور على عمل بسرعة بعد حصولي على إقامة حسب نصيحته".
تنميط فني
وبعد العثور على المؤسسات الثقافية التي يُفترض بأنها تدعم الفنانين اللاجئين، تأخذ رحلة معاناة الفنانين السوريين في فرنسا شكلاً آخر، لتتعلق المسألة بمشكلة التمييز والتنميط من قبل بعض المؤسسات الفنية والعاملين فيها، حيث يتم تهميش مشروع الفنان- اللاجئ وما يقدمه فنياً على حساب الاهتمام بقصة لجوئه، ويتم توجيهه لصناعة أعمال فنية لها قالب سياسي محدد.
في هذا السياق يخبرنا ماريو جروة (27 عاماً) فنان تشكيلي ونحات يقيم في باريس: "ربما كنت محظوظاُ أنني تعرفت على الجمعيات الفنية فور وصولي إلى فرنسا، وأنني التقيت بعدد كبير من الفنانين الفرنسين والعرب الذين ساعدوني بطريقة أو بأخرى للتحضير لامتحان "المدرسة الوطنية للفنون الجميلة في باريس" التي سأتخرج منها بعد أشهر قليلة، وخلال رحلتي تلك تعرفت على ورشة الفنانين في المنفى (l'atelier des artistes en exil)".
ويضيف جروة: "إلا أنني تركت العمل في ورشة الفنانين في المنفى لأسباب مستفزة، فتعاملهم مع الفنان يأتي بالدرجة الأولى لكونه لاجئاً وليس فناناً، فآخر ما يكترثون له هو الهوية الفنية. ففي المشاريع التي يتم تقديمها في ورشة الفنانين بالمنفى يتم التعريف بالفنانين على أنهم لاجئون، ومن الممكن أن يكتبوا أكثر من عشر صفحات تعريفية عنهم لتروي قصة لجوئهم، وأقل من نصف صفحة عما يقدموه فنياُ".
ويردف: "هناك تهميش كبير للجانب الفني الذي يقدمه الفنان. هذا الشيء لا تنفرد به تلك الجمعيات، فمع الوقت اكتشفت أن هذا هو الطابع العام، ففي إحدى المرات شاركت بمسابقة، وخلال زيارتي الأولى للمختصين والمشرفين للإطلاع على أعمال المشاركين، عرضت عليهم ثلاثة أعمال، منهم عملان يتحدثان عما عشته في سوريا والثالث هو مشروع جديد أعمل عليه".
ويوضح جروة أنهم استمعوا للشرح الذي قدمه عن أول عملين في حين تخطوا شرحه للعمل الثالث، وقال: "قاطعني المشرف وسألني عن وضعي القانوني في فرنسا وإقامتي، ومتى وصلت إلى فرنسا وأشياء تتعلق بوضعي كلاجىء دون أن يكترث لما أقدمه فنياً؛ فهوية الفنان- اللاجئ هنا مبنية بشكل كامل على هويته كلاجئ فقط".
ويتابع: "نعم نحن لاجئون ولا أنفي هذا الشيء لأنه جزء من هويتنا، أنا سوري ولا أنفي ذلك، لكن هناك نوع من أنواع التمييز السلبي لهويتك الفنية من خلال هويتك المكانية وجنسيتك كلاجئ. نحن أشخاص كان لدينا مسيرة فنية غنية قبل وصولنا إلى فرنسا، ولدينا أفكار فنية نطرحها من الممكن أن تكون مرتبطة بالأشياء التي عشناها في الحرب، لكن الأمر هنا لم يعد اختيارياُ، وإنما أصبح أوتوماتيكياً، يمحو مسيرة المرء الفنية ويركز فقط على قصة لجوئه. أنا كفنان لا أريد أن أنسلخ عن انتمائي، لكنني أرفض تأطيري ضمن هذا النوع المحدود من المواضيع".
عقدة مكتب العمل
يقف مكتب العمل عقبة إضافية بوجه اللاجئين- الفنانين. التسجيل فيه هو أمر إجباري للحصول على المساعدات المادية، وعلى الرغم من أن قوانينه تنص على تقديم مساعدة للمنتسبين له لإيجاد فرص عمل تتناسب مع خبراتهم ومهاراتهم والحصول على دورات أو منح تساعدهم على البدء بمشروعهم المهني الخاص؛ إلا أن الموظفين في مكتب العمل يحاولون الضغط على الفنانين- اللاجئيين لاختيار مهن معينة أدنى بكثير من خبراتهم.
يقول علي علواني (35 عاماً) ممثل مسرحي مقيم في باريس: "فرنسا لا تعتني باللاجئين كما تفعل باقي دول الاتحاد الأوروبي التي تمتلك مؤسسات حقيقة تحرص على مساعدة اللاجئين. فمن خلال تجربتي، لم يكن هناك أي تعاون من قبل مكتب العمل عندما شرحت لهم اختصاصي والخبرات التي لدي، إنما تم إحباطي بشكل تام من قبلهم، وأعلموني بأنني لن أجد أي فرصة عمل ضمن اختصاصي وعلي أن أقبل بأي نوع عمل يعرضونه علي.
ويضيف: "لو لم يتم إحباطي لما كنت قد قبلت بالعمل في سوبر ماركت، فليس هذا ما كنت أطمح له في حياتي ولا أرى نفسي فيه أبداً. لكنني وافقت على هذا العمل لأنني كنت مضطراً للعمل بسبب التزاماتي الشخصية بتقديم الدعم المادي لعائلتي في سوريا. ومن جهتي لا أنصح أي فنان بالاعتماد على مكتب العمل، وإنما العمل على صناعة مشروعه الخاص لوحده".
التنظيف والخدمة المنزلية بدل الفن!
العاملون في مكتب العمل لديهم منهجية معينة في التعامل مع اللاجئين، حيث يوجهون الأخيرين للعمل في وظائف لديهم نقص كبير فيها وغير مرغوبة.
وتوضح مارلين (43 عاماً) فنانة تشكيلة تقيم في باريس، بالقول إنها عندما شرحت لموظفة مكتب العمل اختصاصها وأخبرتها أنها تحمل شهادتين جامعيتين، بالأدب الإنكليزي وبالفنون الجميلة "أخبرتني بأن لغتي الفرنسية في وضعي الحالي لا تخولني العمل باختصاصي، فطلبت منها تسجيلي بدورات لغة خاصة بالمجال الفني لمتابعة العمل ضمن اختصاصي، فكان جوابها بأنه لا دورات متوافرة لديهم في الوقت الحالي، وكان هذا جوابها على مدار أشهر، واقترحت علي العمل بمجال التنظيف والخدمة المنزلية. أنا لا أنظر بفوقية للعاملين في تلك المهن، إلا أنني لم أدرس وأتعب وأتخرج بشهادتين لأعمل خارج اختصاصي. اليوم أعمل كمحرك حيوي للأطفال في المدرسة عن طريق الفن، وتلك الفرصة في العمل لم يقدمها لي مكتب العمل إنما عملت لوحدي على إيجادها".
يعاني الفنانون أيضا من ارتفاع كلفة المواد الفنية التي يعملون بها، خاصةً الوافدون الجدد الذين ليس لديهم أي مورد مالي، فليس هناك جمعيات تدعم الفنانين بتقديم المواد الأولية لهم، والمشكلة الأكبر في عدم توافر مساحات يمارسون فيها نشاطهم الفني، أو يحفظون أعمالهم الفنية، فالأغلبية يسكنون في غرف ضيقة بالكاد تتسع لأغراضهم الشخصية.
وفي هذا السياق يعلّق ماريو جروة فيقول: "من الصعوبات التي تواجهني هي مسألة التخزين، خاصةً أنني نحات وأعمال النحت تأخذ حيزاً كبيراً بالتخزين، فأغلب الأعمال التي أنجزها يتم إتلافها بعد صناعتها بسبب عدم توافر أماكن لتخزينها. لذلك أعمل على أرشفة أعمالي بالصورقبل إتلافها".
ويختم: "اليوم أستطيع أن أخزن بعض الأعمال في مدرسة الفنون، إلا أنني سأتخرج مع نهاية السنة، ولن أستطيع أن أبقي أعمالي فيها بعد ذلك، إضافةً إلى هذا ليس لدي مكان أعمل على صناعة منحوتاتي ضمنه خارج المدرسة. لذلك أفكر اليوم أن أستأجر (أتولييه) مع مجموعة من الأصدقاء في ضواحي باريس للعمل على النحت والتخزين، لكن تكاليف الإيجار باهظة جداً، بالإضافة لما يترتب عليها من فواتير إضافية ستقف عائقا أمامنا، فليس هناك حل إلا ببيع العمل الفني فور عرضه أو إتلافه لعدم تمكني من تخزينه".