شملت موجات لجوء السوريين إلى أوروبا مختلف شرائح الشعب السوري، وكان من ضمنهم عدد كبير من الفنانين، منهم موسيقيون، وتشكيليون، وراقصون، وأيضاً فنانون دراميون سواء أكانوا كتاباً أم مخرجين أم ممثلين أم مصورين، مهندسي ديكور وإضاءة، وغيرهم من أصحاب المهن الفنية المختلفة التي تنتمي إلى صناعة المسرح والدراما التلفزيونية.
ورغم صعوبات العمل في الحقل الفني عموماً في أوروبا، فإن الأمر كان أقل صعوبة بالنسبة للعاملين في مجال الفنون الفردية، (التشكيليون بشكل خاص)، أو الفنون شبه الجماعية والتي لا تندرج في حقل الصناعة (الموسيقيون، والمسرحيون).
أما صناع الدراما التلفزيونية فقد شعروا أنهم أحيلوا إلى التقاعد المبكر، التقاعد الإجباري، التقاعد الإبداعي، وأن حالة شلل كامل قد فرضت عليهم، واضطر معظمهم للبحث عن مهنة أخرى، أو قبول المساعدات الاجتماعية التي توفرها الحكومات، لتأمين احتياجاتهم الحياتية والمعيشية، أما ما يتعلق بجانب التحقق والفعالية والإبداع، فلم يعد للدرامي السوري مساحة للحضور إلا على وسائل التواصل الاجتماعي.
الفنان السوري المعارض راح ضحية الواقع السياسي على مستوى المهنة، أما أولئك الذين استقروا كلاجئين في أوروبا فقد واجهوا واقعاً معقداً فيما يخص عملهم الفني
ربما سنلاحظ في هذا السياق بعض النجوم المعارضين أو المحسوبين على المعارضة الذين لم يتأثر عملهم كثيراً نظراً لنجوميتهم ومرونة بعضهم والمواقف غير الحادة للبعض الآخر وخصوصاً أولئك الذين حافظوا على علاقات ودية مع زملاء المهنة حتى وإن كانوا من كبار الشبيحة.
وبصرف النظر عن عمل درامي أو اثنين شارك فيه فنانون معارضون، أو بعض الفرص القليلة التي أتيحت لهم في أعمال أوروبية، فإن الفنان السوري المعارض راح ضحية الواقع السياسي على مستوى المهنة، أما أولئك الذين استقروا كلاجئين في أوروبا فقد واجهوا واقعاً معقداً فيما يخص عملهم الفني.
ظاهرياً، يمكننا الحديث عن حاجز اللغة، كعائق أساسي وجوهري يواجهه الفنان السوري في دول اللجوء تلك، ولكن الحواجز هي أكبر وأعقد من ذلك، فتقاليد العمل في الدراما لا تختلف في أوروبا عنها في سوريا إلا ببعض التفاصيل، وبالتالي يمكن لمن يتخطى حاجز اللغة، أن يعبر بسهولة إلى سوق العمل وأن يستعيد نفسه ومكانته كفنان في السوق الأوروبية، ولكن في العمق، سنجد أن الأمر ليس بهذه السهولة، فلا مستوى الفنان ولا تجاربه ولا شهرته ولا نجوميته ولا حرفيته، ولا إتقانه للغة البلد الذي يعيش فيه، يمكن أن يلعب دوراً في زجه بسوق الدراما الأوروبية، فالمعيار هنا لا يتعلق بالفنان نفسه، بل بمنظومة مختلفة تماماً عما اعتاد عليه الدراميون السوريون.
لا شركات إنتاج درامية في أوروبا، لا سوق خليجية، لا موسم رمضاني، ولا جمهور ينتظر أجزاء جديدة من مسلسلات جماهيرية.
النقطة الجوهرية هنا إذاً، تتعلق بآليات الإنتاج بشكل أساسي، فالهوة الواسعة تتجسد في ندرة الإنتاج الدرامي في أوروبا من ناحية، والأجور الضعيفة التي يتقاضاها العاملون في هذه المهنة بالمقارنة مع الأجور التي كانوا يحصلون عليها في سوريا، وغيرها من البلدان العربية التي تنتج الدراما التلفزيونية من ناحية أخرى، فليس للدراما التلفزيونية في أوروبا سوق واسعة، ليس ثمة شركات كثيرة، ولا منافسة في سوق البيع بين الشركات كما في البلدان العربية، الدراما التلفزيونية ليست صناعة ربحية تماماً في أوروبا بل صناعة لا تزال مرتبطة بالهدف الفني بالدرجة الأولى، ولهذا بقيت فرص الدراميين الأوروبيين أنفسهم ضئيلة، بل إن الفنان الأوروبي كثيراً ما يضطر للعمل في مهن أخرى لضمان دخل مادي يفي باحتياجاته.
لقد تحولت صناعة الدراما في سوريا في فترة ما إلى ما يشبه الصناعة السيادية، أو إحدى الصناعات الثقيلة، الأساسية والضرورية، والسبب في ذلك يتجسد بشكل أساسي في كثرة الطلب وإقبال القنوات الفضائية التابعة للدول الغنية على المسلسلات لملء ساعات بثها وقدرتها على دفع مبالغ طائلة لإنتاج وشراء تلك الأعمال، الأمر الذي لا يشابه واقع الإنتاج في أوروبا.
رافق الفنانين المعارضين شعور مركب بالغربة، الغربة عن الوطن، والغربة المهنية، إنها في الحقيقة نكبة مزدوجة، مادية ومعنوية
لقد وجد صناع الدراما السوريون في أوروبا أنفسهم على موعد مع انتهاء شهر العسل الخاص بهذه المهنة، ولا سيما أن كل محاولات الإنتاج في أوروبا باءت بالفشل وذلك نظراً إلى ارتفاع الكلفة بشكل جنوني بالمقارنة مع الإنتاج في الدول العربية، وكذلك رفض القنوات الفضائية المسبق لأي أعمال تتحدث عن الثورة بشكل مباشر وأبطالها فنانون معارضون فقط.
رافق الفنانين المعارضين شعور مركب بالغربة، الغربة عن الوطن، والغربة المهنية، إنها في الحقيقة نكبة مزدوجة، مادية ومعنوية، فلقد عاش هؤلاء الفنانون العصر الذهبي للإنتاج الدرامي في سوريا، وذلك على مستوى كم الإنتاج وارتفاع الأجور من ناحية، ومستوى الاحترام والمكانة التي احتلوها في المجتمع من ناحية أخرى، حيث تحولت متابعة الأعمال الدرامية في سوريا -والوطن العربي عموماً-، إلى طقس يومي، إلى بديهة اجتماعية متفق عليها، وأصبحت تلك الأعمال مرجعاً ثقافياً ومعرفياً أساسياً -بصرف النظر طبعاً عن مستواها الفكري، فذلك بحث آخر-، وكل ذلك انعكس إيجاباً على حياة معظم الفنانين -ولا سيما النجوم- ووفر لهم فسحة واسعة لحياة استثنائية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، قبل أن يتحولوا في أوروبا إلى عاطلين عن العمل وعن الإبداع.
الحلم الأوروبي لم يكن يراود معظم الفنانين السوريين الذين كانوا يعملون في الدراما التلفزيونية إلا في سياق الزيارة أو السياحة، بل إن كثيراً من الفنانين الذين كانوا يعيشون في أوروبا عادوا للاستقرار في سوريا بعد ازدهار سوق الدراما فيها، أما وقد أجبر الكثير منهم الآن على الإقامة في أوروبا وخسارة مهنتهم وافتقادهم لأي بدائل، فذلك نوع من الدراما الذي لم يعتد عليه أولئك الدراميون.