فلنترك جانبا الابتسامات الدبلوماسية التي ظهرت على محيا وزيري خارجية تركيا والنظام عند لقائهما في موسكو، فذلك من المتوقع في مثل هذه الظروف، لكن المهم، هو ما وفره هذا الاجتماع الأول بين وزيري البلدين منذ 2011، على هامش الاجتماع الرباعي في العاصمة الروسية الذي مع وزيري خارجية روسيا وإيران أيضا.
دأبت هذه الرباعية على متابعة الوضع السوري منذ سنوات، وأنجزت بالفعل هدنا طويلة في الشمال السوري، لكن لم تصل أبدا إلى تسوية بين أنقرة ودمشق، في ظل وجود قضايا خلافية كبيرة وجوهرية، حينما كان نظام الأسد منبوذا دوليا وإقليميا، وبحاجة الى أي متنفس خارجي، وهو ما يبدو أنه أصبح أكثر صعوبة الآن بعدما وجد النظام مخرجا واسعا ومريحا ومجانيا من خلال بعض الدول العربية، وأبرزها السعودية التي دعت الأسد لحضور القمة العربية المقبلة في الرياض.
تحاول تركيا بالطبع أن تحمي مصالحها الأمنية في المناطق الحدودية مع سوريا، لا سيما بمواجهة (قسد) و(داعش)، إلى جانب إيجاد مخرج مقبول وعملي لأزمة اللاجئين السوريين في تركيا، وتحديد مصير فصائل المعارضة، بل ومصير إدلب والشمال السوري بكامله.
هذه القضايا المفصلية الصعبة، أصبحت اليوم أكثر صعوبة، فالنظام يجد نفسه دون عجلة من أمره في حل قضايا تشغل تركيا أكثر مما تشغله، ولم يعد حلها السريع والعادل يمثل عنده شيئا ذا مغزى، بعدما حصل على أكثر مما كان يحلم به، من دول عربية، وجدت مصلحتها في التقرب منه، بل وبدا أن أحدها كان يشارك في تمويل الحملات العسكرية الروسية ضد المعارضة، كما أن دولة أخرى عرضت حسب رويترز مليارات الدولارات على النظام مقابل أن يتوقف فقط عن إرسال الكبتاغون إلى أراضيها.
اجتماع موسكو عقد قبل أيام فقط من الاستحقاق الانتخابي الأهم في تركيا منذ تأسيسها، ونتائجه ستحدد موقف أنقرة من مجمل الوضع السوري
هذا النمط من التطبيع مع النظام لم يعد مجانيا فقط، بل بات مربحا له، وهو في هذه الحالة، لن يقدم على خطوة باتجاه الأتراك يمكن أن يدفع فيها شيئا، فقد خبر عض الأصابع مع الدول العربية، وفاز، فلماذا لا يجرب اللعبة مع تركيا، لا سيما وأنه بات مرتاحا لوضعه، لا تهدده مخاطر حقيقية، وصار له أن يتحدث من موقع (المنتصر) بفضل جائزة عربية لا يستحقها.
والأكثر من هذا أن اجتماع موسكو عقد قبل أيام فقط من الاستحقاق الانتخابي الأهم في تركيا منذ تأسيسها، ونتائجه ستحدد موقف أنقرة من مجمل الوضع السوري ومن قضايا اللاجئين والمعارضة وقسد والعلاقات مع روسيا وإيران والولايات المتحدة، وكل هذه القضايا المحورية، تجعل من النظام غير متحمس للوصول إلى اتفاقات من أي نوع مع سلطة قد تتغير في حال عدم فوز الرئيس أردوغان أو حزب العدالة والتنمية، وذلك أضاف بالطبع زخما لقدرة النظام على المناورة، بل وكان بالأصل أحد الأسباب التي ربما دفعت بعض الدول العربية إلى هذه الهرولة باتجاه النظام.
كل هذه العناصر التي تجمعت لتغير وجه المعادلة السورية خلال أشهر أو حتى أسابيع، تقدم نموذجا للسبب الأهم الذي انحرف بالمسار السوري، من نصر كان وشيكا للثورة، إلى تقدم بات واضحا للنظام، هذا السبب هو السياق الإقليمي الذي تلاعب بالمتغيرات السورية طوال 12 عاما، بطريقة لطالما عبرت عن اتجاهات أصحابها، بدءا من استثمار الوضع لإنجاز مشروع التوسع الإقليمي وهو ما مثلته إيران، أو ما عكسته من انتهازية أو معارضة للنظام وسياساته الإجرامية دون حسم، كما عبرت عنه دول عربية عدة، وصولا إلى تركيا التي كان لها مصالح استراتيجية ومواقف بدت مبدئية، لكنها أيضا فشلت في حسم الوضع حينما كان بمقدروها ذلك.
وسط المعادلات الإقليمية المتنوعة، بدا أن تركيا كانت تخطط من خلال الوسيطين الروسي والإيراني للحصول على مكاسب أمنية في حدودها الجنوبية مع سوريا
غير أن كل المنشغلين الإقليميين بالأمر السوري ممن أظهر رفضا للنظام، لم يكن له أن يتدخل ويعبث، لولا حصوله على تعاون طائفة من المعارضة السورية، تسلمت منه الدعم، مقابل الولاء، حتى تحول جزء مهم من المعارضة السياسية إلى معارضات، تتبع كل منها داعما إقليميا، وتتفق فيما بينها أو تتصارع حسب العلاقات البينية بين الداعمين ومصالح كل منهم.
ووسط المعادلات الإقليمية المتنوعة، بدا أن تركيا كانت تخطط من خلال الوسيطين الروسي والإيراني للحصول على مكاسب أمنية في حدودها الجنوبية مع سوريا، من غير أن تتمكن في أي وقت من التنسيق حول الموضوع السوري مع معظم الدول العربية ذات المصلحة المماثلة، ولذلك جاء التسابق العربي نحو النظام، مفاجئا للأتراك، قبل أن يحققوا أي شيء في تكتيكات تقربهم منه.
وفي كل الأحوال فعلى تركيا أن تنتظر نتائج الانتخابات فيها لتحسم أمرها بشأن التعامل مع الملف السوري، وهو قد لا يشكل أولوية قصوى أيا كان الفائز، وربما يكون ذلك هو الفرصة الزمنية الأخيرة أمام المعارضة، لتفعل شيئا لتنقذ ما يمكن إنقاذه، أو لتتمكن من وضع مواقفها على الطاولة، قبل حسم كل القضايا على الطريقة العربية.