يشكل التحام الكاتب مع الطبيعة محركًا مثاليًا لأدوات الكتابة ومادة دسمة يستلهم منها فكرته، كما أنها تخلق مساحة للتأمل وتحريض الخيال على الخلق. وقد يعد الشعر البيئة الملائمة لطرح هذا النوع من الثيمات، فنجده يعج بعناصر الطبيعة، والسماء، والشجر، والجبل، والنهر... وهلم جرّا.
وبالتركيز على البيئة السورية وتأثيرها في الشعر، نجد أن نهر الفرات نال نصيباً كبيراً من الحضور في هذا النوع الأدبي عبر مراحل تشكله وصولاً إلى يومنا هذا.
الفرات كثيمة شعرية
احتل الفرات قيمة ومساحة في الشعر العربي عامة والسوري على وجه الخصوص، كما أن حضوره لم يقتصر على مرحلة زمنية معينة، ولم يقتصر تناوله بشكل مباشر أيضًا، فقد حمل رمزية عالية، وجاء كتعبير عن القيمة الجمالية والعذوبة، وأحيانًا سلك مجرى الرمزية والمجاز ليكون صاحبًا في أوقات الضيق ونديمًا في موجات السعادة. وقد ورد ذكره على ألسنة كثير من الشعراء، فيقول المتنبي مثلًا:
شوقي إليك نفى لذيذ هجوعي
فارقتني فأقام بين ضلوعي
أو ما وجدتم في الصراة ملوحة
مما أُرقرقُ في الفرات دموعي...
وعن رمزية الفرات يقول الشاعر السوري محمد اليساري*:
"الفرات يعني لي حيزًا مكانيًا أكثر مما هو نهر موغل في الماضي، بِقِدَمِهِ، وموغل في الحاضر بسبب الأحداث الدامية التي تحدث على جانبيه، وموغل في المستقبل إذ إنه في مروياتنا الدينية نهر من أنهار الجنة".
بهذا الحضور الزمني المزدحم في الفرات كنهر يصبح الحيز المكاني ماثلًا للعيان والقلب في كل الأحوال، ولكن تزيده الأحداث الدامية المعاصرة بروزًا أكثر حدة، حيث إن حضور ذاتك -كفراتي- تَمْثُلُ دائمًا أمامك أو في ذاكرتك كما يَمْثُلُ اسمُك، أو شكلُك، أو لغتُك... وعلى ذلك يستطيع الفرات دائمًا أن يكون وطنًا لك تستغني به عن أي وطن آخر.
الفرات كبيئة أدبية
وبعيدًا عن كونه نهراً شكل ثيمة يسترسل الشعراء في محاكاتها والتغني بها، شكل الفرات أيضًا بيئة ووطنًا -كما ذكر الشاعر سالفاً، نبتت على ضفافه شتلات وأشجار الأدب. فمن منا لا يعرف ابن الرقة عبد السلام العجيلي الملقب بـ "حكواتي الفرات"، والذي نقل حكايات تلك البيئة إلى كثير من البقاع، إذ لم يقف عند حدود السرد في وصف حبه وتعلقه بوطنه "الفرات"، بل اجتاز ذلك ليغرد شعرًا، فيقول:
أرى النهر لما جئته متفقدا
تباعد عني موجه ثم أزبدا
كأني لم آلم لشكواه مرةً
ولم أسهر الليل الطويل مهدهدا
وكم ليلة ألفيتهُ في ظلامها
يعاقر كأس الهم في الليل مفردا
سكبت الهوا في شاطئيه قصيدة
فأورق رمل الشاطئين ووردا
وليس أجمل من القصيدة التي قالها في النهر، ابن مدينة دير الزور الشاعر والمفكّر والفيلسوف "محمد العبود" الملقب بـ "الفراتي"، والتي حفظناها عن ظهر قلب منذ سنيّ عمرنا الأولى:
ذاك نهر الفرات فاحْبُ القصيدا.. من جلال الخلود معنىً فريدا
ذاك نهر الفرات ما إن له ند.. على الأرض إن طلبت نــــــديدا
باسماً للحياة عن سلسبيل.. كلمــــــــا ذقته طلبت الـــــــــمزيدا
جرعة منه في قرارة كأس.. تترك المرء في الحياة سعيـــــــدا
نحن قتلاه في الهوى وقديماً.. شفّ آباءنا وأصبى الجـــــــدودا
يعكس الدوح في الأصيل عليه.. أينما شمت ظلّه الممــــــدودا
القصيدة الفراتية
ولأن هذه البيئة خصبة وولّادة، أنتجت في كل من سوريا والعراق أدبًا شعبيًا خاصًا أطلق عليه اسم "القصيدة الفراتية"، وكتعريف عنها يضيف الشاعر اليساري:
"القصيدة الشعبية الفراتية باختصار هي كل قصيدة كتبت بلهجة أهل العراق من أقصاه إلى أدناه، وبلهجة عرب الجزيرة السورية، ولكن في العراق تطغى التسمية (الوطنية) على التسمية (المكانية) فيقال شعر شعبي عراقي، ومن هنا يأتي الخلط بين القصيدة الشعبية في الجزيرة السورية والقصيدة العراقية لأنهما قصيدة واحدة، ولكن اختلفت التسمية".
ولأن القصيدة الشعبية العراقية كانت في حيز الاهتمام منذ القديم، فقد كانت متقدمة إبداعياً، كما كانت هي الأصل الذي يقاس عليه الفرع وهو القصيدة الشعبية في الجزيرة السورية، وهذه مسألة معقدة جداً تحتاج أبحاثاً طويلة، لأن القصيدة الشعبية في الجزيرة السورية تعد أنموذجاً تحتذيه القصائد الشعبية في الريف السوري غير المحسوب على الفرات، كمناطق ريف حمص وحماة وحلب، وبهذا يتسع مفهوم القصيدة الفراتية ليتجاوز المكان.
وباعتبار هذا النوع الشعري يمتد جغرافيًا على امتداد النهر الذي كني به، فقد تفاوت حضوره من بقعة إلى أخرى، كما تفاوت رسوخه بين الفنون الشعبية والأدبية، وعن هذا التفاوت يجيب اليساري قائلًا:
"القصيدة الشعبية الفراتية كما أسلفت قسمين: أما القسم العراقي فقد أثبتت فيه القصيدة الشعبية حضورها بقوة، وكُتِبَت بها قصائد ذاع صيتها في الآفاق، واشتهر بها شعراء كبار كمظفر النواب وكاظم إسماعيل كاطع وعريان السيد خلف، أما القسم الفراتي السوري فلم يكن له إلا الحضور في الظل، بين العوام، وفي المرويات الشعبية الضيقة، لاعتبارات كثيرة لا مجال للخوض فيها".
وعلى الرغم من الحضور الخافت للقصيدة الفراتية في الجانب السوري، إلا أنها امتزجت بالجانب العراقي فنّيًا، واختلط على المتلقين منبع إبداعها، كما في حالة الشاعر السوري الراحل "عبد الناصر الحمد" الملقّب بـ "شاعر الفرات" و"شاعر النجوم"، وهو كاتب قصيدة "عشرين عام انقضت" للمغني العراقي "سعدون جابر"، وكاتب أغنية "تمايل يا عود الزلّ" التي أدّاها الفنان العراقي "فؤاد سالم" (الزَلّ: يقصد به نوع من القصب الذي ينمو على ضفاف الفرات).
عبد الناصر الحمد الذي ظنه كثيرون أنه عراقي الهوية، هو شاعر سوري من أبناء دير الزور أيضاً، وفي هذا الالتحام دليل على أن الفرات شكل بيئة واحدة بعيدة عن الحدود السياسية.
كما بقيت القصيدة الفراتية في حالة تطور مستمر إلى يومنا هذا منطلقة من المساحة التي أُسست عليها مستفيدة من كل ما هو جديد، أو كما يقول الفراتي اليساري:
"القصيدة الشعبية الفراتية في تطور دائم، وفي بحث دائب عن أشكال جديدة من التعبير، وقد ساعدتها ثورة التواصل الاجتماعي على حضور قوي ومؤثر في المشهد الأدبي العربي المعاصر من جهتين: الأولى حضورها كلهجة مفهومة من القطاع الأكبر من الجمهور العربي، والثانية: الانفتاح على أشكال كتابية جديدة، ومعانٍ أوسع من همومها المحلِّيَّة".
ونختم بقصيدة الشاعر عريان السيد خلف:
أعز من روحي أعزكْ
وانته أعز منـي
يا حسبة عمر.. خاويتها من إصبــاي
بـِطلـَتْ صـَفنتي .. وما بَطـلـتْ مني
أحــِس قــَلبي الفـِضـِي.. متعوب حد الويل
وأدعيـله الصَبُر.. عن لا يفشلني
جَسيت الليالي بمرود الحلوات
وسنين العمر بالشيب جسنــي
أضحك للبجوا.. حد شرهة المنكـَود
وأبجي بكل مزنتي.. الطور المغني
لا غرني المدح.. بشفاف المحبين
ولا هـمني الشماته شما حجوا عني
يلتمٌن علــيه.. مشتتات البال
وأنفضهن نفض
وأنهض ولا جنـي...