تُعَدُّ النَّجاةُ بحدِّ ذاتها فرصةٌ جديدةٌ للحياة، والنَّجاة الجسديَّة لا تقتصر فقط على معالجة الأعضاء التي تضرّرت نتيجة حادث، بل تحتاج إلى مقومات أوسع وأشمل تبدأ من ما يشعر به الناجون وعائلاتهم ومحبيهم، وتمرُّ على التَّفاصيل اليوميَّة من لحظة الإصابة ثمَّ العلاج وفترات التَّعافي -في حال تمَّ- وفي كثير من الحالات يمتد إلى سنوات وربَّما لن يعود الجسد إلى حالته السَّابقة.
وتعوَّدنا من عدسات الكاميرا مشاهدة لحظة النَّجاة، أو من محيطنا سماع بعض القصص -وهي ليست بقليلة- عن أشخاص نجوا من إصابات الحرب أو الكوارث، وربَّما يهرع بعضنا إلى تقديم يد العون إنْ لزم الأمر، لكن هل هذه المساعدات وغيرها -رغم أهميتها- أتُعتَبر حلَّاً طويل الأمد من دون الاحتياج إلى مساعدات جديدة وبشكلٍ مستمر ومتزايد؟
قصص عن ناجين من الحرب والكوارث
سالم وريم، زوجان لديهما أطفال منذ عدَّة سنواتٍ، سالم نجا أكثر من مرَّة، واحدة منها كانت نتيجة قصف للنظام السوريِّ، وهو منذ عامين ونصف تقريباً، لا يستطيع تحريك سوى الجزء العلوي من جسده.
تحكي مريم عن بدايات إصابة سالم وعن الألم المرافق لهُ حتَّى ليلاً ممَّا يمنع نومَهُ، وما استدعى اعتناءها به ومساندته كذلك باحتياجاته الشخصية، وعن صعوبة الوضع خاصةً في البدايات مع وجود أطفال صغار أيضاً وحملها، وتضيف: "كنتُ أنام أحياناً بين الساعتين والثلاث ساعات في اليوم".
أمَّا سالم، فوصف ما مرَّ به تجاه نفسه وعائلته، قائلاً: "أوَّلُ شيءٍ فكَّرتُ به بعد إصابتي هل سأتعالج أم سيصبح لديَّ إعاقة ولا أستطيع تقديم شيء لأطفالي!"، وبعد نجاته شعر بما أصابه جسدياً وعدم مقدرته على العمل -ولو لفترة- لإعالة أسرته.
حاولت ريم جاهدةً تطوير مهاراتها -بعد تحسُّن زوجها بشكل جزئي- لتستطيع العمل لإعالة الأسرة كذلك، فطرقَتْ باب التَّطوع، وتحدّثت عن تجرِبتها: "كنتُ أتطوَّع بأمل الحصول على فرصة عملٍ بعدها؛ إمَّا من اكتساب خبرة كافية تُهَيئُني للحصول على عمل، أو من وعود أنْ يكون هذا التطوُّع يتحول لعمل مأجور".
وفترات التَّطوع كانت تمتد لأشهرٍ أحياناً، لكن لم يحصل ما أملته، فمن جانب لم تتحقق تلك الوعود، ومن جانب آخر كانت معظم هذه التدريبات سريعة ومتنوّعة تزيد الخبرات نعم لكن ليس بالشَّكل الكافي الَّذي يبني مهنة معيَّنة أو معرفة كافية بها.
وما دفع ريم إلى بذل هذا الجهد أنَّها فضَّلت العمل المكتبيّ على العمل بمجهود بدنيّ ولديها كلُّ هذه المهام البدنيَّة مع عائلتها، إضافةً إلى عدم مقدرتها على ترك زوجها وأطفالها وحدهم خلال الدَّوام الخارجيِّ، كما أنَّ العمل عبر "الإنترنت" أصبح متاحاً من المنزل.
سالم كان يشاهد كلَّ هذا ليعمل بالفترات الَّتي تحسَّن بها بشكلٍ متقطِّع، واضطر لعمل أتعبَ جسدهُ أكثر وهذا ما كان له تأثير على صحَّته بحسب قوله: "زاد عندي الالتهاب وسبب لي ألماً كثيراً وأصبحتُ أتعالجُ بعده".
وما دفع سالم لفعل كهذا هو ما مرَّت به العائلة من ظروف ماديَّة صعبة، إذ كانوا في بداية إصابته يبيعون أثاث المنزل ليستطيعوا تأمين الاحتياجات الأساسية بأقلِّ القليل، حتَّى بقي السرير الذي ينام عليه وهو مصاب فلا يتحمَّل النوم أرضاً وبصعوبة احتفظوا به، "كنتُ أجفف حفَّاضة ابنتي الصغيرة وأعيد استخدامها لها إن أمكن ذلك،…، كنَّا في كثير من الأحيان ننام من دون طعام وكذلك الأطفال، كنتُ أحتفظ بالخبز اليابس لنأكله عند الحاجة".
هذه بعض التفاصيل التي روتها ريم عن شكل الحياة الَّتي عاشوها وربَّما ما زالوا يعيشونها، وما لها من آثارٍ نفسية ليس فقط ماديَّة، يقول عنها سالم: "حتَّى الآن أشعرُ أنني لا أستطيع فعل شيءٍ لعائلتي وبالضّعف، وحتَّى الآن حالتي النفسيَّة سيئة وسابقاً كانت سيئة جداً، وبقيتُ عاماً ونصفاً لا أستطيع المشي بسبب حالتي النفسيَّة، لكن بفضل اللَّه ودعم زوجتي ساندتني للمشي مجدداً ولتحسين نفسيتي".
غياب الدَّعم الكافي من المحيط من كل الجوانب، وأحياناً الحثّ على عملٍ غير مناسب لكلا الزوجين ساهم في زيادة أعباء التَّعافي، سالم يفضِّل عملاً مكتبيَّاً من منزله وبشكل يتناسب مع وضعه الصحيِّ ويساهم في الإنفاق على عائلته والخروج من الإحساس بالعجز النفسيِّ قبل الجسديِّ، فوصفُ الآخرين حالته بالإعاقة تؤلمه كثيراً -حتَّى من باب التَّعاطف- وتشعره أنَّه مختلف عن الناس.
-
زلزال سوريا وتركيا
الزلزال المدمّر الَّذي ضرب سوريا وتركيا، في شباط من هذا العام، دمَّر منزل العائلة المُستَأجر وعادوا إلى الصفر بعد النجاة بأرواحهم، من حيث تأمين أهم الاحتياجات الأساسية من أثاث وما إلى ذلك، وهو ما يتشاركونه مع ناجين كثيرين من هذا الزلزال، لكن عدم المقدرة على العمل التقليدي بحسب ما تمَّ ذكره سابقاً، أخَّر التَّعافي منه، وهذا ما يتشاركونه أيضاً مع عائلات وناجين آخرين من إصابات، مع التَّفاوت في شكل ونوع الاحتياج.
فمن أولويات هذه العائلات والأفراد هو الشفاء الجسديّ والاستقرار الماديّ من حيث العمل، فالعلاج يختلف من حيث الإصابة ومدَّتُهُ الزمنية، ومن الممكن أنْ يكون لأشهر وربَّما لسنوات، وفي حالات لن يعود الجسد إلى حالته السابقة -ليس بالضرورة حدوث إعاقة- بل أصبح بوظائف جديدة نوعاً ما.
- "العمل الملائم"
وهذا ما يتطلب أكثر تَشَكُل مبادرات لصناعة فرص عمل متلائمة مع هذا التَّغيُر؛ إنْ كان من خلال الحصول على تدريبات فعَّالة أكثر أو تأمين فرص عملٍ واقعية، وليس بالضرورة أن يكون عملاً مكتبيَّاً، لكن بما يتناسب مع الاحتياجات والإمكانيات، مع استمرار دعم المحيط، كما لا يعني هذا توقّف المساعدات لهم، ففترات العلاج الأولى يصعب فيها العمل ومن المحتمل أن يكون جزئياً بحيث لا يغطي كل المستلزمات المعيشية، كما أنّ هنالك حالات لا تقدر عليه مطلقاً.
وهذه القصص ليست نادرة الحدوث، هناك ناجون كُثُر، ويعيشون معظم الأحيان في ظروف متقاربة، ما يعني العمل على سد هذا الجانب المهنيِّ ليس أمراً طارئاً أو هامشيَّاً، لكنَّه من الممكن لأهميته أن يكون حلَّاً مستداماً ومطلباً، فعندئذ لا يكون حدوث نقص من أساسيات الحياة عند تغيُّر الجسد، بل بناء طريقةٍ للعيش لا تفرِّق بينهم وبينَ من لم يمروا بهذا الظرف.