زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في جولته الخارجية الثانية منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، العاصمة طهران في 19 تموز الحالي، وهناك التقى بالمسؤولين الإيرانيين. وعلى الرغم من أن زيارته أسعدت المتشددين في إيران كثيراً، فإن موسكو بدت أكثر طرف استفاد من تلك الزيارة.
استُقبل الرئيس الروسي بحفاوة بالغة خلال إقامته القصيرة بطهران، في الوقت الذي لم تُبد فيه عواصم كثيرة في العالم رغبتها بفرش السجاد الأحمر له بسبب غزوه لأوكرانيا. وعلى الرغم من عدم إجراء مراسم استقبال خاصة له عند وصوله، فإن ذلك منح زيارته المصداقية التي أصبحت بأمس الحاجة إليها، بحسب ما ذكره كبار المسؤولين الإيرانيين، وعلى رأسهم الرئيس إبراهيم رئيسي والمرشد الأعلى علي خامنئي، خلال اجتماعاتهم بالرئيس الروسي.
إيران السباقة وروسيا الرابحة
يمكن اعتبار الترحيب ببوتين بمثابة مكسب كبير لموسكو، خاصة إذا علمنا أن زيارته لطهران أتت بعد أيام قليلة من زيارة بايدن للشرق الأوسط، والتي التقى فيها بقادة عرب وإسرائيليين.
إلا أن ذلك ليس كل شيء، وذلك لأن المرشد الأعلى لإيران، آية الله علي خامنئي، أصبح أول زعيم في العالم يصدق وبشكل رسمي التبريرات التي ساقتها روسيا لتشن حربها على أوكرانيا، وذلك عندما قال مخاطباً الرئيس الروسي: "بالنسبة لأوكرانيا، إن لم تبادروا، فسيكون الطرف الآخر هو البادئ بالحرب من خلال مبادرته بها". كما وصف خامنئي حلف شمال الأطلسي بالكيان الخطير وأضاف: "لو لم يتم إيقافه في أوكرانيا، فسيشن حرباً مماثلة في القرم".
بيد أن المرشد الأعلى لم يقم -في الحقيقة- بأكثر من ترديد التصريحات التي أطلقها بوتين في التاسع من أيار خلال الاحتفال بالذكرى السابعة والسبعين ليوم النصر في موسكو.
وبعد مرور ساعة على ذلك، استغل الرئيس رئيسي لقاءه ببوتين لتأييد الفيتو الروسي ضد تمرير المساعدات الإنسانية الأممية عبر الحدود للمقيمين بشمال غربي سوريا، حيث قال: "إن إرسال المساعدات الإنسانية إلى سوريا للضغط على حكومة تلك البلاد، لن يضمن استقرارها".
إذ في مجلس الأمن الدولي، وتحديداً في الثامن من تموز الجاري، صوتت روسيا ضد تمرير المساعدات، أملاً منها بمساعدة نظام الأسد في دمشق على استعادة السيطرة على آخر معقل للثوار في سوريا.
تنازلات اقتصادية
وبعيداً عن القضايا السياسية، وعد بوتين بالتعاون مع إيران على الصعيد الاقتصادي خلال تلك الزيارة، ويشمل ذلك توقيع عقد قيمته 40 مليار دولار من قبل شركة غازبروم بهدف الاستثمار في حقول النفط والغاز الإيرانية، إلا أنه من الواضح بأن هذا الوعد لن يتم الوفاء به على ما يبدو، نظراً للضغوطات المالية التي تتعرض لها روسيا بسبب العقوبات الغربية القاسية المفروضة عليها.
وحول ذلك يخبرنا حميد رضا عزيزي وهو باحث لدى المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية في برلين، وخبير بالعلاقات الإيرانية-الروسية، أنه حتى بعيداً عن المال والاقتصاد: "تتنافس إيران وروسيا في مجال الطاقة، ولهذا من غير المتوقع أن تدخل روسيا في عملية من شأنها أن تزيد عائدات إيران في مجال الطاقة، لأن ذلك لا بد أن يضر بمصلحتها".
إيران تتعلق بالعباءة الروسية
وبالرغم من ذلك، يبدو كأن صناع القرار في طهران قد وضعوا ثقتهم في أصدقائهم الروس، إذ ذكر علي أكبر ولايتي مستشار خامنئي للشؤون الدولية في مقابلة أجريت معه بتاريخ 22 تموز الجاري: "إن سلوك السيد بوتين وقناعاته التي تترجمها أفعاله، تنبع من إيمانه بالروحانيات.. وفي حالات كثيرة، ساعدت روسيا إيران عبر مدها بتقنيات متطورة.. في الوقت الذي بقي فيه الأوروبيون تابعين للولايات المتحدة طوال السنين الماضية".
يرسم ما ذكره ولايتي صورة دقيقة للاستراتيجية التي يتبناها القادة السياسيون في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إذ يرى قادة إيران أنه من الأفضل الانحياز لروسيا في خضم هذه الظروف، حتى لو حرمهم ذلك من الأسواق العالمية بما أن العقوبات بقيت مفروضة عليهم.
ويفضل هؤلاء أن يروا في روسيا تلك الدولة التي ستعوضهم يوماً ما وذلك عبر تقديمها لتنازلات تخدم صالحهم في سوريا. إذ خلال لقائه ببوتين، تحدث خامنئي لأول مرة حول ضرورة سحب الولايات المتحدة لقواتها الموجودة شرقي الفرات، فرد بوتين على هذا المطلب الإيراني بصيغة إيجابية، لكن نبرته أصبحت ألطف بعد ساعات خلال المؤتمر الصحفي المشترك الذي جمعه بالرئيسين رئيسي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. إذ في الوقت الذي اتهم فيه بوتين الولايات المتحدة بزعزعة استقرار الدول، وصف فيه وجود القوات الأميركية في سوريا بأنه "غير شرعي" ومزعزع للاستقرار أيضاً، وهذا قد يخدم إيران في ترسيخ نفوذها في سوريا.
وفي الوقت ذاته، لم تكن روسيا على استعداد لتقديم مثل تلك التنازلات لإيران خلال السنوات القليلة الماضية، بيد أن التغيرات الحاصلة في الظروف الدولية والإقليمية أجبرت موسكو على الرضوخ لإيران في سوريا، وذلك لتحقيق أهدافها الكبرى المتمثلة على سبيل المثال بزيادة اعتماد إيران على روسيا، وهذا مهم لإيران بنسبة كبيرة، وذلك لأن الحكومة الإيرانية استأنفت خلال الأشهر الماضية المحادثات الساعية لإحياء الاتفاق النووي الإيراني، وهذا ما يشير إلى أنهم يفضلون الحصول على تنازلات أمنية بدلاً من التنازلات الاقتصادية. فقد حرمت إيران نفسها خلال الأشهر الماضية من الاستفادة اقتصادياً من العقوبات التي سترفع عنها في حال إحياء الاتفاقية التي تعرف رسمياً باسم خطة العمل الشاملة المشتركة، وذلك عندما ربطت تلك المحادثات الخاصة بالملف النووي بقضايا أمنية وكذلك بمصالح الحرس الثوري الإيراني.
لذا لا عجب، في ظل هذه الظروف، أن يسمح المخططون الاستراتيجيون الروس لإيران بترسيخ وجودها في سوريا لإبقاء طهران تحت السيطرة مع ازدياد عزلتها الدولية.
المصدر: المونيتور