دفعت الحرب التي اندلعت في لبنان عدداً من السوريين إلى العودة إلى سوريا مجبرين، وسط وعود بتقديم تسهيلات لهم، إلا أن هذه الوعود اصطدمت بواقع مغاير، حيث واجه العديد منهم اعتقالات تعسفية وابتزازات مالية من قبل الأجهزة الأمنية التابعة للنظام، مما زاد من معاناتهم.
وفي الأيام الأولى لدخول العائدين، بدأت الحواجز المؤقتة التابعة لقوات النظام السوري في الانتشار مجدداً على الطرق الرئيسية، مستهدفة الشبان بحملات ملاحقة وتوقيف.وعلى الرغم من الوعود السابقة بتسوية أوضاعهم، فإن العديد من العائدين وجدوا أنفسهم في قبضة النظام، مما حول "التسوية" إلى فخ يوقع من عادوا هرباً من ويلات الحرب في لبنان.
وأوضح مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، أن أعداد المعتقلين خلال الأيام الماضية كانت كبيرة جداً، ما اضطر فريق الشبكة إلى الاستنفار للقيام بعمليات التوثيق فقط، من دون أن يتمكن من مواكبة جميع الحالات، إذ وثق حتى الآن 17 حالة مؤكدة، في حين توجد معلومات أخرى عن عشرات الحالات الأخرى التي يجري التحقق منها.
وقال عبد الغني في حديث لتلفزيون سوريا إن الحالات توزعت بين السويداء (4 حالات)، إدلب (5 حالات)، الرقة (حالتان)، ريف دمشق (3 حالات)، وحمص (3 حالات)، وتتعلق خلفيات الاعتقال بالمشاركة في مظاهرات ضد النظام، وبعضها بعمليات التجنيد، في حين أن بعض هذه الحالات تم اعتقال أصحابها فقط لأنهم أقارب ناشطين.
ورصدت الشبكة استدعاء العشرات من مراكز الإيواء لإجراء عمليات تسوية، بالإضافة إلى انتشار كثيف للحواجز "الطيارة"، وهي حواجز صغيرة يتم نصبها بشكل مفاجئ لاعتقال الأشخاص بعد عبورهم الحدود. علماً أن هذه الحواجز كانت قد تلاشت في السنوات الأخيرة، لكن النظام بدأ بإعادة استخدامها مؤخراً.
"الفرقة الرابعة" تضاعف مكاسبها
أشار عبد الغني إلى استمرار عمليات النزوح من جنوبي لبنان، إلا أن الغالبية التي تدخل مناطق سيطرة النظام تتوجه لاحقاً إلى مناطق خارج سيطرته نتيجة للأوضاع التي تواجهها. وبالتوازي مع ذلك، ارتفعت كلفة عمليات التهريب بشكل كبير، سواء من لبنان إلى سوريا أو العكس، وتتراوح كلفتها بين 2000 و6000 دولار، علماً أن الهدف منها هو تفادي الاعتقال أو التجنيد الإجباري، حيث تصبح حياة الشخص عملياً على المحك.
وتنتقل بعض الحالات مباشرة من لبنان إلى مناطق سيطرة المعارضة، بينما بعضها الآخر يمر بمناطق سيطرة النظام أولاً قبل التوجه إلى مناطق المعارضة، ويتم التهريب برعاية الفرقة الرابعة، التي تعتبر المستفيد الأكبر مالياً، حيث تسيطر بشكل كامل على طريق لبنان - دمشق، وتعتبره مصدراً للابتزاز والتمويل وسط الأزمة الإنسانية الحالية.
ويؤكد عبد الغني أن الوضع في لبنان معقد للغاية، ويجبر بعض اللاجئين على العودة إلى سوريا تحت ضغط الظروف، في حين يسعى بعضهم الآخر إلى الهروب إلى مناطق المعارضة، ويلجأ كثير منهم للاستدانة للوصول إلى الشمال السوري.
أوضاع النازحين في الشمال السوري
وبخصوص توثيق أي حالات اعتقال أو انتهاكات بحق العائدين في مناطق سيطرة المعارضة، قال عبد الغني: "حتى الآن، لم نرصد أي حالات اعتقال في مناطق المعارضة. ما رصدناه أحياناً هو بعض العراقيل في المعابر، ربما لأسباب أمنية، لكن بشكل أساسي، لم يتم رصد أي عمليات اعتقال في تلك المناطق حتى الآن، ونحن نتابع الموضوع عن كثب".
وبالحديث عن مناطق المعارضة، أكد عبد الغني أن الشمال السوري يعاني من اكتظاظ سكاني كبير يفوق قدرته الاستيعابية، خاصة مع تدفق مزيد من اللاجئين من لبنان.
وأضاف: "الشمال الغربي من سوريا يشهد أكبر كثافة سكانية نتيجة لوجود السكان الأصليين وعمليات النزوح المستمرة منذ ما يقارب تسع سنوات، والتي بدأت بشكل ملحوظ في نهاية عام 2013 وبداية 2014، حيث شهدنا حصاراً وتشريداً كاملاً لمناطق مثل أحياء حمص والغوطة الشرقية والغربية وداريا، وصولاً إلى درعا، حيث لجأ كثيرون إلى شمال غربي سوريا".
وتابع: "نتحدث عن قرابة 4 ملايين شخص، مما شكّل ضغطاً هائلاً على البنية التحتية، خصوصاً على المرافق الصحية، ونلاحظ نقصاً حاداً في الخدمات، إلى جانب التخفيض المتكرر للمساعدات من صندوق الغذاء العالمي بسبب تراجع الدعم من الدول المانحة. ونتيجة لذلك، تم تقليص الوجبات الغذائية، مما زاد من صعوبة الوضع في هذه المناطق التي تعاني أساساً من نقص حاد في الموارد، وخاصة في مجال التغذية".
وأشار عبد الغني إلى أن هؤلاء النازحين لا يملكون خيارات أخرى، ما يزيد من العبء، ويستدعي تكثيف المطالبات للمؤسسات الإغاثية الدولية والدول المانحة لزيادة الدعم الموجه إلى شمال غربي سوريا.
وشدد على ضرورة تخصيص جزء من الدعم الذي كان يتجه إلى لبنان للمنظمات العاملة في شمال غربي سوريا، موضحاً أن لبنان تلقى مبالغ ضخمة تجاوزت المليار دولار نتيجة لاحتضانه للاجئين السوريين. وأضاف: "يجب أن يظل لبنان مستحقاً للدعم بسبب احتضانه لأكبر نسبة من اللاجئين السوريين في العالم، لكن أيضاً يجب توجيه دعم إضافي إلى المناطق الأكثر احتياجاً".
دول أوروبية تراقب عودة السوريين من لبنان
أكد عبد الغني أن الدول الأوروبية، وخاصة أوروبا الشرقية، تراقب عملية عودة السوريين من لبنان، وتعتقد أنه إذا عاد هؤلاء اللاجئون من دون أن يتعرضوا لمشكلات، فقد تفكر في إعادة مزيد منهم، ما يعني بناء سردية مفادها أن سوريا بلد آمن.
وعن جهود المؤسسات الحقوقية لمواجهة هذه الدعاية، قال عبد الغني: "نحاول مواجهة هذا الخطاب بتقديم حجج مضادة تستند إلى الحقائق، ولهذا السبب عقدنا اجتماعاً مع شركائنا في منظمة هيومن رايتس ووتش لمناقشة كيفية التصدي لهذا الوضع الخطير".
وأشار إلى قرار مجلس حقوق الإنسان الذي تم التصويت عليه مؤخراً وتضمن فقرات تتعلق بالانتهاكات بحق الأطفال، وخصص فقرة واضحة تنص على أن سوريا ليست بلداً آمناً لعودة اللاجئين.
واعتبر أن هذا التصويت مهم جداً، خاصة بعد اللقاء الذي جمع المفوض السامي لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي مع رئيس النظام بشار الأسد، حيث أعرب خلاله عن شكره لمساعي النظام.
من جهة أخرى، قال عبد الغني إنه "كان يجب على المفوضية أن تستثمر جهودها في دول تستضيف اللاجئين بدلاً من زيارة بشار الأسد، فالقانون الدولي يفرض على جميع الدول تحمل مسؤولياتها تجاه اللاجئين. الآن، هناك أزمة كبيرة نتيجة لتشرد مئات الآلاف، ولا يمكن إعادة جميع هؤلاء إلى سوريا أو إلى دولة واحدة، بل يجب أن تستضيف دول أخرى مثل أستراليا، أمريكا، ودول أوروبية المزيد من اللاجئين".
"التسويات" فخ هدفه الابتزاز
وفيما يخص موضوع التسويات، قال عبد الغني: "إن الهدف الأساسي منها هو الابتزاز المالي، وما لاحظناه هو أن الأشخاص الذين دفعوا مبالغ مالية لتسوية أوضاعهم لم يكونوا في مأمن. فقد وثقنا حالات لأشخاص قاموا بتسوية أوضاعهم، ومع ذلك تم اعتقالهم واختفوا قسرياً".
وأشار إلى أن بعض هؤلاء الأشخاص قاموا بتسوية أوضاعهم في قنصليات النظام في أوروبا، وكان بحوزتهم ورقة مصدقة، لكنها لم تحمهم أمام الفروع الأمنية، حيث تم اعتقالهم.
وأضاف: "عندما يسأل أصحاب التسويات عن السبب، يتم إبلاغهم بأنهم رغم التسوية ما زالت عليهم قضايا أخرى، مثل 12 أو 13 تهمة، إذ إن المواطن السوري لا تكون عليه تهمة واحدة فقط، بل عشرات التهم المتفرعة. وبالتالي، يُقال لهم إن التسوية قد أزالت بعض التهم، لكن التهم الأخرى ما زالت قائمة، ولهذا يتم اعتقالهم".
وأكد أن هذه المبررات كلها ملفقة، والأساس القانوني هو أن سوريا ليست آمنة للعودة، مشيراً إلى أن "بعض الأشخاص وقعوا في فخ النظام، فشجعوا آخرين على العودة، معتقدين أنه لا يوجد خطر. لكن الواقع هو أن النظام لا يرغب في عودة هؤلاء، بل يستخدمهم كطعم لتشجيع غيرهم على العودة ليتمكن من اصطياد شخصيات معينة".
كما أكد أن "عملية التسوية ودفع المبالغ المالية لم تكن مجدية، لأن المواطن السوري لا يعرف أبداً ما هي التهم الموجهة إليه، وهذه حالة غير مسبوقة في معظم دول العالم. في أغلب الدول، يكون هناك مذكرة من المدعي العام أو تحقيق يتم من خلاله توجيه التهم، لكن في سوريا، لا توجد سلطة قضائية، وأجهزة الأمن هي التي تقوم بعمليات الخطف، ولا يعرف المواطن أين ذهب أو ما هو مصيره، ولا يوجد اتصال، ولا محام، ولا تهم واضحة".