في هذه السّاعة المتأخرة من تاريخ العالم، وبعد كل النكبات والمجازر الّتي لا تزال عالقة بالضمير والوعي الإنسانيّ، وحده التفكير بإعادة النظر في حقوق الإنسان البديهيّة وضمناً حقّ كل إنسان بالتماس السّلامة والأمان عند خطر الاضطهاد والقتل، قد يبدو سورياليّاً لدرجة السّخرية. لكنه في لبنان، بات وكأنّه معبر إلزاميّ سلكته السّلطات اللّبنانيّة، للتنصّل من مسؤوليّة ضمان هذا الحقّ على الأقلّ، وللتستّر على فشلها المتراكم على مدار 13 عاماً، في إدارة وحوكمة ما تُطلق عليه الآن بأزمة "النازحين السّوريّين"، متناسية أنها هي الّتي نهبت مقدرات ومساعدات من تدّعي أنهم سبب الأزمة الاقتصاديّة، وأنها هي من تركت حدودها سائبة أمام اقتصاد التهريب المشترك، وأنها هي الّتي تورطت وبجزء وازنٍ منها في المقتلة السّوريّة.
بعد إعلان الاتحاد الأوروبيّ عن حزمة مساعدات بقيمة مليار يورو (ما يُعادل 1.06 مليار دولار أميركيّ) للبنان، تأججت التجاذبات السّياسيّة الداخليّة، ومعها المزايدات الشعبويّة، بين الأصوات الّتي علت واتهمت الحكومة بالتخاذل وقبول "الرشوة" الأوروبيّة لشراء صمت لبنان وإبعاد "شبح" المهاجرين غير الشرعيين عن دول الاتحاد (بصعود اليمين المتطرف)، والأصوات الّتي طالبت بمزيد من العطاءات الماليّة والمساعدات الإنسانيّة والتعاون الدبلوماسيّ العربيّ والدوليّ لإطلاق مسارٍ لحلٍّ على المدى القصير والمتوسط، وغيرها من المواقف الفجّة والمارقة الّتي طالبت الحكومة بالضغط على الولايات المتحدة الأميركيّة لرفع العقوبات ومفاعيل قانون قيصر عن النظام السوري –كما فعل الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله حليف الأسد– منذ أيام.
وتحول بذلك ملف اللاجئين وعلى حين غرّة، من نزاعٍ سياسيّ وتعبئة عنصريّة واستعراضات أمنيّة، إلى نقاشٍ جهدت السّلطات التشريعيّة والتنفيذيّة لطرحه في جلساتها واجتماعاتها الرسميّة، وكأنه المعضلة اللّبنانيّة الأكبر وحلّ هذه المعضلة كما اقترح الفرقاء السّياسيون، جهاراً أو توريةً، منوط باستجلاب مزيدٍ من الأموال للبنان، وترسيخ فكرة أن التطبيع الدوليّ مع النظام السوري وتعويم النظام في دمشق بات ضرورةً مُلحّة لمعالجة هذا الملف الذي وصلت تبعاته إلى قلب أوروبا.
والمزاج السّياسيّ العام، انعكس طرداً على الطروحات اللّبنانيّة الرسميّة في مسار "المعالجة"، وجاءت على صعيدين: على الصعيد الحكوميّ، وعلى الصعيد البرلمانيّ.
الطروحات الحكوميّة
لم تكتف الحكومة اللّبنانيّة بحملات الترحيل والمداهمات والاعتقالات التعسفيّة وإغلاق محال ومتاجر السّوريّين، الّتي تقودها الأجهزة الأمنيّة بإشراف من وزارة الداخليّة والأخرى الّتي قامت بها قوات الجيش اللّبنانيّ على مدار السنتين الأخيرتين، فالخطة حاليّاً تتمثل في إعطاء الشرعيّة لهذه الحملات وخصوصاً بعدما عبّر الاتحاد الأوروبيّ نفسه والمنظمات الأمميّة والحقوقيّة عن مخاوفهم من تزايد وتيرة العنف السّلطويّ، ذلك من خلال وضعها كجزءٍ من الحلّ المُقترح الذي سوف تتقدم به الحكومة في مؤتمر بروكسل الثامن.
إذ وبحسب ما صرّحت المصادر الحكوميّة سابقاً، فإن الركن الأساسيّ للخطة مبنيّ على التمسّك بالمواقف السّابقة ومنها: إعادة تقييم الوضع في سوريا، وتصنيف المناطق بين الآمنة وغير الآمنة، وبالتالي، تحديد من تنطبق عليه صفة اللجوء، والمهاجر الاقتصاديّ والمقيم غير الشرعيّ وترحيلهم إلى هذه المناطق (كما جرى مؤخرًا بتسييرها لقافلة "عودة طوعية"..)، وذلك بالاستحصال على بيانات إضافيّة من المفوضيّة السّامية بشأن مواعيد دخول اللاجئين السّوريين ومناطقهم الأصليّة وأوضاعهم السّياسيّة والأمنيّة على مبدأ الـ (OBIA classification). وتحويل أموال المساعدات مروراً بها إلى السّوريّين المُرحّلين في بلادهم (متجاهلةً أن النظام السوري مُحاصر بالعقوبات). وكذلك الطلب من الاتحاد الأوروبيّ تفهّم أيّ قرار لبنانيّ بترحيل اللاجئين الذين لا يملكون أوراق إقامة سارية المفعول في لبنان. في وقتٍ يُذكر، أن مثل هذه الطروحات دائماً ما تواكبها نفس الحملات الشعبيّة والسّياسيّة، قُبيل مؤتمر بروكسل، بحيث تتخذ صبغة مواربة، يسعى فيها لبنان للضغط على المانحين الدوليين واستنهاض مشاعر التعاطف الإنسانيّ لدى هذه الأطراف المُنهكة بعد 13 عاماً على الحرب، والمشغولة بالتداعيات الإنسانيّة للنزاعات المستجدّة، كأوكرانيا وغزّة.
وبصرف النظر عن كون الاتحاد الأوروبيّ لم يبدِ حتّى اللحظة أي استعداد لإعادة فتح باب النقاش مع النظام السوري أو إقامة علاقة دبلوماسيّة في الوقت الراهن، ما دام مصرّاً على تعطيل الانتقال السّياسيّ المنصوص عليه في قرار مجلس الأمن الدوليّ رقم 2254، -وهذا ما أكدّه ممثلو بعثة الاتحاد الأوروبيّ في لبنان لـ"تلفزيون سوريا"– وبالتالي فإن الطرح الحكوميّ اللّبنانيّ مرفوض وساقط حتّى قبل بثّه في فعاليات المؤتمر، بيد أن الحكومة اعتمدت التهديد والتصعيد في طروحاتها. أما المذهل في مقاربة الحكومة في خطتها فهو أنها مبنيّة على افتراضات، أخطرها هو اعتبار أن ظروف عودة اللاجئين إلى بلادهم أصبحت مؤاتية في الوقت الراهن، وخصوصاً المعارضين الذين دعتْهم للعودة إلى الشمال السّوريّ، وفي ذلك إما تبسيط لحجم القضيّة السّوريّة وإما جهل بخريطة السّيطرة العسكريّة الّتي تُثبت أن إمكانيّة عودة المعارضين في حال رغبتهم إلى الشمال، مستحيلة، بالنظر لانتشار قوات النظام على امتداد الحدود والمعابر للوصول إلى الشمال، ناهيك عن تمركز "حزب الله" في 117 نقطة وموقعاً، بحسب دراسة أعدّها "مركز جسور للدراسات".
وللتعليق على الطرح الحكوميّ، تقول المحامية اللّبنانيّة والخبيرة في القانون الدوليّ، ديالا شحادة: "جميع الطروحات المتداولة حاليّاً تلتف حول المشكلة الأساسيّة، ألا وهي أن النظام السّوريّ بممارساته وأفعاله لا يرغب في إعادة اللاجئين السّوريين، فما قام بالتأسيس لمرحلة انتقاليّة لمعالجة المرحلة السّابقة، ولا وضعَ حجر الأساس لإعادة إعمار المناطق المدمرة والتّي لا تزال تحتلها الميليشيات، ويأتي منها 80 في المئة من اللاجئين السّوريين في لبنان، ولا حتّى عالجَ مسألة تنظيم وجود المقيمين الذين لا يتمتعون بإقامة صالحة، بل يعتمدون في تجوالهم بين سوريا ولبنان على عصابات التهريب الحائزة على نفوذٍ سياسيّ وأمنيّ لبنانيّ – سوريّ مشترك".
أما فيما يتعلق بمطلب إعادة تقييم الوضع في سوريا، فتؤكد شحادة:" طبعاً سوريا ليست آمنة، وذلك لأن النظام السّوريّ، لم يُعد النظر حتّى اللحظة بسياساته الانتهاكيّة بحقّ شعبه ومستمر في التجنيد الإلزاميّ للذكور وإقحامهم في نزاعاته المسلّحة المستمرة"، مستطردةً:" هذا عدا كون حملات الترحيل غير مُجدية، لأنها بكل بساطة، فتحت المجال أمام القادر ماليّاً من المُرحّلين للعودة عن طريق التهريب عبر الحدود البريّة المشتركة المتفلتة بحكم الأمر الواقع، بل وهي تزيد من حدّة الأزمة، فالداخل خلسةً لا يُسمح له بتسويّة أوضاعه وإنما يصبّ هذا الترحيل في مصلحة شبكات التهريب".
الطروحات البرلمانيّة
وعلى هذا الوضوح، افتتحت الحكومة موسم الطروحات الرسميّة والحزبيّة، الّتي لا ترقى أن تكون سوى صورٍ متناظرة الانعكاس لكلّ الطروحات التبسيطيّة والسّطحيّة السّابقة، في أحسن الأحوال. وتحديداً بدخول المجلس النيابيّ على خطّ الجدال العام، إذ إن الجلسة الّتي عُقدت للتباحث في هبة المليار يورو ومناقشة ملف اللاجئين والّتي اعتبرها رئيس المجلس نبيه برّي بأنها جلسة لتقرير مصير لبنان، خلصت إلى قبول الهبة مع استئناف الإجراءات الّتي تراها الحكومة مناسبة في هذا الصدّد، الأمر الذي اعتبره مراقبون أن المجلس وافق ضمناً على انتهاكات الحكومة لالتزاماتها الدوليّة والحقوقيّة وتطبيعها المنهجيّ مع حكومة النظام السوري تحت هذه الذريعة، في حين وصفها آخرون بحفلة للمزايدات وبأنها اجتماع لبنانيّ نادر على اقتلاع اللاجئين كيفما اتفق.
إلا أن اللافت، أن اقتراحات القوانين بصفة المُعجّل المكرّر (أي يتمّ إقرارها فوراً) والّتي تقدّمت بها مختلف الكتل النيابيّة إما تفاعلًا مع الهبة الأوروبيّة أو بمناسبة الحدث اللّبنانيّ، لم تُمنح حتّى اللحظة الانتباه اللازم، وغالباً ما يتمّ تجاهلها، لكون البرلمان في حالة انعقاد دائمة لانتخاب رئيس للجمهوريّة ودستورياً لا يملك الحقّ في إقرارها، ذلك حتّى قامت كتلة "لبنان القويّ" ممثلة التيار الوطنيّ الحرّ، بتقديم اقتراح القانون الرامي إلى "ترحيل النازحين السّوريّين غير الشرعيين المقيمين على الأراضي اللّبنانيّة ووقف نزوحهم" بدرجة العادي لجهة العجلة (أي يتمّ تمريره على اللجان النيابية) في الثامن من أيار الجاري. هذا الطرح الذي يُعد الأخطر في حال تمّ تمريره، بحكم مضامينه الّتي جاءت لتفرض ترحيل السّوريين في عددٍ من الحالات، وبعضها حتّى وإن كانوا حائزين على إقامة قانونيّة، وخلال مهلٍ قصيرة جدًا. ويمنع حقّ اللجوء وعدم الترحيل القسريّ عن اللاجئين.
في حين استند مقدّمو اقتراح الأسباب الموجبة إلى ما يترتب على وجود اللاجئين السّوريّين في لبنان من "مخاطر حثيثة وجدّيّة على الديمغرافيا والاقتصاد والبيئة والأوضاع الاجتماعيّة والماليّة والتربويّة والأمنيّة وما يتّصل بسوق العمل وبطالة اللبنانيّين وهجرتهم.." (نصّ القانون) والقانون المُقترح يُصدر رؤية استجدت على السّاحة الدبلوماسيّة اللّبنانيّة، مفادها الرجوع ولو ضمنيّاً إلى معاهدة "الأخوّة والتعاون والتنسيق" الموقّعة بين لبنان وسوريا عام 1991 والّتي أعطت حينذاك الشرعيّة للاحتلال العسكريّ السّوريّ في لبنان، كما هي سائر المقترحات الّتي تقدّمت بها جهات مختلفة سابقاً وأهمّها النائب "التغييريّ" إلياس جرادة، والدالّة مباشرةً على ضرورة إعادة التنسيق الأمنيّ والدبوماسيّ والإداريّ مع النظام.
وفي هذا السّياق، يشرح النائب في البرلمان اللّبنانيّ إبراهيم منيمنة، طبيعة السّجال البرلمانيّ الحاصل، متطرّقاََ إلى تعليقاته على الطروحات، قائلاً:" الأولويّة اليوم تقع في مداراة الصراحة والشفافيّة عند التعاطي مع هذا الملفّ وطرحه أمام الشعب اللّبنانيّ، فالمؤكد أن هناك جزءاً يُمكن للدولة اللّبنانيّة أن تتحمّل مسؤوليّته، والآخر الخارج عن إطار قدرتنا، المرتبط بالبعد الخارجيّ وطرديّاً بالنظام السوري، الذي لا يبدي حتّى اللحظة أيّ رغبة في إعادة اللاجئين، والذي يستغلهم في صفقات المقايضة مع المجتمع الدوليّ".
ويتابع منيمنة:" وهناك جزئيّة أخرى، تُشكّل المحوريّة في مسار الحلّ، وهي أن يقبل حزب الله بالخروج من المناطق الّتي يتمركز فيها، للمساعدة في عودة هذه المناطق. وما نستطيع فعله نحن، هو تنظيم الوجود السّوريّ في لبنان، أكان للمقيمين في لبنان واللاجئين السّياسيين والأمنيين، وغيرها، وهي فئات يجب توافر استراتيجيّة معيّنة، وضمن إطار زمنيّ مُحدّد، من دون اللجوء إلى التعبئة والمزايدات والطروحات الشعبويّة أو الحلول غير الإنسانيّة، والشعبان هما ضحايا سلطاتهما في نهاية المطاف. مع التأكيد أننا لن نقوم بالمدافعة عن أي نظام كما فعلَ عدد من الفرقاء السّياسيّين".
خياران للاجئين السوريين
وفي الخلاصة، وبينما يتدافع المعنيّون، للمضيّ في نفس المعبر المُختصر الذي يُفضي بنظرهم إلى "حلٍّ" لملفّ اللجوء السّوريّ، بطروحاتٍ تبسيطيّة لا تأخذ بعين الاعتبار العثرات في القرارات والإجراءات المأخوذة سابقاً، ولا تتوخّى التنظيم والعمليّة، فضلاً عن البُعد الإنسانيّ للقضيّة، يستفحل وضع اللاجئين في لبنان، الذين وجدوا أنفسهم في موضعٍ مُلتبس، ولا خيارات مطروحة أمامهم، سوى الفرار مجدّداً بحثاً عن بلادٍ تستقبلهم، أو الموت لدى هذه المحاولة.