icon
التغطية الحية

الطب الشعبي في سوريا.. تكاليف أقل وعواقب غير محسوبة

2023.12.14 | 07:46 دمشق

آخر تحديث: 29.01.2024 | 10:54 دمشق

الطب الشعبي في سوريا.. تكاليف أقل وعواقب غير محسوبة
الطب الشعبي في سوريا.. تكاليف أقل وعواقب غير محسوبة
دمشق - حنين عمران
+A
حجم الخط
-A

انتشرت في الآونة الأخيرة محال بيع مستحضرات التجميل الطبيعية والأعشاب بالتزامن مع إقبال السوريين على شراء المواد "غير الكيميائية" واستخدامها كبدائل للأدوية و"الإكسسورات" الصيدلانية.

ولا يبدو هذا الإقبال المتزايد ناتجاً عن الحاجة إلى تغيير "اللايف ستايل" وترك كل ما هو كيميائي ومُصنَّع والعودة إلى الطبيعة، بل هو في صميمه تعبير عن اليأس وصورة من صور معايشة الحياة ومعالجتها بأقل التكاليف الممكنة.

خرافات موروث لم ينتهِ

يرتبط إقبال السوريين وقبولهم للمنتجات الطبيعية -على الرغم من عدم معرفتهم محتواها أو أثرها المديد- بنصائح الأهل وحكايات الجدّات والشائعات التي يتناقلها الأصدقاء فيما بينهم.

ويعد طب الأعشاب بمسمياته المختلفة "الطب الطبيعي، الطب التكميلي، الطب البديل، العلاج بالمواد الطبيعية.." موروثاً اجتماعياً ودينياً تعود بداياته إلى ما قبل تطور الطب المسند بالدليل (الطب البشري) ونشوء علم الصيدلة كاختصاص علمي مستقل عن علم النبات وعلم الكيمياء وإن كان مشتقاً منهما، إذ كانت "حرفة العِطارة" هي الأساس في توصيف العلاجات للناس والتخفيف من آلامهم، ولا تزال المؤلفات التي وضعت في هذا المجال موجودة حتى الآن في الكثير من بيوت السوريين؛ إذ تلجأ إليها الأمهات لمداواة أولادهن في الحالات الطارئة أو عند تعذر الوصول إلى طبيب.

ارتفاع أسعار الأدوية والعلاجات الصيدلانية

لم يعد شراء الأدوية بالدين أو بالتقسيط أمراً مُستهجناً أو غريباً على السوريين؛ فأسعار الأدوية ترتفع إلى الضعف أو أكثر بين الحين والآخر؛ وتبرر حكومة النظام السوري ذلك بارتفاع سعر صرف الليرة السورية وما يترتب عليه من ارتفاع أسعار المواد الأولية المستوردة والتي تدخل في الصناعات الدوائية.

أما المواد التجميلية ومستحضرات العناية بالبشرة "الأجنبية" التي تدخل "تهريباً" إلى السوق السورية فأسعارها خيالية مقارنة بالمنتجات الوطنية وتمتنع الصيدليات عن عرضها لكونها مُهرّبة، وتقدمها للزبائن عند الطلب أو بتوصية مسبقة، حتى لا يتكلف الصيدلي ثمنها من دون وجود طلب عليها ما يؤدي إلى كسادها.

ونظراً لضعف القدرة الشرائية لدى السوريين والغلاء المعيشي، أصبحت تكاليف العلاج الضرورية عبئاً حقيقياً بالنسبة إليهم، أما مواد التجميل والتنظيف والعناية الشخصية، فهي –بلا شك- ترف ورفاهية لا يطوله الجزء الكبير منهم.

وبينما تضطر بعض الشابات إلى شراء "غسول" أو صابون مخصص للوجه بقيمة 40 ألف ليرة سورية، فإن فئة كبيرة منهن تستبدله بصابون "طبيعي" مُصنَّع من الغليسرين مضافاً إليه مواد طبيعية مختلفة بحسب المشكلة التي تعاني منها الفتاة (حب شباب، تجاعيد، هالات سوداء، مسامات متسعة..إلخ)؛ وهي خدعة تسويقية ذكية يمارسها العطّارون (حرفيو المواد الطبيعية) لزيادة عدد المنتجات وحل مشكلات الزبائن المختلفة، مع أنّ معظم هذه المنتجات لها التركيب نفسه ولكن باختلاف طريقة التعبئة والرائحة العطرية المُضافة.

وفي لقاء موقع تلفزيون سوريا مع شابة في أحد محال المواد الطبيعية بحي "القيميرية" في دمشق القديمة، تخبرنا (سوزان.ر) أنها بدأت باستخدام هذه المستحضرات الطبيعية، منذ عامين ونصف، وكانت البداية حباً بالتجربة إلى جانب الوضع المعيشي السيئ.

تقول: "مثل أي شابة في بداية عمرها، كنت مهتمة جداً بالعناية ببشرتي ومواد التجميل والنظافة الشخصية، ونظراً لكون أسعار المنتجات التي كنت أشتريها من الصيدلية ارتفعت بشكل جنوني، لجأت إلى سوق البزورية، بعد نصيحة عمتي، واشتريت صابون طبيعي –على ذمة البائع- وكان سعره آنذاك أقل بمقدار النصف تقريباً من الصابون الطبي في الصيدلية، ثم بدأت بتجربة منتجات مختلفة من محال طب الأعشاب والمستحضرات الطبيعية، مثل الواقي الشمسي وكريمات إزالة آثار حب الشباب، وحتى شامبو الاستحمام".

وبسؤالها عن مقدار استفادتها من هذه المنتجات، أخبرتنا سوزان: "لن أبالغ وأقول إنّ بشرتي تحسنت، بل في الحقيقة لم يختلف الأمر كثيراً، لكن الاستمرار في هذا الروتين من العناية بالبشرة ولو بتكاليف قليلة، يعطيني شيئاً من الراحة النفسية، ويشعرني بأنوثتي!".

يأس من الأدوية والأطباء

لا يقتصر الأمر على ضعف القدرة الشرائية لدى السوريين أو انعدامها، ولا يقتصر أيضاً على غلاء معاينة الأطباء التي قد تصل إلى مئة ألف ليرة سورية، بل إن تجارب الكثير من الناس مع الأطباء البشريين والمستشفيات كانت "مريرة" حسب وصفهم؛ إذ لا تخلو تلك التجارب من كثرة المراجعات من دون تحقيق فائدة علاجية والتنقل المستمر بين المستشفيات والمراكز الطبية؛ الأمر الذي وضع الكثير من المرضى في دائرة من الإحباط والملل واللا جدوى؛ ووفق مبدأ "الغريق يتعلّق بقشَّة" يلجأ العديد منهم إلى طب الأعشاب والعلاجات الطبيعية، لعلهم بذلك يلقون نتيجة جيدة.

وفي لقاء لتلفزيون سوريا مع "خلود.ف" وهي امرأة خمسينية تعاني من مرض الديسك، أخبرتنا أنها بدأت علاجها عند أحد الأطباء في شارع بغداد بمدينة دمشق، وهو دكتور متخصص في طب الأعصاب من روسيا، بعد أن أخبرها الأطباء في مستشفى الأسد الجامعي الحكومي بأنها بحاجة إلى العمل الجراحي مباشرةً وأن وضعها لا يمكن المهادنة فيه أو الانتظار فقد تتعرض للشلل التام، لكن الدكتور الآنف الذكر أخبرها بأنّها تستطيع تجاوز العمل الجراحي بحقن إبر في العمود الفقري مباشرةً وتبلغ قيمة الإبرة الواحدة 70 ألف ليرة يأخذها المريض على دفعات في عيادته في شارع بغداد.

وبعد حقن 40 إبرة (مجهولة المكونات) لم تتحسن المريضة وبقي وضعها متنكّساً بين الحين والآخر مع عدم القدرة على الحركة الطبيعية أو الانحناء. تقول خلود: "لم أستفد من العلاج بالإبر ولم تعد المسكنات نافعة في حالتي، لذلك لجأت إلى طبيب أعشاب في حمص يُعالج مرضاه باستخدام نبات القبّار".

ويعد استخدام نبات القبار علاجاً موضعياً موروثاً ولا سيما في القرى، إذ تُشكَّل منه عجينة توضع على مكان آلام الديسك لمدة 14 دقيقة تقريباً وهو يعطي حرارة عالية مسكنة للآلام.

تتابع خلود قصتها: "يقيم المعالج في منطقة (الثابتية) في حمص، وتعالج زوجته النساء بينما يعالج هو الرجال، وقد ورث هذا العلاج عن أبيه. وفي الحقيقة لم أستفد من ذلك العلاج على الرغم من تطبيقه مرتين على ظهري، ولم تتجاوز فوائده تخفيف الألم مؤقتاً.. وبذلك اشترينا الوقت لا أكثر، أو ربما أضعنا الوقت".

وقد اندفعت خلود، كالعديد من السوريين إلى الطب البديل خوفاً من العمل الجراحي، ويأساً من زيارة الأطباء والمستشفيات؛ إذ تنتشر خرافات بين عامة الناس بأن نسبة فشل عملية الديسك هي 50 بالمئة وفق تجارب أقاربهم ومحيطهم الاجتماعي؛ وفي ذلك تعميم خاطئ؛ إذ يعتمد الأمر -كما في أي عمل جراحي- على قابلية جسد المريض للشفاء ومهارة الجراح وحسن التشخيص المرضي والالتزام بالتوصيات بعد العلاج.

وبعد فقدان الأمل من المسكنات والعلاجات الموضعية والطب البديل، أجرت المريضة العمل الجراحي وهي الآن في مرحلة الشفاء، تقول: "لو أجريت العملية مباشرةً كنت كسبت الوقت وقللت التكاليف وحميتُ نفسي من تفاقم وضعي إلى هذا الحد!".

آثار مدمرة صحياً وليست في الحسبان

لا تتوقف الآثار السلبية لهذا النوع من العلاجات على إضاعة وقت المريض حتى تزداد حالته سوءاً، أو على استغلال الناس لسرقة أموالهم بالاستخفاف بعقولهم، بل إن استخدام بعض المواد العشبية ولا سيما إذا كان استخداماً متكرراً أو بجرعات كبيرة، قد يؤدي إلى نتائج خطيرة صحياً، إذ إنّ فرط الجرعات قد يسبب شكلاً من أشكال السمية أو الحساسية أو الأمراض المزمنة.

أبو محمود مصطفى، رجل في الستين من عمره ينحدر من منطقة (سقبا)، اعتاد خلال حياته ولا سيما بعد تقدمه في السن على استخدام عشبة "السنامكة" وهي عشبة تؤخذ منها الأوراق أو الثمار "العشرق" وتستخدم في الطب الشعبي وعند العطارين كـ مُليِّن طبيعي، يحفز حركة الأمعاء ويزيد منها ما يسبب إسهالات متفاوتة في شدتها حسب الجرعة، وبمرور الوقت يرفع الجسم عتبة تأثره بهذه العشبة؛ فيحتاج المريض إلى جرعات أكبر، نتيجة اعتياده عليها.

وتؤخذ هذه الأعشاب مغلية في الماء، والجدير بالذكر أنه توجد منها أشكال صيدلانية (دواء) إذ تمت الاستفادة من المادة الفعالة فيها "سينوزيد" بجرعات مدروسة حسب الحالة وتؤخذ بوصفة الطبيب في حالات معينة مثل تفريغ الأمعاء قبل إجراء التنظير أو الجراحات الهضمية، على عكس ما يصفه العطارون للمرضى بطريقة عشوائية للعشبة الأصلية.

يخبرنا أبو محمود قصته: "استخدمت هذه الأعشاب منذ 6 سنوات تقريباً، بشكل شبه يومي وبمقدار كأس واحد إلى كأسين يومياً حسب توصية أحد العطارين وهو صديق قديم جداً لأبي، ولكن الأمر الذي لم يكن في الحسبان أنني اضطررت لاحقاً إلى استئصال جزء من الأمعاء بسبب الاستخدام المتكرر لها وعدم مراجعة الطبيب المختص وإهمال وضعي حتى تفاقم، إذ سببت لي هذه الأعشاب كسلاً في الأمعاء ثم انسداداً في الأمعاء ترافق بتقرحات، وقد أخبرني الطبيب بعد مراجعتي له أن الحل الوحيد في حالتي هي العمل الجراحي خوفاً من المضاعفات". وضع أبو محمود الصحي أفضل الآن، لكنه وعلى حسب قوله: "كنت في غنى عن العملية وعن خسارة جزء من أمعائي!".

أما رزان حلبي، فهي فتاة عشرينية تعاني من الداء الزلاقي، وهو مرض مناعي ينتج عنه رد فعل تحسسي شديد عند التعرض لمنتجات القمح الحاوية على الغلوتين أو تناوها مباشرةً، وفي حديثها لموقع تلفزيون سوريا، أخبرتنا أن استخدامها أحد المواد الطبيعية المخصصة لنضارة البشرة "تفتيح البشرة"، أدى بها إلى المستشفى في حالة إسعافية خطيرة.

تقول: "تحتوي العلبة التي اشتريتها من أحد محال المواد الطبيعية القريب من بيتي، على آثار من الغلوتين، وهذا ما تبين بعد تقدمي بشكوى مباشرة نظراً للضرر الكبير الذي تعرضت له، والجدير بالذكر، أن هذه العلامة التجارية للمواد الطبيعية تحمل ترخيصاً تجارياً حسب ادّعاء مالكها وهو عطار يحمل الشهادة الحرفية في استخلاص الزيوت والمواد العطرية النباتية، لكن منتجاته لا تحمل أية لصاقة توضح محتوياتها أو حتى طريقة الاستخدام؛ ولم أتوقع أن يحتوي منتج تجميلي طبيعي على الغلوتين المسبب للحساسية، ولم أتوقع أن يسبب الاستخدام الموضعي هذه النتائج المؤلمة". استطاعت رزان النجاة هذه المرة، ولكن الدعوى لم تأخذ مجراها، تقول: "المُصنِّع المسؤول عن هذه المنتجات، دفع قرشين ولم يُحاسَب".

عمل من دون تراخيص ووزارة صحة النظام غائبة عن المشهد

يحتاج العمل في إنتاج المواد العشبية ومواد التجميل الطبيعية: قرار صناعي، سجل صناعي، سجل تجاري، موافقة وزارة الصحة.

ويعمل في هذا المجال الأكاديميون من حملة الشهادات في: الصيدلة، الهندسة الزراعية، الكيمياء, بالإضافة إلى العطارين الذين توارثوا هذه الحرفة عن آبائهم وهم من حملة شهادات تمنحها نقابة المهن الحرفية.

ويمتنع معظم العاملين في هذا المجال عن توثيق عملهم هرباً من ملاحقة وزارة الصحة ودفع تكاليف الحصول على التراخيص وتجديدها سنوياً، وتفرض وزارة الصحة التابعة للنظام شروطاً معينة لافتتاح هذه المعامل المصغرة؛ وهي شروط متعلقة بممارسات التصنيع ونوعية المواد الأولية وشهادات الجودة والآثار الجانبية بعد أخذ عينات من كل منتج ينتجه المعمل.

ولا يقتصر الامتناع عن الحصول على هذه التراخيص على الخوف من الملاحقة في حال وقوع حوادث صحية مرتبطة بالآثار الجانبية لأحد المنتجات، بل أيضاً بسبب المعاملة البيروقراطية والتكاليف المترتبة عليها.

وعلى ذلك، يضطر العاملون في هذا المجال إلى العمل بالخفاء أو التسويق كعلامة تجارية (براند) من دون وجود توثيق تجاري أو صناعي أو صحي لمنتجاتهم.