ليس الحديث هنا عن حقوق السجناء والمعايير الدولية للسجون، أو حق نزلاء أي سجن ومعتقل على وجه البسيطة، في معرفة ما يجري بمحيطهم من أخبار وأحداث، غيرت وجه بلدانهم على مدار مئوية عربية عاصفة بالأحداث والانقلابات والتوترات السياسية، بل الحديث عما يطلق عليه عربياً الصحافة "الاعتقالية"، وما عرف في الولايات المتحدة بصحافة السجن prison journalism، أي تلك الصحف التي يقوم على إصدارها نزلاء في السجن، ويوزعونها على البقية.
ولعل اختلاف التسمية، يأتي من اختلاف طبيعة وأهداف هذه الصحف والقائمين عليها، ومراحل إعدادها، ففي البلدان العربية كسوريا وفلسطين والعراق ومصر، على سبيل المثال لا الحصر، كان السجناء من أصحاب هذه التجربة بمواجهة مباشرة مع السلطة، من نخبة ثقافية ما، معتقلين بتهم سياسية، في سبيل مقاومتهم الديكتاتور أو المحتل، ولم تخرج الصحف في شكلها ومحتواها عن هذا الإطار النضالي، وطبعاً كانت الأدوات بسيطة والمهمَّة سرّية محفوفة بالمخاطر، أخذت أحياناً شكل الصحافة الحزبية، كما في العراق خلال فترة الستينيات.
في حين غالباً من يقوم على صحافة السجن في كل من الولايات المتحدة وكندا، على سبيل المثال لا الحصر، سجناء عاديون، وأصحاب جنايات ومخالفات قانونية، لم يتمتع جميعهم، بالخبرة الكتابية أو الصحفية، يمتلكون حالياً الأدوات والدعم الكافيين ويسمح لهم بإصدار صحف نظامية بإشراف من إدارة السجن، ضمن برامج "تأهيل" كما تسميها الحكومات، ولا يعني ذلك أنها صحافة حرة بالمطلق، فقد طرح باحثون جدلية التساؤل حولها، في أنها قد تكون - صحافة السجن - عبارة عن صورة مكبرة للعمل الإعلامي تحت "رأسمالية المراقبة".
سنتناول في هذه المادة تجربة من تجارب الصحافة الاعتقالية في العراق بعد فشل الثورة الشيوعية عام 1963، أو ما عرف بثورة الرشيد، ولمحة عن تاريخ صحف السجون في الولايات المتحدة، باعتبار أنها صاحبة التجارب الأغنى في إصدار جرائد من هذا النوع، مع بلوغها 500 صحيفة حتى الآن (1).
العراق - سجن نقرة السلمان
في العراق، وبعد فشل ثورة الشيوعيين في عام 1963، امتلأت السجون العراقية بمؤيدي الثورة، لا سيما ممن كانوا ذوي توجه سياسي وثقافي نخبوي، إلا أن أغلال السجن، لم تمنعهم من ممارسة العمل الصحفي، وإصدار الصحف والنشرات الإخبارية الورقية بشكل يومي داخل أسوار حبسهم.
في عام 1964، يقول الكاتب والباحث العراقي، ابن مدينة البصرة، جاسم المطير، إن الهيئة الحزبية القيادية في الحزب الشيوعي العراقي، كلفته حال دخوله السجن، بالانضمام إلى هيئة تحرير الجريدة السجنية وإصدارها يومياً، بانتظام.
ويوضح المطير في مقال(2)، أن جريدة السجن، كانت تصدر صفحتين، وأحياناً عشر صفحات، لكن الغالب عليها صدورها بصفحة واحدة فقط، لكن محرري الصحيفة داخل سجن "النقرة" العراقي في فترة العام 1965، حققوا القفزة العظمى، كما سمّاها "المطير"، حينما تمكنوا من إصدار الملحق الأدبي - الثقافي، ومرة أخرى الملحق الاقتصادي - النفطي، ومرة ثالثة الملحق الصناعي - الزراعي، بمساهمة من الباحثين داخل السجن وغيرهم من شعراء وفنانين وأكاديميين.
وبالاطّلاع على ما أورده الروائي "جاسم المطير" فقد كان خمسة أشخاص، يتولون مهمة إصدار صحيفة السجن، حيث تعد موادها بين الساعة السابعة والثانية عشرة ليلاً، لتوزع عند الثامنة في صباح اليوم التالي، بعد تدقيقها، وكتابة أربع نسخ منها على الأقل.
الأمر لم يقتصر على كتابتها ونسخها يدوياً، وتوزيعها للقراءة فقط، فقد كان يقوم أحد نزلاء كل قاووش على حدة، بقراءتها على الآخرين في نفس الزنزانة، بعد أن يتم اختياره بناء على صوته ولغته.
كان ذلك في سجن "نقرة السلمان"، أحد أقدم السجون العراقية، والواقع في قلب الصحراء قرب الحدود مع السعودية، وفي كتابه "من أعماق السجون - نقرة السلمان قيود تحطمت" يصف الشاعر العراقي "عبد القادر العيداني"، الذي كان شاهداً على جميع مراحل العمل في إصدار هذه النشرة الإخبارية التي قام عليها السجناء السياسيون بين عامي 1963 - 1964، البداية البسيطة في غرفة أخبار السجن، واعتمد القائمون عليها على جهازي راديو، يعملان بالبطارية، وجهازي تسجيل من نوع توشيبا، تعمل على البطاريات أيضا، ويتم إخفاء هذه الأجهزة بعد الانتهاء من العمل في مخبأ خاص.
وبحسب ما ذكر "العيداني" فقد كانت إذاعة صوت الشعب العراقي التي (تبث من بلغاريا) مصدراً رئيسياً للصحفيين لاستقاء الأخبار وإعداد محتوى الصحيفة، ولا بد من الإشارة إلى أن كثيرا من المساهمين فيها تجنبوا ذكر أسمائهم خوفاً من أن تصل لإدارة السجن.
وهكذا كان السجناء على موعد صباحي يومي مع نشرة إخبارية كتبت في الليلة السابقة، على أضواء الفوانيس والشموع، بعد تفريغ محتوى التسجيلات ونسخ مقالات المساهمين، "كانت نشرة زاخرة بالأخبار والتعليقات السياسية وكل ما يفيد السجن السياسي في مناحي الحياة المختلفة"، بما فيها المقالات السياسية وواقع الحركات الشيوعية العالمية، يصفها العيداني.
الولايات المتحدة
قد يقودنا البحث عن صحافة السجن في الولايات المتحدة، إلى أولها، صحيفة "forlorn hope"، التي صدرت داخل سجن المتخلفين عن ديونهم في ولاية نيويورك.
نشرها المحامي "ويليام كيتلتاس" (3)، في فترة سجنه، باعتباره مديناً، أسبوعية، استمرت لأكثر من نصف السنة، منذ بدء صدورها في آذار/ مارس ١٨٠٠ واستخدمها للترويج لإصلاحات السجون، والدعوة لإلغاء عقوبة الإعدام، وظاهرة العبيد وحق التعليم دون التمييز على أساس اللون، وبالطبع واقع السجون وقوانينها.
ولا يمكن تجاهل صحيفة (4) "the prison mirror"، أصدرها سجناء في إصلاحية ولاية مينيسوتا، منذ عام 1887، والتي لا تزال مستمرة إلى الآن، وحظيت خلال التاريخ الطويل من النشر على عدة جوائز في صحافة السجون الأميركية.
يحتفل فريق صحيفة "muli creek post" الأميركية، الصادرة في سجن "مولي كريك" في ولاية كاليفورنيا، بنيلها جائزة "social justice award"، وفق افتتاحية عددها الأخير، وبمرور أربع سنوات على إصدار العدد الأول منها في كانون الثاني/ يناير 2018.
يقول رئيس تحريرها "ديفيد باب" في مقال له (5)، حول كادر العمل، عند البداية بالمشروع، إن معظمهم لديه حكم بالمؤبد، ومنهم من كان يمتلك خبرة صحفية أو كتابية قبل حياة السجن، وآخرون أبدوا اهتمامهم انطلاقاً من أن تأسيس الصحيفة بدا وكأنه مسعى إبداعي وغير عادي.
أما عن آلية وروتين العمل، فلم يختلفا كثيراً عن نظيراتهما خارج أسوار السجن، بدءا من الاجتماعات والمناقشات على طاولة مستديرة ومشاهدة الأخبار عبر التلفاز أو الراديو، إلى إجراء المقابلات المسجلة بالصوت أو الصورة.
صدر عنها حتى الآن 47 عددا (6)، تراوح عدد صفحاتها بين 16 و10، كما وزع نسخ منها على أكثر من خمسة سجون في الولاية مع الإشارة إلى أنها توقفت عن العمل لفترة من الزمن، إثر بدء جائحة كورونا.
رومانيا.. الكتابة لنيل الحرية
تمثل الكتابة بالنسبة للمساجين في قضايا الفساد والاحتيال في رومانيا وسيلة لنيل الحرية، منذ أن أقرت البلاد في عام 2013 قانوناً، يسمح بوضع كتاب أدبي أو علمي مقابل تخفيض مدة العقوبة، وهو ما فعله لاعب كرة القدم "جورجي بوبسكو"، بعد أن حكم عليه بالسجن ثلاث سنوات بتهمة التهرب الضريبي، وأخلي سبيله بعد تقديمه كتاباً حول كرة القدم.
يبقى السؤال معلقاً، عن واقع مؤلم تعيشه السجون العربية، وظروف الاعتقال فيها، لا سيما عند أولئك ممن لاحقتهم أغلال الزنازين، ذلك لأنهم رفعوا أقلامهم في مواجهة مباشرة مع الاستبداد والاحتلال، ولربما أقرب ما يرمز إلى حالة كهذه، هو مطلع قصيدة مشهورة نظمها في عام 1922 الأديب والصحفي السوري "نجيب الريس" خلال فترة سجنه في سجن جزيرة أرواد:
يا ظلام السجن خيّم إننا نهوى الظلام
ليس بعد الليل إلا فجر مجد يتسامى