"الحياة من دون موسيقا خطأ فادح"، تذكرت هذا القول لـ "فريديريك نيتشه" وأنا أعود بذاكرتي مع الأغنية التي صدحت من الراديو مصادفة حين كنت في طريقي.
أخذتني تلك الأغنية إلى سنوات خلت في تلك الشوارع التي أصبحت بعيدة الآن، كانت فيروز تغني "سائليني يا شام" حين تناهت إلى سمعي الأغنية تحديداً في المقطع الذي يقول، "وجِعتْ صفصافةٌ من حزنِها/ وعَرَى أغصانَها الخضرَ سقامْ/ تقف النجمة عن دورتِها/ عند ثغرين وينهار الظلامْ".
يا له من وصف يختصر الشام، تبدو الجمل التي كتبها سعيد عقل مناسبة تماماً للوجع السوري المستمر، غير أنني كنت أتمنى في سرّي لو أن تلك اللحظات التي تذكرتها وقفت هناك، عندما كانت تلك الأغنيات تُغنينا عمراً بأكمله وتعيد رتق جروحنا وترميم ذاكرتنا، تلك اللحظة التي كان فيها صوت فيروز يصدح في كل مكان من المدينة فيلوّن الصباحات الدمشقية وغيرها من المدن السورية بلون واحد قبل أن نفقد الإيمان بكثير من الرموز والمقدسات.
كيف كانت أغنيات فيروز تؤثر فينا وتجعلنا نهيم حباً بمدينة سكنت تفاصيلنا وسكنا حاراتها، وأصبحت معشوقة كثير من الشعوب العربية التي كانت تراها من خلال هذه الأغنيات، قبل أن نغضب من هجرها لنا أو هجرنا لها وقبل أن نكفر ببقية القيم والأحلام التي لم تكفِ لإنقاذنا حين فعل بنا القدر فعلته.
المتغيرات التي حلت بنا أجبرتنا على نسيان أو تناسي كثير من عاداتنا وذكرياتنا الجميلة، فأصبح الشغف الموسيقي بالنسبة إلى كثير منا ترفاً بعيد المنال
لا تربطنا بالموسيقا كشعوب علامات موسيقية فحسب، بل تتولى مجموعة الأصوات التي تبعث في النفس مشاعر مختلفة، ترجمة مشاعرنا في كثير من الأحيان، خاصة أنها تتمتع بخاصيات مفيدة على صعيد تخفيف الألم.
غير أن المتغيرات التي حلت بنا أجبرتنا على نسيان أو تناسي كثير من عاداتنا وذكرياتنا الجميلة، فأصبح الشغف الموسيقي بالنسبة إلى كثير منا ترفاً بعيد المنال.
عادة ما كنت أستيقظ وأنا أدندن بيني وبين نفسي أغنية معينة، فينطبع لون يومي بها، أو كثيراً ما أسمع أغنية في موقف ما فيتغير مزاج الوقت وفقاً لها.
ترتبط لدينا الأماكن بذكريات معينة أو أغنيات بعينها، وربما يشبه كل شخص منا أغنية، وهذا أمر تتميز فيه شعوب المنطقة ربما لأننا اعتدنا على التعبير عن مناسباتنا المتنوعة بأغانٍ تتناسب معها وتتناقلها الأجيال وذلك يتضح من وفرة وتنوع موروث التراث والأغاني الشعبية.
ليس ذلك مرتبطاً بتفوق الموسيقا العربية وفردانيتها، ولا يقترب من تحليل الادعاءات باعتماد الموسيقيين العرب على الاقتباس الموسيقي أو وجود "التلاص" في بعض الأحيان أو بالتغزل في جمال المقامات الشرقية، بقدر ما يرتبط بالعلاقة العاطفية بين الإنسان العربي والموسيقا التي لا تكاد تخلو منها الأوقات والمناسبات الخاصة بنا.
هنالك مرحلة طبعت فيها أغنيات فيروز وألحان الرحابنة جيلاً كاملاً، إذ بدأ يفكر بطريقتهم ويشعر وفق أحاسيسهم، وأصبح المزاج العام مرتبطاً بتلك الأغنيات المفعمة بالحسّ.
وعلى الرغم من أن الأغنية السورية لم تكن ذات مكانة كبيرة ولم تترك بصمة واضحة في الفن العربي، إلا أن المزاج العام في الموسيقا كان انتقائياً وذا حس عالٍ، ولا يقبل المساومات بالشكل أو المضمون.
مع حدوث الانقلاب في دخول المحطات التلفزيونية أغلب المنازل عوضاً عن المحطات الرسمية، بدأت الخلافات بين الأجيال تظهر في الذوق الموسيقي، لكن ذلك الخلاف وتلك الموسيقا لم تشكل سقطة فنية في تذوق السوريين للموسيقا، بل بقيت فئة كبيرة متمسكة بأصالتها رافضة الانسياق للحداثوية الفنية إذا صح التعبير.
من الواضح أننا فقدنا حلقة تبين لنا سبب انقلاب الحالة الموسيقية في سوريا، إلى موسيقى شعبية صرف، لا تعبر عن التراث بقدر ما تعبر عن حالة انحدار في الذوق العام، فصارت موسيقا الكراجات هي الذوق السائد وصنّف من لا يسمعها بأنه دقة قديمة.
مع حصول هذا الانعطاف فقدت شريحة لا يستهان بها شغفها الموسيقيّ، وبدأت تظهر معالم غلبة لصالح فئة الموسيقا الجديدة على فئة "الموضة القديمة".
استمر الأمر كذلك حتى فترة قريبة قبيل اندلاع الثورة، كان المزاج العام وقتها منصرفاً عن الموسيقا إلى مشاغل الحياة الأخرى، الأمر الذي سبب عدم وضوح في شكل الذائقة العامة.
بالعودة إلى فكرة الذوق الخاص وشكل الموسيقا السورية، نلاحظ وجود مشكلة حقيقية تتمثل في عدم تشكيل علاقة عاطفية بين نوع الموسيقا الرائج حالياً في سوريا والمستمعين، ذلك أنها من النوع الصاخب الذي يفتقر إلى اللحن الجميل والكلمة الشاعرية، لتكوّن حالة من الهستيرية الموسيقية المسيطرة على المناخ الموسيقي السوري.
فمع احترام الموسيقا الشعبية التي تشكل إرثاً وتراثاً متوارثاً، ولكن ما يحدث الآن هو سيطرة نوع من الأغاني الخالية من الفكرة أو تفتقر إلى المضمون، تؤديها مجموعة من الأصوات غير المستساغة، بمرافقة توزيع موسيقي غير موفق مهمته جذب انتباه المستمعين وصمّ آذانهم وشلّ تفكيرهم عن التفكير في المعنى.
ذهب بنا الألم بعيداً لا في الأمكنة فحسب، بل أجبرنا على هجر هذه الأغنيات، فما عدنا نريد تذكر فيروز أو دمشق حتى لا نفتح أبواب المواجع
تعبر الشعوب والأمم عن نفسها بالفنون والآداب وتصبح مندمجة ومتكاملة مع موسيقاها وقصائدها، وبطريقة عاطفية يصبح لكل فرد أغنية أو يصبح المواطنون أغنيات كثيرة بينما يبقى المزاج الغنائي السوري مُسيطراً عليه من المغنين الشعبيين الذين تدعمهم السلطة ويروجون لها.
لقد ذهب بنا الألم بعيداً لا في الأمكنة فحسب، بل أجبرنا على هجر هذه الأغنيات، فما عدنا نريد تذكر فيروز أو دمشق حتى لا نفتح أبواب المواجع، فتُقعدنا الجراح عن الاستمرار بالحياة.
ربما كان هذا هو السبب الذي جعلنا نفتقد الرابطة الحقيقية بين الطريقة العاطفية التي نشأنا عليها وبين شكل الأغنيات الجديدة التي سيطرت على الجو العام، وربما ما زلنا بحاجة إلى إعادة تلك العلاقة فيما بيننا طمعاً بفائدة الموسيقا في التخفيف من حدة الألم الذي بات مسيطراً على حياتنا كسوريين، ذلك الألم الذي لا تتسع له الأغنيات بأكملها.