على الرغم من أنه كان يحمل الرقم 13 في المعتقل السياسي، وهو رقم كما يشاع يدل على التشاؤم أو الفأل السيئ؛ لكن فرج بيرقدار كان إنسانا وشاعرا يحمل فعالية مضادة بالكامل للتشاؤم والفأل السيئ. ووحدها المصادفات المجازية التي تستهوي الشعر ما أوقعه في تلك الحالة النقيضة بين رقم 13 كمعتقل سياسي، وبين لانهائية الأمل مهما كان مريراً وخدّاعاً في شخص واحد.
فهو منذ ديوانه الأول الذي عرف به كشاعر من شعراء جيل السبعينيات الذي يحمل عنوان (وما أنت وحدك) كان يرمي لغته الشعرية في مواضع الاحتفاء بالإنسان المحارب للموت، القادر على الجمع بين تجربة الذات وتجربة الآخر في الوقت نفسه، وهذا يتطلب منه قدْرا من القوة الروحية واتساع الرؤيا ليحنو على الآخر سواء أكان بلاداً أم بشراً أم طبيعةً. بل ثمة عبارة – تيمة أساسية في مفتتح ديوانه الأول ذاك يقول فيها: "من يعجزْ عن حبّ امرأةٍ – يعجزْ عن حبّك يا وطني".
هذه العبارة تحمل مؤشرا لم يغادره الشاعر في سنواته التالية، في الاعتقال وبعده. مؤشرا على طبيعة هذه الفعالية الكاملة للشاعر الجامع بين أناه والآخرين. وتلك القوة الروحية هي ما سوف يستمر فيها إذاً، ليكون ذلك ليس مبدأ أخلاقيا وحسب، بل فكريا وشعريا. ففي مقدمة كتابه (خيانات اللغة والصمت) يقول:
"ولكن شيئاً فشيئاً بدأت أدرك أن الشعر بالنسبة إلي، هو طائر الحرية الأجمل.. هو التمرين الأقصى على الحرية، وبصيغة أخرى هو ما ليس قابلاً للأسر. حررته في داخلي، فحررني داخلياً مما يحيط بي من جدران وأنفاق وجنازير وأقفال. لو كنت سياسياً فقط، لكان يمكن أن أنهزم.. غير أن الشعر استطاع أن ينقذني، ويعطي حياتي في السجن معنى مختلفاً وقيمة مختلفة عما يراد. ما من شيء يستطيع أن يشدَّ القوس بي إلى النهاية أكثر مما يفعل الشعر".
يتم الحديث بشكل غزير عن الشعر خلاصاً فرديا، أو أن الشاعر يكتب حتى لا يموت. نحن نصدق ذلك طبعا ونقدّره، لكن وجود شاعر في معتقله السياسي لسنوات طويلة، سوف يجعل من ذلك الكلام أكثر مصداقية حين يعلنه هو بنفسه. فليس مثل فقدان الحرية بشكل كامل ما يعطي الشعرَ فرصة وجودية حقا ليكون إرادةً وقوة روحية ومعادلا مكتملا للحياة.
في مواجهة صمت الزنازين يبرز المعنى الجوهريّ للشعر، أو لنقل للفنّ عموماً، فقد قرأنا وسمعنا عن تجارب غنائية وموسيقية ومسرحية في المعتقل! لكن الشعر هو الجنس الإبداعي الوحيد الذي لا يمكن لكاتبه أن يكون له شريك فيه معه. فهو عمل ذاتيّ محض. وذاتيته تلائم العزلة الكونية للمعتقل، ستكون استجابة هذه الذاتية شديدة وخيالية. في تلك الظلمات التي ركّب بعضها فوق بعض، يصبح النصّ اللغويّ قطعة بنيوية من كيان الوجود. وهذا ليس كلاما مجازيا أو على سبيل الاحتمال، بل هو الحقّ بعينه. نحن كشعراء نعيش شيئا من هذا الإحساس ونحن في بيوتنا، أو في مقاهي المدينة ونحن نتأمل ونشردُ في المارة، أو في محطات القطارات... إلخ. وندّعي أن معاناتنا تحمل كمّا هائلا من الألم، وكل هذا صحيح. ولكن حين تقرأ ديوانا قصائده كلها موقّعة في سجن صيدنايا مثلا، فأنت مدعوّ للتعامل بشكل استثنائي جدا مع اللغة بما في ذلك ضرورة التعامل مع كل كلمة بشكل مختلف، ومع التجربة، والرؤيا والمعنى. ففرج كشاعر وجد نفسه قيد الاعتقال لأسباب سياسية، وجد في الوقت ذاته أن اللغة في داخل المعتقل سوف تكون لها وظائف ربما لم تخطر في بال التصنيفات النقدية حين قسموا وظائف اللغة الشعرية إلى عدد من الأصناف ليس من بينها تلك الحالة التي لا يعيشها إلا الشاعر المعتقل السياسي.
حتى لا يبقى الكلام هنا تنظيرا، لنأخذ الحالة التالية من إحدى قصائد فرج.
في الشهر العاشر من سنة 1993 وحين (كنا عايشين) في سوريا، كان فرج في معتقل صيدنايا يكتب في واحدة من قصائده هذا المقطع:
"في القبر الثامن بعدي
يسأل جاري:
ما معنى أربع خطواتٍ؟
قلتُ: زماناً ومكاناً...
فتهشّم صمت الليل كلوح زجاجٍ
حين ارتطمت فيه الصرخةُ:
مجنووووونْ
العالم مجنونٌ مجنونْ".
حين كانت خطواتنا في الشوارع ليلا أو نهارا تدعي أنها خطوات واضحة، كان هناك سؤال وجودي داخل معتقل سياسي يدور حول ما معنى أربع خطوات؟ فالخطوات في شارع في المدينة هي غير الخطوات في ممر معتقل ليلا. هناك حيث يصبح للخطوات إيقاع لا يمكن لكائن مهما تفلسف وادّعى أن يفهمه إلا من كان شاهدا عليه.
منذ فترة كتبتُ عن شاعر من التراث القديم جعل الزمان مكانًا، الآن أرى في هذا المقطع لفرج كيف اختصر الزمان والمكان في كلمات قليلة، هي كلمات عادية حين ننطقها أو نكتبها خارج المعتقل، أي (وقت كنا عايشين)، لكن حين يكتبها شاعر بهذه الطريقة فنحن مدعوّون للتفكير كثيرا في عمقها وألمها.
"في القبر الثامن بعدي
يسأل جاري:
ما معنى أربع خطواتٍ؟
قلتُ: زماناً ومكاناً...".
السؤال هنا يأتي من جارٍ (في القبر الثامن)! والقبر هنا يصحّ تأويله أي تأويل ولكن لا يحق لأي تأويل أن يخرج دلالة القبر من عتمة المعتقل. لهذا فالقبر هنا ليس عاديا ولا واقعة عابرة. القبر هنا قد يكون القبو، قد يكون الزنزانة المجاورة، قد يكون رفيقا في الزنزانة نفسها، وليس لنا أن نحصر التأويل في واحدة من هذه الاحتمالات. القبر هذا يخرج منه صوت يسأل ما معنى أربع خطوات؟ تلك الخطوات التي تجثم بكل جبروتها على قلوب وأرواح المعتقلين. وبكل تأكيد سوف يفشل أي تفسير لها ونحن نقرؤها في نصّ شعري لم نعاين ظروف ولادته. ففي المعتقل تصبح ولادة القصائد أسطورة وقداسة مشبعة بالآلام.
من نافل القول إن الإنسان في العالم الحديث الممتلئ بالصخب والتفاهة والتقنيات، أصبح يعاني من غياب المعنى. وقد تكون هذه معاناة ذهنية في كثير من الأحوال
يرد الشاعر على السؤال أن تلك الأربع خطوات هي زمان ومكان! وفي زعمي أن العدد هو هنا زمان، والخطوات هي المكان. وفي زعم الشعر أنهما ملتصقان بعضهما ببعض. أربع خطوات هي زمان في مكان، هي تكرار مملّ مللا قاتلاً فعليا في مكان هو القتل بعينه. أربع خطوات تؤرخ حياة معتقلين طيلة سنين. هذا هو الزمن المبنيّ من ممرات وزنزانات وسراديب وأبواب تئنّ في الأرواح.
حين يقول الشاعر: زمانا ومكانا، يتكسر صمت الليل كلوح زجاج تقع عليه صرخة: مجنون هذا العالم مجنون.
صرخة تكسر أي صمت وأي ليل وأي لوح.
مجنون هذا العالم حين (كنا عايشين) وكان هناك داخل المعتقلات آلاف السوريين يسألون عن أربع خطوات... هي الزمان والمكان خارج زماننا ومكاننا.
لغة الشعر في تجربة الاعتقال تحتاج إلى مقاربة نقدية مختلفة عن كل ما عرفناه من قراءات نقدية ونظرية للشعر. وهذا قد يحتاج إلى جهدِ فلسفيّ معطوف على جهد نقديّ جبار، لا ينقصه أن نسائل الشعراء أنفسهم في حال توفر ذلك، عن تجاربهم الشعرية وكيف عاشوا العلاقة مع مكونات الشعر وجمالياته. لنتمعّن في كلمة (جماليات) الشعر في معتقل سياسي! إنها مفارقة تجمع بين التراجيدي والكوميدي معا.
إن الشعر طريقة من طرائق وعي الوجود، شكلٌ من أشكال تحقيق المعنى للكائن، والمعنى هنا مجموعُ قيمٍ يشعر الإنسان من خلالها أنه موجودٌ وله كينونة متعيّنة في الزمان والمكان. فلنقرأ هذا المعنى كيف يتحول عند شاعرٍ خبِر تجربة العزلة الوجودية في معتقل:
"– لمن
هذه الجنازة
يا شيخ؟!
سألتُهُ
وأنا أتناءى.
ـ للمعنى يا ولدي
أجابني
وظل واقفاً
كشاهدة".
(من ديوان مرايا الغياب)
من نافل القول إن الإنسان في العالم الحديث الممتلئ بالصخب والتفاهة والتقنيات، أصبح يعاني من غياب المعنى. وقد تكون هذه معاناة ذهنية في كثير من الأحوال. ولكن (جنازة المعنى) لدى شاعر معتقل، فهذا أمر لا يمكن لخبراتنا العادية أن تتحسس عمق المأساة الشاملة الكامنة فيه. الشاعر في هذه المقطوعة – القصيدة، يرى سلفا أن المعنى ميتٌ، ومن الفكرة نفسها ولدت القصيدة هذه. وبين الشاعر الذي (يتناءى)، والشيخ الذي ظل واقفا كشاهدة؛ تحضر كل معاني الألم والتراجيديا. وكأن بقاء هذا الشيخ واقفا كشاهدة يعني أنه شاهدة أبدية على جنازات للمعنى لا تنتهي، فيما الشاعر يتناءى عن المشهد.
خلاصة القول في تجربة الشاعر فرج بيرقدار:
من الواضح أن الشّاعر فرج بيرقدار شخصيةٌ اعتادت أن تكون وفيّةً لجميع مكوّناتها الفكريّة والسياسيّة والإبداعيّة، يحافظ على استقلاليّة كلّ مكوّنٍ عن سلطةِ المكوّن الآخر، لا يترك الموقف الفكريّ والسياسيّ يتغلّبُ على الموقف الشعريّ والجماليّ. وإذا كان فرج لا يرى فصلاً بينهما، فهو يرى ضرورةَ عدم تبعيّة الشعريّ للسياسيّ فيه. وهو من الشّعراء النّادرين النّشيطين على أكثر من صعيد، الذين أدركوا الضرورة السابقة، فأوفوا الوعد الذي يقتضيه النشاط الشّعريّ. وقد يكون الفرق بينه وبين غيره من أصحاب (العقائد والمواقف) الذين يكتبون الشّعر أنّه في الأساس يمتلكُ طاقةً شعريّةً متميّزةً، مشبعاً بها، ممتثلاً لقوانينها الدّاخليّة والعفويّة، حمل هذه الطّاقة الكبيرة وواجه بها الطاقات الأخرى، صهر فحوى طاقة الفكر والسّياسة في جحيم الشّعر داخله. أمّا الآخرون – قل معظمهم – فقد دمجوا الشعرَ في السّياسة الدّعائية والشّعاراتيّة، في حين نجا فرج وبامتياز من هذا المطبّ المؤذي بحقّ الإبداع.
وجد فرج في مرحلة السّبعينيات مع عشرات الشّعراء العرب الّذين نسخوا عن بعضهم، وشابهوا نتاج بعضهم بعضا، وجد في هذا التّشابه ليقول صوته وحده مستقلاّ عن آثارهم، وهذه السّمة بارزة عنده من حيث قدرته على توليد مواقف شعريّة من العالم والأرض والإنسان مواقف لا تبتذل قيمة الوجدان والروح بل تعلي من شأنهما وتشحن بهما جملة المواقف الأخرى.
ويبدو شعرُهُ مطمئنّاً إلى قدراته: يقترحُ اللغة الخاصّة به والصّورة الفنية المبتكرةَ، وأسلوب التشكيل اللغويّ الخاصّ، يقترح كل ذلك من داخل حاجته لذلك، وليس من حاجة الفكرة والعقيدة اللتين وإن كانتا لا تغيبان عن شعره لكن الأهمّ أنه قادرٌ على تنظيم حضور الفكرة والعقيدة في ميدان اللغة الشعرية فيذهب وراء نداء الشعر أكثر مما يذهب وراء نداء غيره، ويلملم من الحياة والثقافة ما يعزّزُ القدرةَ الشّعريّة لا ما يثبّطها.
هذا يعني على صعيد آخر أن قصائد فرج في معظمها، حتى تلك في مجموعته القديمة "وما أنتَ وحدكَ" تبدو قصائدَ غيرَ مرحليّة وليست محكومةً بما هو زائلٌ. وهذا ما يمنح شعره امتداداً إنسانيّا عبر المراحل، ونادرا ما نجد قصيدةً استهلكتها ظروفٌ راهنةٌ، حتى في قصائده تلك يحرص فرج على تسجيل أثرِ الظّرفِ الرّاهن شعريّا بحيث يعتصر هذا الرّاهنَ ويستنبطُ منه قدر الإمكان عنصرَ الدّيمومة، بالصّورة التي تنتصر فيها القيمة الكبرى على القضايا الجزئيّة.
ومما يلاحظ على تجربة فرج، خاصّةً بعد مجموعة "حمامة مطلقة الجناحين" أنّ هذه التّجربةَ قابلةٌ للتّطور النوعيّ وأنها قادرة في أحلك الأحوال وأضيقها، على امتصاص تجربة الحداثة الحقيقية في الشّعر، غير منقطعةٍ عمّا يجري حولها. وفي مجموعته الجديدة -وما بعدها- والتي يفصلها عن مجموعة (ما أنت وحدكَ) ما يقرب من عشرين عاماً، شعرٌ آخر، مختلف عن ماضيه، غير متنكّر له، ولكنه متّجهٌ أكثر فأكثر نحو مساءلةِ الذات في قلقها الوجوديّ، بعد أن حاور هذه القلق عربيا وسياسياً في أعماله الأولى.
تمتدّ قصيدة فرج بيرقدار في تراث روحيّ بعيدٍ، يستدعيه الشاعرُ من أجل خلق أسباب لقوّة الرّوحِ في زمنها المعتقل، وهو لا يخضع للتراث بقدر ما يتحرّكُ هذا التراثُ بين يديه طاقةً متحوّلةً. كما أنّ فرج لا يخضع للقصيدة نفسها بقدر ما يُخضعها له ولإرادته الفنّيّة.
أخيراً. كنا نظنّ أن خريف الجدران السوداء التي سيّجت جسد فرج بيرقدار خريفٌ انتزع منه الورق الأبيض والبوح العالي، لكن فاجأنا فرج في عمق هذا الخريف بصيفٍ شعريّ لا يضاهى بشمسه وفواكهه. وقبل كل شيء بوضوح شمسه وعليائها.