ينطلق دكتور اللغة الإنجليزية في جامعة القيروان التونسية، أيمن البوغانمي، في كتابه البحثي "الشعب يريد.. حين تأكل الديمقراطية نفسها"، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، من فكرة إمكانية تأويل الشعبوية على أنها ثأر الرغبات من الديمقراطية التي نجحت في احتوائها. ويذهب من هذه الفكرة إلى مناقشة أنظمة الحكم المعتمدة في مجموعة من الدول الغربية، في ظل تصاعد وتيرة المطالبة بتعميق الديمقراطية من أجل كسر احتكار النخب السياسية للسلطة، وذلك بإعادة الكلمة للشعب، والاقتراب الدؤوب من الديمقراطية المباشرة.
تقاسم السلطات.. ما بين ثلاثة منظومات
-
المنظومة السياسية الأميركية
يعتبر البوغانمي أن الولايات المتحدة تمثل الحالة المرجعية في العالم لنظام رئاسي يعمل وفق ضوابط ديمقراطية، ولأن الولايات المتحدة بلد ناجح بكل المقاييس يفترض الجميع مبدئيًا أن نظامها السياسي ناجح أيضًا، على الرغم من تعويل هذه المنظومة على القضاء لتجنّب تحمل مسؤولياتهم أمام الناخبين، وهو في هذا الجانب يرى أن القضاء الأميركي أصبح "متهمًا بتعطيل ممارسة الشعب لسيادته من خلال سيادة سالبة تمثلها المحكمة العليا"، إضافة إلى ما تمثله من هدف مثالي "لصالح الخطاب الشعبوي الذي يعتبر أنها تحمي قيم النخب على حساب مبادئ الشعب".
صحيح أن مبادئ المنظومة السياسية الأميركية مغرية، لكنها – وفقًا للبوغانمي – مثل غيرها من المنظومات السياسية الرئاسية طريق إضعاف الأحزاب، وذلك مردوده لهيمنة حزبين رئيسيين على مفاصل الحياة السياسية، وهي "هيمنة تعكس الحجم الكبير لهذه الأحزاب أكثر مما تعكس قوتها"، وحتى في جانب المنافسات الانتخابية فإن المرشحين يخضعون في برامجهم لجماعات الضغط من شركات خاصة وجماعات دينية، وهم بالتالي يفقدون القدرة على تبني برامج أحزابهم، لذا فإن هذه المنظومة "تخدم من يقدر على الاستفادة منها في سبيل الجمود وعدم التغيير".
-
النظام الرئاسي الفرنسي
على عكس المنظومة الأميركية، فإن المنظومة المعروفة بـ"الجمهورية الخامسة"، نسبة للزعيم السياسي شارل ديغول (1890 – 1970)، اختارت نظامًا أغلبيًا بالمعنى الدقيق للكلمة، إذ يحتاج الفائز فيها سواء في الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية إلى نسبة 50 في المئة، أو الذهاب إلى نظام الدورتين. وضع ديغول في هذه المنظومة (1958) "توليفًا بين تاريخ فرنسا الملكي وطموحه الديمقراطي"، وبينما يؤدي فيها الرئيس دور ملك دستوري منتخب يتمتع بصلاحيات واسعة، فإن رئيس الوزراء يؤدي أدوارًا مهمة "من أبرزها تحمل الصدمات عند الأزمات. بل إنه يؤدي دور كبش الفداء عند الضرورة".
تمثلت غاية ديغول في هذه المنظومة بـ"السيطرة على البرلمان، ومن ثم منح السلطة التنفيذية وسائل دستورية لفرض إرادتها". تبرز هنا الفقرة الثالثة من الفصل 49 في الدستور الفرنسي، هي قائمة على منح الحكومة حق تمرير قانون من دون نقاش أو تصويت، في مقابل إمكانية تعرضها للائحة سحب ثقة مقدمة من 10 نواب خلال 24 ساعة، وعلى الرغم من استخدام هذه الفقرة لنحو 90 مرة، فإن النواب الفرنسيين امتنعوا عن تقديم اللائحة "لأنهم يكرهون أن يضعوا مصيرهم على المحك بإسقاط الحكومات ومواجهة خطر حل البرلمان"، ومع ذلك، فإن هذه الصبغة الرئاسية تراجعت لصالح صبغة برلمانية غير معلنة "أصبح نجاح الرئيس رهينًا (...) بانسجام سياساته مع الأغلبية البرلمانية وبانضباط كتلة حزبه لخياراته الكبرى".
-
تجارب أميركا اللاتينية
يناقش البوغماني هنا اختيار بلدان أميركا اللاتينية عمومًا، بما في ذلك البرازيل والأرجنتين وفنزويلا، لأنظمة سياسية مقتبسة عن المنظومة الأميركية، لكن استنساخها "مشوه في جوهره، إذ إنه لا يتضمن كثيرًا من عناصر التوازن التي تميز منظومة الحكم في الولايات المتحدة، بحيث تحفظ للسلطة التشريعية قدرها رغم كل شيء". فقد تبنى سياسيو أميركا اللاتينية "أنظمة انتخابية نسبية"، وبعد عقود كانت النتيجة أن "المنظومة الحزبية في هذه البلدان قد جمعت بين الضعف والتفتت إلى درجة يبقى معها ترسيخ الديمقراطية نسبيًا ومستقبلها غامضًا"، وكان لهذا الجانب دور بأن تؤدي المنظومات السياسية في أميركا اللاتينية عمومًا إلى خليط من "الفساد والعطالة والشعبوية".
يمكننا أن نزيد في عرضنا لتجربة أميركا اللاتينية التي تناولها البوغانمي، بالإشارة إلى تعزيز سياسات إضعاف الأحزاب في هذه الدول مع تصاعد السياسات النيوليبرالية بهدف منح القرار للشعب "نظريًا"، لكن "النتيجة كانت المراوحة بين الغزو النيوليبرالي والغلوّ الشعبوي"، وكلاهما يشتركان في رفض "الأجسام الوسطى" (الأحزاب والنقابات)، إذ إنه بينما ترفض النيوليبرالية الأجسام الوسطى "لأنها هي عادة ما ترفض الإصلاحات الاقتصادية بأكثر حدّة"، فإن الشعبويين رغم مناصبتهم العداء للنيوليبرالية "لكنهم يستفيدون أيضًا من إضعافهم لكل الأجسام الوسطى".
الدول الغربية.. من السيادة إلى انقلاب الشعب على البرلمان
-
الديمقراطية بلا تقاسم للسلطات
تُمثل المنظومة السياسية البريطانية حالة مختلفة عن سابقاتها تعود إلى الحرب الأهلية بين الملك والنبلاء في منتصف القرن الـ17، والتي وصلت إلى فرض النبلاء على الملك مشاركة اتخاذ القرار عبر البرلمان فرضًا لا رجعة عنه. وعلى الرغم من أن هذا التوازن لم يكن مثاليًا، إلا أن مخرجاته قد جاءت ديمقراطية، حيث إنه "لم ينبع ذلك من تقاسم السلطة، بل من تركّزها التدريجي إنشاء لما يعرف بمبدأ سيادة البرلمان الذي تشتهر به المنظومة السياسية البريطانية"، ومردود ذلك إلى تراجع قدرات الملك "بقدر تصاعد قدرة القوى الأرستقراطية على ربط بقاء الملكية بصمت الملك سياسيًا"، وفيما بعد كان لتعميم حق التصويت دور في تغيير المعادلة السياسية منذ القرن الـ19.
فقد كان لاندثار الملكية البريطانية دور في نشأة السيادة البرلمانية، من ناحية ربط مصالح السياسيين بمصالح الفرد لضمان الأغلبية البرلمانية، ومنعًا للمغامرات الفردية والولاءات المحلية، كما وفرت هذه الحالة "لدى المعارضة محفزات المقاومة العقلانية"، حيثُ يتمثل دورها "في مساءلة أصحاب السلطة بغاية كشف الانحرافات"، من دون أن ينفي ذلك "موافقة إمكانية الحكومة حين الأداء الحسن"، ووفقًا للحالة البريطانية فإن المعارضة تعمل باعتبارها "حكومة الظل"، وهو ما يجعل البوغانمي يصل إلى أن الديمقراطية البريطانية "لم تأتِ تاريخيًا لتحقيق قيم مجردة. بل جاءت لتجعل ممارسة السلطة تستمر دون أن تكون في تعارض صارخ مع تلك القيم".
-
قصور دروس التاريخ في النموذج الألماني
يمكن القول إن مؤسسات جمهورية ألمانيا الفيدرالية استفادت بعد الحرب العالمية الثانية من الدروس التي تعلمتها أحزابها، وهو ما ساعدها على وضع "هندسة خاصة للمنافسات السياسية" جعلها تجمع بين الأنظمة الأغلبية والنسبية، فضلًا عن عملها "على توفير شيء من تقاسم السلطة في ظل وجود منظومة فدرالية ومحكمة دستورية، دون أن يصل توزيع السلطات إلى حد الفصل بين السلطتين الرئيسيتين"، كما أنها تعتمد على نظام انتخابي مختلط، فنصف النواب منتخبون بنظام النائب الواحد عن كل دائرة، والنصف الآخر منتخب ضمن قوائم على أساس نسبي، مع وجوب تجاوز حاجز الـ5 في المئة.
ومع ذلك، تعد ألمانيا "المصدر الأكبر لقواعد المنافسة السياسية، فقد جمعت ما بين الأنظمة الانتخابية النسبية من عدالة في التمثيل وتعددية في الأحزاب إلى فضائل الأنظمة الأغلبية من نجاعة في ممارسة السلطة ومحاسبة لأصحابها"، كما أن النموذج الاقتصادي الألماني قد قرّب بين رأس المال والنقابات بفضل آلية المفاوضات المستمرة وإمكانية الاتفاقات التي تخدم مصالح مختلف الأطراف، ومن أمثلتها الائتلاف بين حزبي المسيحيين الديمقراطيين والديمقراطيين الاشتراكيين، لكن الأمور الآن تغيّرت مع "ظهور فئات جديدة تشعر بالغبن" بسبب "الإصلاحات التي انعطفت بالاقتصاد والمجتمع نحو المزيد من المرونة".
-
أوروبا الشرقية: من سيادة الشعب إلى شخصنة السلطة
لقد بدا واضحًا تأثر دول أوروبا الشرقية بالتجارب الأوروبية خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي الذي خاضته في 1989، فهي عملت على "انتقاء كل عنصر يساعد على دمقرطة السلطة بإضعافها" الأحزاب التي تسعى للحصول عليها، وتبنت كذلك "صيغة رخوة لمبدأ سيادة البرلمان" مع توجه أكبر نحو الصيغة النسبية أو اعتماد القوائم المفتوحة في الانتخابات.
لكن ذلك شجع السياسيين على تحدي أحزابهم والخروج عنها، موصلًا هذا النهج إلى إضعاف البرلمانات، وتعزيز أدوار الرؤساء المنتخبين مما صعب إيجاد وصف لأنظمة الحكم، كما في بولندا وجمهورية التشيك، ويرى البوغانمي أن شخصنة الحكم أدت إلى انتشار "المقاولات السياسية التي تستثمر في الغضب الشعبي وفقدان الأمل"، بالإضافة إلى وعود غير واقعية، وهو ما مهد للشعبوية التي وصلت إلى حد تهديد الديمقراطية.
أمثلة أخرى.. من فضل دمقرطة الليبرالية إلى انحراف دمقرطة الديمقراطية
-
النموذج الإسكندنافي.. النمو سر النجاح
يشتهر النموذج الإسكندنافي بطابعه البرلماني مع أنظمة انتخابية نسبية تسمح بالتعددية الحزبية، بل وتفرضها انطلاقًا من مبدأ العدالة في التمثيل الانتخابي، وهي محكومة أساسًا بالليبرالية سياسيًا واقتصاديًا كشرط من أجل دخولها الاتحاد الأوروبي – باستثناء النرويج، ولكن كما درجت العادة، فإنه وفقًا للبوغانمي "تغيّرت المعادلة بسبب العولمة"، حيثُ بدأت في السنوات الأخيرة تكشف حقيقة التوازن السياسي الإسكندنافي وحدوده مع ظهور أولى التحديات المتمثلة بإشكالية الهجرة، وما ارتبط معها من ردات فعل سلبية "استغلته القوى اليمينية لعزف موسيقى القومية ولتوسيع صندوق صداها"، وأصبحت شرائح من الناخبين تتفاعل إيجابيًا "مع دعواتها الحمائية وشعاراتها الشعبوية".
ولئن تَعد قوى اليمين بالحلول أمام أنصارها من الطبقة الشعبية والوسطى فإنها تؤكد على أنه لا فرق بين أحزاب وسط اليمين أو اليسار، بعدما أصبح محور الخلاف ما بين "القوميين الوطنيين والكونيين المعولمين". ومع ذلك، يمكن اعتبار النموذج الإسكندنافي أفضل الأمثلة لنماذج الديمقراطية الليبرالية وأصلبها، ولذا "ليس من الغريب اعتمادها كحالات مرجعية لتمثل مستقبل الديمقراطية، وخاصة منها تلك المعتمدة على منطق برلماني منفلت"، فهي "أنظمة نجحت في ظروف استثنائية، كانت فيها السياسة مرآة لمجتمع هيمنت عليه الطبقة الوسطى وقيمها".
-
ظهور الطبقة الوسطى ودمقرطة الليبرالية
كان لتراجع وزن الفلاحين والحرفيين دور بظهور طبقة العمال الكادحة، مما أجج الشعور "بتهديد استقرار مختلف منظومات الحكم في أوروبا"، الأمر الذي زاد من أهمية بروز طبقات وسطى جديدة في داخل المجتمعات المُصنعة، لكن هذا الظهور كان له دور حاسم في "هيكلة المشهد السياسي سوسيولوجيًا"، من تقارب الجناح المحافظ مع الرأسمالية الذي أنتج قاعدة اجتماعية للأحزاب اليمينية، في مقابل تحالف التيارات التقدمية الذي أنتج قاعدة الطبقات الكادحة، ومن هنا تبرز الطبقة الوسطى بتأديتها لـ "دور وسيط فعال بين طرفي المشهد السوسيولوجي"، فهي كانت متحالفة مع البروليتارية من جهة، وتساند رأس المال من جهة ثانية "ليس من خلال تعزيز شرعية الديمقراطية فحسب، ولكن أيضًا بضمان النموذج الاقتصادي الليبرالي وتوازن المنظومة الرأسمالية".
-
لبرلة الدمقرطة
لقد سمح دور الوسيط للطبقة الوسطى بتمكين "العناصر المرفهة" منها "في الاستثمار في الشركات خفية الاسم"، وهو ما جعلهم شركاء للطبقة الرأسمالية ووسائل الإنتاج، وكان من ضمنها تجارب بعض البلدان استخدام آليات الدمقرطة المختلفة لاستقطاب الناخبين بضغط من الأحزاب الصغيرة، لكن أهمية الطبقة الوسطى حجبت أيضًا الكثير "من الديمقراطيات المعتمدة على الأنظمة الانتخابية النسبية والتعددية الحزبية المنفلتة والقوائم الانتخابية المفتوحة وغيرها من ملامح الدمقرطة"، وهو ما كان سلبيًا على أنظمة الحكم.
وعلى ذلك، فقد منحت منظومة الإنتاج أصحاب الكفاءات فرصًا للاستثمار ماديًا في رأسمالهم المعنوي منذ منتصف القرن الـ20، ومكّنت هذه التجربة من توفير الاقتصاد المختلط "دفعة حقيقية لدينامية امتداد الطبقة الوسطى". كان ذلك نتيجة طبيعية للحاجات التي توّلدت عن مسؤوليات الدولة الاقتصادية والاجتماعية، وكانت هذه العلاقة من أبرز عوامل نجاح النيوليبرالية ودعمتها في نزع شرائح واسعة من الطبقة الوسطى إلى الجناح المحافظ، ومن هنا يخلص البوغانمي إلى مساهمة الطبقة الوسطى في إعادة لبرلة الدمقرطة بعد نجاحها سابقًا في دمقرطة الليبرالية.
-
صراع الكادحين مع الكادحين
يقودنا ما سبق من التطور الاجتماعي للطبقة الوسطى إلى أن التطور التكنولوجي ليس وحده السبب في التراجع العددي للطبقة الكادحة، ذلك أن العولمة تعد عاملًا جوهريًا في تراجعها أيضًا، والتي كان أهمها دخول الصين إلى الاقتصاد العالمي ليضاعف قوة العمل المتاحة لرأس المال وباقي أصحاب القرار الاقتصادي لثلاث مرات. وكان لهذه العوامل فضلًا عن عوامل أخرى أنها شجعت الشركات الكبرى على تحويل مواقع إنتاجها إلى خارج البلدان ذات الأجور العالية والتنظيمات النقابية القوية، وهو ما نقل الصراع "من بعد عمودي إلى أبعاد أفقية مركبة"، حيث إن الطبقة الوسطى "غير الكفؤ" كانت أولى ضحايا تطور المعادلة الطبقية في معظم الدول المصنعة.
ومن هذا المنطلق يرى أيمن البوغانمي أن العولمة قد كانت النهاية الحقيقية للإمبرالية الاجتماعية، ويضيف أن تراجع الطبقة الوسطى جاء بعدما ساهمت كشريك محوري في هيمنة الغرب خلال القرنين الماضيين على مقدرات العالم. كما ساهم هذا التطور بخلق فئتين، وهما المستفيدان من العولمة والذان تبنيا الليبرالية بشقيها الاقتصادي والثقافي، والمتضرران من العولمة الأميل إلى الردايكالية (اليمين واليسار) بصنفيها الاجتماعي والقومي، الأمر الذي غيّر جذريًا طبيعة الهرمية السوسيولوجية التي حكمت المجتمعات الديمقراطية منذ عقود طويلة.