تعد بلاد الشام عموماً وسوريا بوجه خاص، من أقدم بقاع التاريخ حضارياً وإنسانياً، بالنظر إلى انتشار الفن العمراني وآثار كثير من الممالك القديمة المندثرة، إلى جانب ما أكّدته الدراسات البحثية عن أهميتها الجغرافية والتاريخية.
وفي كتابه "الشام لمحات آثارية وفنية" الصادر عن دار الرشيد العراقية، يركز عفيف بهنسي على تاريخ بلاد الشام حضارياً، والتنوع العمراني، إلى جانب كثافة الآثار، وأهمية العمارة الشامية في العصور الإسلامية، والفنون الشامية التي قُدمت للعالم.
-
الصراع السياسي التاريخي على الشام
يعود الكاتب في بحثه عن بلاد الشام إلى عصور موغلة في القدم، حيث أثبتت الأبحاث الأثرية أن بلاد الشام الممتدة على حيز جغرافي يمتد من فلسطين والأردن جنوباً وإلى حدود الفرات شرقاً وحدود تركيا شمالاً ويحدها البحر المتوسط غرباً، وهي بمجملها مهد الحضارة الإنسانية.
ويؤكد الكاتب أن بعض الآثار تدل على أن الحضارة الإنسانية والعمرانية تعود إلى قرابة عشرة آلاف سنة.
وهناك أبحاث تتحدث عن أن نبي الله آدم أبو البشر له منزل في بلاد الشام، وكذلك ولده هابيل وقبره في ضواحي دمشق.
كما تؤكد أن مهد اللغة البشرية وجدت فيها، كالفينقية والآرامية وبعد ذلك العربية. كما أن بلاد الشام عموماً مركز لتقاطعات مصالح كل العالم القديم مثل الفينيقيين الذين غزوا العالم عبر البحر الأبيض المتوسط.
ولم يتوقف الصراع بين الفرس القادمين من الشرق الإيراني ولا الرومان القادمين من أوروبا على بلاد الشام، حيث كانت تارة تحت سيطرة هؤلاء وتارة تحت سيطرة أولئك.
وكانت الهجرات من الجزيرة العربية المتتالية عبر التاريخ، قد أسهمت بتكوين البنية السكانية الأساسية، للذين كانوا يهضمون العابرين فيها وإليها بشكل دائم.
وكان الفتح العربي الإسلامي لبلاد الشام أيام الخليفة عمر بن الخطاب والتوسع في الدولة الإسلامية أيام معاوية بن أبي سفيان والخلفاء الأمويين بعده، ليصلوا إلى حدود الصين شرقاً وأوروبا غرباً، عنصراً أساسياً لتأسيس أكبر إمبراطورية في ذلك العصر، ثم وصل امتدادهم إلى الأندلس و بنوا دولة إسلامية امتدت لقرون طويلة.
وفي الشام العربية الإسلامية تم بناء اقتصاد قوي، وتم صك نقود عربية وضعت عليها صور الخلفاء أو أسماؤهم لأول مرة، وفيها نشأت وتطورت الكتابة العربية.
استمرت بلاد الشام وعاصمتها دمشق تقدم للعالم الإسلامي الإبداع النوعي عبر تاريخها كله. ومع تطور البحث العلمي والحفريات التي عمل عليها الكثير من الفرق البحثية الغربية عبر القرون الماضية وخاصة في العقود الأخيرة منذ ما قبل الاحتلال الغربي لبلاد الشام بعد الحرب العالمية الأولى، يؤكد كل الوقت عراقة وعمق الدور الذي قدمته بلاد الشام للبشرية كلها.
-
البيوت الدمشقية وتفردها
لقد توقف الباحث كثيراً عند المدن والحواضر في بلاد الشام، عبر التاريخ الممتد لآلاف السنين ، وكانت أهم المدن التي وجدت واستمرت منذ القدم دمشق وحلب، اللتان كانتا مراكز حضارية وتجارية في أهم نقاط تقاطع وصراع مصالح الغرب والشرق.
وكانت دمشق عاصمة الأمويين وقائدة للعالم لأكثر من قرن.
كما كان موقع بلاد الشام الجغرافي على طريق التجارة القديمة، مركزاً لاستقبال الهجرات العربية من الجزيرة العربية، ومركزاً للتوسع في الفتح الإسلامي، حيث بدأت تتشكل هوية حضارية ثقافية عمرانية خاصة.
وكان الموقع الجغرافي لبلاد الشام وحواضرها ومناخها الجاف المجاور للصحراء من الجنوب والشرق، وكونها منطقة صراع وحروب مستمرة، جعلها تعتمد على نمط البناء المنعزل إلى داخل البيت حيث يظهر خارجه عادياً لكن داخله كانت توجد البحرات والأشجار المثمرة والورود، كما أن البناء المعتمد على الطوب المصنع من التراب والتبن جعل البيت معتدلاً صيفاً وشتاء.
كذلك غير بيوت العبادة التي تغيرت تاريخياً وتراكم بعضها فوق بعض منذ ما قبل المسيحية ثم العصر الروماني البيزنطي وبعدها الإسلام.
ولا شك أن بيوت العامة كانت بسيطة إلى حد كبير، في حين تطورت بيوت الخاصة من حكام وإقطاعيين وملّاك إلى ما يشبه القصور. استمر النمط العمراني نفسه حتى جاء العصر الحديث ودخل الإسمنت مع المستعمر الغربي وتغير نمط البناء الشامي وتم تشويه نمطه الأصيل تحت دعوى التحديث والعصرنة.
لقد جاء مع الفتح الإسلامي لبلاد الشام، عمران خاص تميز بشكل خاص في المساجد التي استفادت من النمط العمراني الفارسي والروماني بداية، ثم رويداً رويداً أخذ هويته الخاصة المتميزة، مع ظهور القباب والمآذن.
وتحولت العديد من المعابد والكنائس إلى مساجد عبر شرائها، مثل ما حصل مع الجامع الأموي الكبير.
وتميزت العمارة الشامية في حماماتها العمومية وتشكيلها المتميز، الذي يكاد ينقرض.
وأكد الباحث على أن النمط التقليدي المتوافق مع البيئة والأحوال الجوية، يكاد يندثر بسبب التغيرات العمرانية الطابقية الإسمنتية.
-
الفنون الشامية.. سيف دمشقي ونقوش وسجاد
يغوص الباحث عميقاً وبالتفصيل باحثاً في الفنون وتنوعاتها وتشعباتها وأشكالها، ومناطق وجودها وتطوراتها على خريطة بلاد الشام وسوريا بشكل خاص جاعلاً من كتابه دراسة أرشيفية لكل ما يمت إلى العمران والفن والعمق التاريخي، بكل أبعاده الدينية وتوالي الحضارات وتغيرات أحوال البلاد مع سقوط حكام وأمراء أو قدوم آخرين.
وتتبع بهنسي بداية ظهور الفن الإسلامي بتميزه وابتعاده عن التشخيص وتفرده برسوم التشجير والتفريغ والرسوم الجدارية، التي انتشرت بكثافة، وتطورت تاريخياً ووجد من يحمل مشعل متابعة مسارها وتطورها.
وكذلك ظهرت الأيقونات المسيحية على يد فنانين مسيحيين، وهناك فنانون أوروبيون جاؤوا في أوقات مختلفة نهلوا من الفن الإسلامي الشرقي.
وبعضهم وضع بصمته وخلق مدرسته، وأثّر في مدارس الفن الحديث الأوروبي وظهرت إرهاصات الفنون التطبيقية.
كما تتبع الباحث مسار السيف الشامي وأصوله والتطورات التي رافقته، حيث تحدث عن مصدر الحديد والفولاذ المكون له، فبعضهم قال إن مصدرها الهند وبعضهم الآخر قال إنها من بلاد الشام ذاتها.
وتوسع السيف الدمشقي في طريقة تصنيعه، وشكله وطوله وشحذه وما كتب عليه.
وأشارت المصادر إلى أن هناك سيوفاً نسبت للرسول محمد صلى الله عليه وسلم وعدد من الصحابة والملوك المسلمين.
كما توقف عند انقراض مهنة صناعة السيوف وأن ذلك مقترن بعدم استعمالها في عصر السلاح الناري الحديث، مؤكداً مخاطر ذلك على الهوية الدمشقية وآثارها السلبية ثقافياً وحضارياً.
وتحدث عن صناعة السجاد الشامي الذي نقل إلى العديد من متاحف العالم متميزاً بجودته وتفرده.
وظهر الكاتب كعاشق للشام، وخصوصاً مدينة دمشق، محاولاً عبر كتاباته وأبحاثه أن يؤرخ عنها شبراً شبراً ويغوص عميقاً في تاريخها عائداً إلى آلاف السنين.
وتقصى البهنسي حياة الناس في الشام بمختلف العصور وما مر معهم، وكأنه يعايشهم الآن وهنا. يدخل معابدهم ومساجدهم كمهندس معماري تارة، وكعابد تارة أخرى. يتقمص البيت الدمشقي الذي يندثر ويبكي على أطلاله بكاءه على عزيز. ويسترجع آيات الذكر الحكيم، مؤكداً أبعاده ومقاصده. منتصراً لمثل أعلى إنسانياً.