ظلّ ينظر إلى الشّعر بأنه غير النثر، وبأن الشّعر لا يقصد منه أي منفعة اجتماعية. ذلك ما نادى به أفلاطون الذي طرد الشّعراء من جمهوريته، فعالم الشّعر لديه: هو الحسّ والخيال، الأمر الذي يخالف نظريته في المعرفة، على عكس النّثر الذي يشتبك مع الوقائع الاجتماعية، ابتغاء نقدها أو تغييرها، أو على أقل تقدير الإشارة إليها.
في كتابه (ما هو الأدب، 1947)، يشكك جان بول سارتر الفيلسوف الفرنسي، بفكرة أن الفنّ خلق لأجل الفنّ، بل وافترض بأن أي عمل أدبي يتضمن رسالة أخلاقية وجمالية، مقرّاً بمبدأ الالتزام في الأدب دون أن ينتزع منه صفتي الفردانية، والحرّية كجوهرين أساسيين من مكونات العمل الأدبي. وباعتبار أن الكتابة كإجراء هي نوع من أنواع التحرر يدلل سارتر بأن غائية الفنّ تكمن في تجديد نظام العالم، وهذا الهدف يتحقق بالتعاقد الفريد بين القارئ والكاتب، وروابط هذا التعاقد هي الثقة والحرّية، الثقة من ناحية في خيارات القارئ، ومن ناحية أخرى بحرّية الكتابة الإبداعية، وبكيفية اختيار موضوعاتها.
رغم ذلك، وما بينهما من فجوة زمنية كبيرة، فإن الفيلسوف الفرنسي يحتفظ بالمعنى الأفلاطوني للشّعر، وبمنح الشّعراء حق رفع اللّغة الشّعرية إلى مستوى غير نفعي، الأمر الذي يراه مغايراً في الكتابة النّثرية، فعند سارتر يظّل للنّثر وظيفة ما، من المفترض أن تصطدم مع الوعي الإنساني بصلابة.
ظلّ يُنظر إلى الأدب كموضوع جمالي، مع الإصرار على وظائفه ذات القيمة العالية، وأبرزها يتمحور في إظهار الحقيقة
وفي إطار الأنطولوجيا التفسيرية للعمل الفنّي لا يختلف الأمر كثيراً. وظلّ يُنظر إلى الأدب كموضوع جمالي، مع الإصرار على وظائفه ذات القيمة العالية، وأبرزها يتمحور في إظهار الحقيقة. ما منح الأدب وبشكل خاص حمولة ساميّة من خلال تصويب انتباه القراء إلى الرسالة التي يود الكاتب إيصالها، تلك الرسالة المبنية بنظام لغويّ تود كشف جانب من جوانب الحياة الإنسانية. وهذا الكشف يتحقق من خلال القراءة التي تخلق وجود العمل الأدبي. ذلك الخلق، ومن وجهة نظر أنطولوجية، يرده رومان إنغاردن، الفيلسوف البولندي في كتابه (العمل الفنّي الأدبي،1931) إلى أن الأدب هو "غرض مقصود" ويمكن تفريقه في سياقين: إما أن يحتمل العمل الفنّي الأدبي، موضوعات مادية، أو أغراض نفسيّة.
وبالنظر إلى الغرض النفسي فإن ذلك يحيلنا مجدداً إلى المنفعة الشّعرية. فمتذوق الشّعر، وإن لم يستطع تحديد "الخبر والرسالة" التي بالضرورة يتضمنها النص النّثري بوضوح، فإن اللذة الشّعرية، تكمن في استيعاب الحالة النفسية للشّعر دون أن تتضح تلك الدلالة بشكل صريح ومباشر. وإذا كانت هذه الرسالة غائمة لضرورة الجمالية والوظيفة الشّعرية، فإنها مع ذلك تُحال إلى امتداد حواسنا.
إنّ البحث عن الخلاص في الشّعر مثلاً هو تيما أساسية، لا تختلف كثيراً عن إظهار حقيقة هذا الوجود الصعب. فالشاعر الألماني هاينرش هاينه المولود عام 1797 في دوسلدورف كان ينشد في شّعره الخلاص من آلامه: "وأصنع من آلامي الكبيرة أناشيد صغيرة" (كتاب الأناشيد 1827). وهذه الآلام تتحول لشيء أكثر نفعاً، أنشودة قد توقد السعادة في نفس حزينة أو على الأقل تساعد في احتمال هذا الشقاء الوجودي، الذي قاده إلى منفاه في باريس حيث غادر إليها بسبب آرائه السياسية وملاحقة الرقابة لأعماله، وانتشار العداء لليهود مع صعود الخطاب القومي في ألمانيا.
وهرباً من ألمانيا المتعصبة وصل هاينه إلى باريس عام 1831، أي بعد عام من قيام ثورة يوليو الفرنسية التي رحب هاينه بقيامها بعدما قادتها المعارضة الليبرالية للإطاحة بالملك شارل العاشر. وفيها كان الشوق لألمانيا يشتد رغم ما كان يتمتع به من حريّة على عكس ما كان في وطنه، وكانت معظم كتاباته شرحاً عن الحالة الإنسانية التي قد مرّ بها، ودفاعاً عن المساواة، وكنقد للواقع الذي دفعه لأن يكون لاجئاً في فرنسا والتي كانت الحريّات فيها أكثر ازدهاراً.
وخلافاً لرأي أفلاطون وسارتر، فإن نزع المنفعة من الشّعر يبدو رأياً غير مقنع في إطار الدراسات الأنثروبولوجية للعمل الأدبي لا سيّما أن القارئ هو المعني بتلك المنفعة كونه المتلقي لذلك العمل الفني. فأعمال هاينه الشّعرية تقدم للقارئ الثقافة الفرنسية بكونه كان وسيطاً بين تلك الثقافتين. كما أنه وقبل ذلك، كان شاهداً في عام 1827 من خلال رحلته لإنكلترا على قوة النظام الصناعي، وأيضاً قد عاصر ربيع الثورات الأوروبية الذي انطلق عام 1848 في القارة الأوروبية، والتي كانت محملة بشعارات الديمقراطية، والليبرالية، حيث اعتبر هذا الربيع الأوروبي الأهم كنقطة تحول في التاريخ الأوروبي.
وبالنظر إلى كتاباته الشعرية منها أو الصحفية يقول غوتسه غروسكلاوس في كتابه "هاينرش هاينه، شاعر الحداثة"، إن هاينه قد طور نوعاً من الكتابة، عرّفه في وقت لاحق فالتر بنيامين بـ "materialistische Physiognomik/ علم الفراسة المادي" فمن خلال التعابير الخارجية للجسم خصوصاً تلك التعابير الوجهية، يمكن وصف الصفات النفسية للإنسان، ما يعرف في الثقافة العربية بـ "علم الفراسة".
ويعلق على ذلك غوتسه غروسكلاوس بالقول: "إن كتاب صور السفر (نقله إلى العربية عبد المعين الملوحي بعنوان: رحلات هاينه في أوروبا) ونصوصه الباريسية، ينقل في الواقع صفات العالم المتحضر في طور التكوين، وفي القرن السابق لكل القرون اللاحقة التي سوف تتبناه". وما يجعل شعر هاينه يحمل كذلك أغراضاً مادية، الأسلوب الذي ميّز هاينه بدمجه بين المادي والنفسي.
إن ثورة يوليو الفرنسية قد بنت طريقة تفكير هاينه ليكون داعية إلى الحريّة السياسية والاجتماعية في ألمانيا نفسها
كما وانعكست في أشعار هاينه وأعماله مضامين ذلك القرن وتطلعاته التحررية. إن ثورة يوليو الفرنسية قد بنت طريقة تفكيره ليكون داعية إلى الحريّة السياسية والاجتماعية في ألمانيا نفسها، حاملاً شعارات الحداثة، ومطالباً بألمانيا جديدة. وفي ديوانه "ألمانيا، خرافات فصل الشتاء" 1844، انتقد السلطة العسكرية والشوفونية الألمانية ضد الثورة الفرنسية التي فهم اندلاعها كنقطة تحول اجتماعية في أوروبا كافة. وفي تلك الملحمة الشعرية الساخرة، يصف هاينه الأماكن التي كان قد مرّ بها أثناء رحلته في شتاء 1843 من باريس إلى هامبورغ بقصد زيارة والدته بعد قرابة اثنتي عشرة سنة من العيش في المنفى، وفي الملحمة يستشعر برسم تلك الأماكن التي قد مرّ بها بشكل طبوغرافي، مع بداية كئيبة في مطلعها: "في صباح حزين من نوفمبر، والأيام كن نكداً، والريح تمزق الأوراق من الأشجار، حينها عبرت نحو ألمانيا، وعندما وصلت الحدود، هنالك شعرت بخفقات قوية في صدري، حتى أنني أظن، أنّ عيني كانتا تقطران دمعاً".
يعود هاينه بعد تلك الزيارة إلى باريس التي غدت موطنه الثاني، ويتوفى فيها بعد معاناة طويلة مع المرض. وبعد مئة عام من وفاته يصف تيودور أدورنو، عالم الاجتماع الألماني، مسيرته بـ "جرح هاينه" لأنه قد تعرض للتشهير من قبل القوميين، وقد نال منه وطنه، بقدر دفعه إلى الاغتراب دون أن يفقد الأمل بأن يرى ألمانيا أفضل حالاً مما كانت عليه، ودون أن يتوقف عن التفكير بها: "في الليل أفكر بألمانيا، وعندما أريد النوم، لا أستطيع أن أغلق عيني، ودموعي الحارة تتدفق". وهذا الاغتراب صار جرحاً في الهوية الألمانية، وأمل أدورنو، أن ذلك الجرح يمكن أن يغلق أولاً في مجتمع، قادر على أن ينجز المصالحة مع نفسه.
وأما ما أثاره أفلاطون، وفيما بعد سارتر، في محاولة إخراج الفنّ الشّعري من الالتزام بقضايا سياسية واجتماعية، كان مستغرباً كما يرى باحثون ألمان في كتاب "حدود الأدب، 2009" وبأنّ التعريفات التي اختصت بالسؤال: ما هو الأدب؟ ظلّت معظمها في إطار: ما هو الأدب الجيد، أو الرديء، أو ما هو فني، أو غير فني. وهي مجرد نظرة تأريخية راديكالية للأدب. ويقرّون بأنه من الصعب وبشكل عام، تأكيد مفهوم مباشر يحدد "الأدب" والنظريات المطروحة تقتضي على الدوام المراجعة والنقد، مع الإشارة بأن الأوقات التي كان يطلب فيها من الأدب بالاعتناء بما هو جميل، وفعّال أو الحفاظ على القيم والحقائق، والترافع عن الخير، قد ولّت هي الأخرى، وأخذت معها الوظيفة التي كانت تنتظر منه. فالشاعر هاينه لم يقدر على إصلاح زمانه بالأدب، مع ذلك شكل إرثه الأدبي جزءاً من قصة ألمانيا، وهويتها الثقافية وتاريخها، وقبل ذلك، كان شاهداً على القرن التاسع عاشر، وحاضراً في الفلسفة الألمانية من نيتشه إلى هابرماس.