تعرفنا كتابات (جيل دولوز) بأن اللغة السينمائية تتشكل من ثلاثة عناصر: الصورة، الحركة، والزمن. وبالتالي، تفتح كتاباته الأفق على تحليل ليس الفيلم بل المشهد السينمائي على اعتباره مشكلاً من رموز سمعية بصرية تشكل كليته. ومن هنا يقترح المخرج (أسامة محمد) في فيلمه (نجوم النهار، 1988) عملية تأويلية لعين المتلقي ترتبط بتحليل وتفكيك الصورة أولاً، بما تحمله من مضامين ومرجعيات ثقافية.
كذلك، فإن السيناريو في الفيلم نفسه، في مضمونه، على اعتبار الشخصيات الاجتماعية من حولنا كأنماط ثقافية مفروضة أو سائدة أو في محاولة لإثبات الذات. لذا، فإن اللغة السينمائية في الفيلم تدفعنا إلى التفكير بالهوية البصرية من حولنا كسلطة ثقافية، والسردية الحكائية تجعل من الشخصيات السياسية والاجتماعية السائدة في تلك الفترة كأنماط تفرضها العائلة-العادات والتقاليد، والدولة-السلطة.
الريف النموذجي صورة مستحيلة
ليست البيئة الريفية الجبلية العلوية خياراً جمالياً في الفيلم، بل يثبت الفيلم باستمرار استحالة تشكل صورة الريف النوستالجية، وكأنه يكشف زيف الصورة النمطية عن الريف الجبلي المكرسة في السينما والفنون. فالجد يفكر بالفسحة الأنسب للمقبرة، بينما التلال الجبلية ليست إلا مساحة خواء وعزلة، وحين ينادي المنادي بصوته للدعوة إلى العرس، ما يوحي بنوستالجيا التواصل الصوتي بين التلال، فإن الصدى يتكرر بعدمية، مبرهنا سينمائياً على سقوط التواصل القروي إلى الفرديات والرغبات الشخصية. أما الطقس الشعبي الذي يحاول الفيلم أن يصوره، فهو العرس الذي لا تكتمل أمنيات صورته أبداً. فالعرس، الذي طالما شكل مادةً للسينما الأنثروبولوجية أو الفلكلورية، لا تكتمل صورته المتخيلة نهائياً في فيلم (نجوم النهار)، وسيتحول إلى صراع مصائر وسلوكيات، وستهرب العروس.
فعلى مستوى الموضوعة لن يتشكل الريف الباعث على النوستالجيا، فالجد الذي يفكر بالموت على مقبرة أعلى التل عند الشجرة، يُنتظر غيابه من الأخ الأكبر الراغب في إرثه، وتتضمن الحكاية صراعات أخوية وعائلية، لكن عدم تشكل صورة الريف لا يقع فقط على مستوى الموضوعة بل على مستوى الصورة البصرية، فاحتفال العرس الريفي يجسد في الفيلم عن طريق شاشة تلفزيون أحد أبرز مشاهد الفيلم التي تبتكر مع المتلقي علاقة تحليلية نقدية، لأن المخرج يصور العرس كما لو أنها لقطات التدشين والافتتاح التي تعرض على أخبار القنوات الرسمية والتي تغطي باستمرار فعاليات المسؤولين للقنوات التلفزيونية. عبر الكاميرا التي تصور العرس ندرك أن العائلة هي المجتمع، والعرس هو الإعلام المفروض، ونكتسب قدرة تحليل العالم البصري الثقافي المهيمن في فترة نهاية الثمانينيات.
الحياة كمسرح، والمصائر كأدوار تمثيلية
تصبح العلاقة بين المتلقي والفيلم علاقة تفكيك صورة نمطية سائدة أو الكشف عن صورة ثقافية مهيمنة، وهذا ما يجعل العالم من حولنا كهيئات ثقافية، ففي نصوص شكسبير الحياة مسرحية نؤدي فيها الأدوار، وكالدرون يطلق على المسرح حياة الحلم، ويذهب نص (الشرفة، جان جينيه، 1962) إلى اعتبار الحياة أو الوجود بتشعباته ليس إلا ديكوراً مسرحياً تتغير على أثره أدوار الشخصيات والمصائر التي هي أيضاً ليست إلا لعبة مسرحية، وتجري كامل أحداث هذه المسرحية داخل ماخور واحد المتعدد الصالات، بينما تتسارع في الخارج-المدينة الأحداث الثورية التي تتوسع وتعد بانهيار النظام الملكي، وانهيار مصير الشخصيات التي تحتجز نفسها داخل الماخور: الأسقف، القاضي، الجنرال. لكننا ما نلبث أن ندرك أنهم ليسوا إلا رجالاً عاديين يمارسون داخل الماخور أدوار لعبية تحقق لهم فانتاسماتهم السلطوية والجنسية. وكذلك الشخصيات في فيلم (نجوم النهار) هي هيئات أو أقنعة تحيل إلى شخصيات ومصائر في الواقع الاجتماعي والسياسي للبلاد.
مرجعية الشخصيات الفيلمية في الواقع الأخلاقي
يقرأ أيضاً النقاد شخصيات فيلم (نجوم النهار) على أكثر من مستوى، فهي تبدو بهيئتها، مظهرها، وأدائها شخصيات نمطية في الثقافة السورية، لكن كلاً منها تضمر عيوباً سلطوية أو انتهازية، فهنا كالأخ الأكبر الراغب بالتسلط والتحكم، والأخ الآخر المثقف البعثي الذي لا يتوانى عن ممارسات انتهازية تصل للاغتصاب، والأخ الأصغر الذي يمثل السذاجة يحاول الحصول على المرأة العانس. وتعي الأخت ثناء صراعاً بين القيم التي تميل إليها والشروط المفروضة عليها من المجتمع البطريركي الذي يمنعها الارتباط بالحبيب الجاد العصامي لتجبر على الزواج من عباس صاحب المركز الأمني المرموق في السلطة كي يتزوج منها. لكن عباس، العريس الجديد، يبدو أنه يصرّ على أخذ الأشياء اغتصاباً، هكذا سيتعامل مع عروسه حين يغتصبها بدم بارد.
الجد هو الشخصية الوحيدة التي توحي بالوعي، وهو يثرثر طيلة الوقت عن الجنون، بينما يضع تحت فراش نومه تفاحة كرمز للذة والحب. أما بوستر الفيلم فهو عبارة عن صورة عائلية تذكر بصورة مماثلة معروفة لعائلة الأسد الحاكمة، من حيث وضعية الجلوس والوقوف، زاوية الكاميرا، وتراتبية العلاقات.
المكان الهارب بين الريف والمدينة والهجرة
يلتبس المكان من لقطة البداية الافتتاحية في الفيلم، فالباب الخشبي يغلق أو يفتح لنا العالم البصري على الالتباس بين الحقيقة والحلم، لأن الشريط الصوتي في الفيلم يبدأ مع شخصية زوجة الأخ التي تروي ما رأته في المنام. ويستمر تأويل المكان على طول الفيلم باعتباره متأرجحاً بين الريف والعاصمة والهجرة. تفتقد الصورة المثالية عن الريف كما بينا سابقاً. أما محاولة الهجرة بعجز في الاندماج مع المجتمع الأوروبي، تجسدها حكاية العريس (د. معروف) القادم حديثاً من ألمانيا، لقد ترك برلين رغم العروض المقدمة له بإدارة مستشفى أو تسلم منصب وزير، ويلقي العائد إلى الوطن خطبة يتغنى فيها بعلاقته مع الضيعة، تحتوي على شعرية زائفة: "يا منازل في القلوب"، ومبالغات كاذبة: "عن عروض الانتماء في أوروبا"، وفي النهاية يقرر (د. معروف) العودة إلى أوروبا فيسافر من ميناء اللاذقية الذي يبدو محتشداً بالآلات والرافعات في إشارة إلى الصناعة الناشئة، وتؤدى له أغنية وداع طلائعية من الأطفال. أما بالنسبة للأخت سناء، فأنها حلمها بالتنقل ينحصر في زيارة الرستن والطبقة ومسكنة على الموتور. وتشكل علاقة الشخصيات مع العاصمة دمشق محوراً أساسياً في قراءة المكان في الفيلم. فدمشق هي تلك المكان الذي يأتي منه إلى الجبل الرجال المسؤولين لحضور الأعراس، وهي كذلك مكان هجرة الشباب إليها، ومكان ضياعهم الثقافي والنفسي، لكن المخرج أيضاً يركز على التأثير الثقافي للهجرة الريفية على دمشق، فيتحول المغني، الفن الجبلي الساحلي، بما يشبه الفن المفروض، المهيمن، المسيطر، على العاصمة دمشق.
العاصمة كصراع ثقافي، العاصمة كوحش مفترس
يعتبر المفكر (صادق جلال العظم) أن رمزية الماخور في مسرحية (جان جينيه) تختزل العالم، فتحضر فيه كل أنواع الشخصيات، ويشكل لها ملجأ من الحدث الاجتماعي، ليصبح هو بذاته استعراضاً لكل الحدث الاجتماعي. تقول عنه المدبرة (إيرما): "إنه المكان الأكثر إنسانية، بيت الأوهام الأكثر نزاهة، يلجؤون إليه ليهربون من الحديد والنار إلى تجاوز الخوف بالخلاعة". هو مكان تحقيق الفانتاسمات الشخصية، ولكنه يختزل العالم، المدينة، يتحول إلى القصر الملكي في بعض المشاهد، وفي مشاهد أخرى يحمل مضامين مكان المسرح، لعبة العالم والأدوار. ويصبح الماخور مستهدفاً من الحراك الثوري بأكثر مما هو عليه القصر الملكي. ولا يهدأ سيناريو فيلم (نجوم النهار) عن تشكيل المكان وإعادة تفكيكه، هاجساً بالرموز الثقافية للأمكنة، بالفن السائد، بالهوية البصرية التي يتم التعبير من خلالها على الأيديولوجيا والسياسة. تتجسد دمشق بتعددية، هي مدينة البيوت المتقاربة والأسطح الممتدة الحميمية في عيون الأخ الصغير (كاسر) الذي يعاني من نقص حاد في السمع نتيجة صفعة تلقاها من الأب في الصغر، يهرب من العائلة باتجاه دمشق، هناك سيلتقي بصديق له يخدم في الجيش، يمضيان سهرة على هامش أسطح حميمية المدينة، لكنه المدينة تتغير في صباح اليوم التالي حيث يبدو (كاسر) ضئيلاً في كاميرا المدينة، تائهاً في إيقاعها، ما يرمز له المشهد الأخير في الفيلم، حيث يبتلع الدخان الأبيض جسد الأخ التائه.
الفن كمرآة المجتمع السياسية والثقافية
يركز الفيلم على تحليل الفنون البصرية الغنائية المهيمنة في الثقافة المفروضة، للتعبير عن التغير أو التشكل في هوية المكان، يركز المخرج على أنواع متعددة من الفن، بداية نجد فنون الزجل، ومن ثم تحضر فنون البروباغندا أو تدجين الطفولة، حيث يؤدي ثنائي من الأطفال أغنية يتغنيان بها بالانضمام إلى المقاتلين المسلحين، تتضمن كلماتها تهيئة نفسية للتضحية بالنفس لأجل الوطن، كما تتضمن تمجيداً للصراع المسلح واحتقار العدو:
"بابا جبلي هدية، دبابة وبندقية، أنا وأخي طفل صغير، تعلمنا كيف مندخل جيش التحرير، جيش التحرير تعلمنا كيف منحمي وطننا، تسقط تسقط اسرائيل تعيش الأمة العربية".
توقف النقاد مطولاً عند مشهد إغراق المدينة بصور المغني (فؤاد غازي)، باعتباره فن الريف الذي يغزو المدينة، أو فن الريف المفروض على المدينة،
وقد توقف النقاد مطولاً عند مشهد إغراق المدينة بصور المغني (فؤاد غازي)، باعتباره فن الريف الذي يغزو المدينة، أو فن الريف المفروض على المدينة، أو فن السلطة المفروض على الذائقة العامة في الشوارع والساحات والأماكن العامة. هذا الإغراق بصورة الفنان على كامل مساحات العاصمة يقرأه المخرج (ثائر موسى) باعتباره متلازماً مع صورة الحاكم الفرد المطلق في الثمانينيات، والاتباع السياسة التي وصفها الروائي فواز حداد بمرحلة تأليه الحاكم بالصور، النصب، واللوحات.
في برنامج (خارج النص) يعلق المخرج ثائر موسى: "في سوريا منتصف الثمانينات أًصبح حافظ الأسد الحاكم المطلق، وانطلقت حملات تقديس وتأليه الحاكم بألقاب الأب الأول والمعلم الأول، فأتى أسامة محمد ليعرض فؤاد غازي بنفس الصورة بالضبط، التي كان تنتشر فيها صور حافظ الأسد وبورتريهاته".
في حين ركز الناقد (راشد عيسى) على المضمون الثقافي والاجتماعي لهذا النوع الفني، فيكتب: "من الواضح أن المخرج لم يكن يقصد الريف في نقده لذلك الجزء من البيئة السورية، بل أراد أن يوجه نقداً للطائفة، وهنا بالذات جرأته الاستثنائية. ليس عبثاً أن يستخدم الفيلم في مشاهده الافتتاحية قراءة الشيخ كبير العائلة الآية القرآنية «لكم دينكم ولي دين». وصولاً إلى انتقاد طغيان ثقافة الأقلية: حين ينزل الشاب إلى المدينة سيرى كيف امتلأت شوارعها بصورة المغني الذي يتحدّر من هناك، هو المغني فؤاد غازي، إنه رمز ثقافي في تلك الآونة، يشبه إلى حد كبير اليوم مغنياً آخر هو علي الديك".
الهيئات التكريمية عطايا السلطة لنزوات الأفراد
في مسرحية (جان جينيه) يتابع النظام القائم الدفاع عن استمراريته بكونه قد حقق لأعضائه الصور التي يرضونها عن أنفسهم، ومنحهم الهيئة التي تقدر ذواتهم. وكأن السلطة تمنح الأفراد الهيئات التي يرغبونها، تمنح الصورة كقيمة. إن قائد الشرطة المتسلط لا يجد مبرراً للثورة بما أنه منح القاضي هيئته المرادة، والأسقف صورته الاجتماعية المتمناة، والجنرال القيمة الاجتماعية الفخرية، وبذلك فإن المناصب والمهن والهيئات هي المراد من قبل الناس، وهي القيمة التي يلهثون عليها، وبما أن الحياة كلها أدوار، فقد منحهم النظام القائم أعلى تراتبية الهيئات الاجتماعية. كذلك يحلل فيلم (نجوم النهار) شخصياته باعتبارها هيئات سياسية واجتماعية سائدة في الفترة التاريخية التي يحللها الفيلم، ويعتبرها أنماطاً مفروضة على الثقافة العلوية وفقاً للظرف السياسي والاجتماعي، تفرضها أشكال العلاقة بين السلطة وبين البيئة الثقافية العلوية.
يقترح علينا فيلم (نجوم النهار) رحلة تفكيك للعالم البصري والثقافي السائد من حولنا، واكتشاف لرموزه ومضامينه المفروضة كرسائل للفكر الجمعي، ويربط الفيلم بين تفكيك المشهد الثقافي من حولنا وأسئلة وعينا حول القيم والأفكار والفنون، فالفضاء العام مساحة التنافس بين السلطة والأفراد، ليس على الثقافة المفروضة فحسب، بل أيضاً على الذائقة والجمالية المهيمنة. وهكذا، فالمجتمع، المدينة فضاء يتشكل من عناصر ثقافية بصرية، هيئاتية، سيمولوجية، والثقافة المفروضة ترسم للأفراد الأدوار، الأنماط، والمصائر.