"من حصار إلى حصار".. عبارة تتردّد بكثرة على ألسنة أهالي الغوطة الشرقية الذين ما إن خلصوا من حصار سبع سنوات حتى دخلوا في مرحلة جديدة مماثلة لكن على نطاق أوسع لتكون جميع المناطق السورية على حد سواء، فهل تعميم السيناريو كان مجرّد صدفة أم أن الغوطة كانت تحت التجربة لتصبح نموذجاً يُعمّم؟
هذا التساؤل يفتح باب تساؤلات أخرى لتعيد إلى أذهاننا سنوات الحصار التي عاشتها الغوطة الشرقية بمختلف مراحلها، وجملة التحولات التي مرّت بها لنقارن المشهد الماضي بالمشهد الحاضر الذي عمّ كل المناطق السورية من دون أن نغفل عن التوقيت الذي ابتدأ فيه الحصار الثاني الشامل.
الغوطة الشرقية.. 3 مراحل خلال سيطرة المعارضة
فمن المعلوم أن الغوطة الشرقية مرّت بثلاث مراحل خلال سيطرة فصائل المعارضة عليها في الفترة الممتدة بين أواخر عام 2012 وحتى منتصف العام 2018، تمثلت المرحلة الأولى بإغلاق جميع الطرق المؤدية من وإلى المناطق المجاورة للعاصمة دمشق والأرياف الملاصقة.
وبدأت هذه المرحلة مع بداية الحصار واستمرت حتى أواخر العام 2014, وكان لإغلاق الطرق الأثر البالغ في منع تزويد أهلها بالمستلزمات المعيشية الطبية والغذائية والوقود والمعدات الكهربائية والإلكترونية والتقنية والمواد اللازمة للمهن والحرف كالبناء والزراعة وغيرها، ما أدى إلى ندرة هذه المواد وحرمان الشريحة الأكبر منها وارتفاع أسعارها إن وجدت.
وكانت الفئات الفقيرة والمتوسطة هي الأكثر والأسرع تضرراً، حيث ازدادت نسبة البطالة بسبب توقف عدد من المهن والحرف كأعمال البناء والمهن التي تعتمد على الطاقة الكهربائية أو المحروقات وعدد كبير من المحال التجارية بسبب انعدام السلع, وأمام ارتفاع الأسعار وتوقف سوق العمل لم يكن للمدنيين من خيار لسد احتياجاتهم إلا الاعتماد على ما لديهم من مدخرات.
البداية كانت في بيع مدخرات الذهب بأسعار منخفضة للحصول على لقمة العيش، حتى إذا نفد ما لديهم توجّهوا نحو بيع ممتلكاتهم المنقولة كالسيارات ولا سيما بعد توقفها عن العمل بسبب انعدام المحروقات وتعرض أغلبها للضرر بسبب القصف، فكان خيار بيع المركبات حلاً لسد الاحتياجات الأساسية, لتصل الأمور إلى بيع الممتلكات غير المنقولة كالأراضي والمنازل السكنية والمحال وكل ذلك بأسعار زهيدة لا تكاد تساوي عشر قيمتها الحقيقية.. أبو محمد - أحد الناجين من الحصار - ذكر أنه اضطر إلى بيع منزله لإعالة أطفاله الأربعة بمبلغ سبعمئة ألف ليرة سورية، عام 2014، في حين أنه كان يساوي ما يزيد على سبعة ملايين ليرة.
ولكن ما يجدر الإشارة إليه والسؤال عنه: لصالح أي جهة كانت تُباع تلك الممتلكات؟ إذا كان أغلب المدنيين يعانون الظروف المعيشية الصعبة ذاتها، فهل من المعقول أن يكون الطرف الآخر أحد المدنيين ليشتري عقارات معرّضة للدمار بسبب القصف؟
تُثار الشكوك حول إمكانية أن تكون عمليات البيع قد تمت بالفعل عن طريق أناس من أهالي الغوطة القاطنين فيها آنذاك لكن بصفتهم وسطاء لتحول تلك الممتلكات لصالح جهات رسمية بطريقة غير معلنة, إضافة إلى الاستفادة من الذهب الذي كان يتم إخراجه إلى دمشق ثم بيعه بأسعار مضاعفة.
مع دخول العام 2015، اتخذ الوضع منحى جديداً من خلال دخول منظمات المجتمع المدني وتبنيها لعدد من المؤسسات النشطة داخل الغوطة الإغاثية والتعليمية والطبية وغيرها، وهو ما فتح باب التداول بالعملات الأجنبية ولا سيما الدولار, وفي المقابل بقيت حركة البيع والشراء بالليرة السورية، أي إن غالبية العاملين في المؤسسات المدنية سيضطرون لتصريف رواتبهم من الدولار إلى الليرة والذي سيؤدي بدوره إلى سحب الدولار من المنظمات إلى الغوطة ثم إلى المصرف المركزي بدمشق، مما يسهم في دعم الليرة السورية, وهو ما يفسر بقاء الليرة في حالة شبه استقرار بالتزامن مع هذه المرحلة وحتى فك الحصار عن الغوطة الشرقية.
اقرأ أيضاً.. الحوالات المالية الخارجية سلاح جديد لابتزاز سكان دمشق
ولا يغيب عن المشهد تحسّن حال الأسواق بعد الركود الذي شهدته خلال المرحلة الأولى بسبب الأنفاق التي تم حفرها وتصل بين دمشق والغوطة، وكانت وسيلة لإنعاش الأسواق بمختلف البضائع ما يعني تنشيط حركة البيع والشراء الذي يساعد على سحب أكبر رصيد ممكن من الدولار إلى دمشق.
تنتهي المرحلة الثانية مع بدء العام 2017، وتدخل المنطقة مرحلة جديدة بإغلاق الأنفاق لتشهد الأسواق ارتفاعاً جنونياً لأسعار السلع مع استمرار ضخ العملات الأجنبية ليكون هذا الارتفاع محرّضاً على سحب ما تبقّى لدى العاملين في مختلف المؤسسات مما تم ادخاره لدى الأقلية منهم حتى أوائل العام 2018، حيث أعلن عن عودة سيطرة "النظام" على كامل مناطق الغوطة بشكل تدريجي وإجلاء فصائل المعارضة إلى الشمال السوري, وبهذا توقّفت عملية ضخ العملات الأجنبية إلى الغوطة ومن ثم إلى المصرف المركزي بدمشق.
لا يخفى على متتبع الشأن السوري أن هذه المرحلة في الغوطة الشرقية لم تكن مجرّد حرب بين النظام السوري وفصائل المعارضة بقدر ما كانت منطقة "سوق سوداء" لسحب الممتلكات والمعادن النفيسة والعملات الأجنبية لدعم الليرة السورية وسوقاً لتصريف البضائع الكاسدة والتالفة بأسعار جنونية لدعم التجّار, كما لا يخفى أيضاً أنه وبمجرد انتهاء الحصار وعودة الغوطة إلى سيطرة "النظام"، بدأت الليرة السورية بالانهيار التدريجي لتوقف الدعم عنها.
وما إن مضى عامان على انتهاء الحصار ومع التدهور البطيء الذي شهدته الليرة السورية حتى أُعلن عن فرض "قانون قيصر" من قبل الإدارة الأميركية أوائل عام 2020, وقبيل تنفيذ القرار خارجياً ابتدأ الحصار داخلياً ليعاد السيناريو الذي شهدته الغوطة على نطاق موسّع، بدءاً بتقليص المواد المطروحة في الأسواق والشح فيها وارتفاع الأسعار مروراً بحاجة المدنيين إلى بيع مدخراتهم وممتلكاتهم للتمكّن من تلبية احتياجاتهم الضرورية وصولاً إلى تنشيط السوق السوداء.
فقد ترافق ارتفاع أسعار السلع بشكل متزايد منذ منتصف 2020 وحتى الوقت الراهن مع وقف الاستيراد، ممّا أسهم في تصريف السلع المحلية وبأسعار جنونية, ولو كانت كاسدة أو تالفة, كحال الأغذية الفاسدة التي أُعيد تدويرها, إضافة إلى تمرير بعض الصفقات التجارية لصالح التجار المحسوبين على المسؤولين كصفقات بيع معدات الطاقة الشمسية كبديل عن الكهرباء, والتي حرّضت على طرح التساؤل عن كيفية تمرير كميات ضخمة من ألواح الطاقة ومستلزماتها رغم ادعاء وجود حصار يمنع دخول الأدوية الضرورية.
اقرأ أيضاً..بعد عام من سيطرة نظام الأسد على دوما... ما زال الحصار مستمراً
وكان للتضييق الواسع في الخدمات المتاحة من الكهرباء والمحروقات دور كبير للحث على اقتناء معدات الطاقة الشمسية ولو اضطر الأهالي إلى بيع مدخراتهم من الذهب أو حتى بيع سياراتهم لتوفير الطاقة بديلاً عن الكهرباء المنزلية والصناعية، وشجّع على ذلك ارتفاع أسعار الذهب التي بلغت 50 دولاراً للغرام الواحد (عيار 21) من جهة، وعدم الاستفادة من السيارات الخاصة بسبب عدم توفر البنزين من جهة أخرى، فكان الاستغناء عن أي منهما أمراً ممكناً بسبب الظروف المعيشية.
والجدير بالذكر أن السعي وراء البدائل عن الكهرباء والمحروقات يكاد يكون محصوراً بالفئة الغنية نسبياً من غير التجار والمحتكرين والفاسدين, والتي تمثل الأقلية، في حين أن الفئة الفقيرة الغالبة على المجتمع السوري بالكاد تسعى وراء تأمين لقمة العيش ورغيف الخبز وسط الغلاء الفاحش ومحدودية الدخل وانهيار الليرة المتواصل.
أبو ابراهيم، يعمل حارساً ليلياً في أحد الأسواق ويتقاضى أجراً أسبوعياً يقدر بـ90 ألف ليرة سورية (ما يعادل 360 ألف ليرة مقدّرة بنحو 60 دولاراً شهرياً)، ويعيل ستة أشخاص من بينهم أطفال ومرضى, فهل سيفكر أمثال هؤلاء بما يسمّيه السوريون بالكماليات ووسائل الرفاهية في وقت تتطلب وجبة غداء واحدة من المستوى المتوسط ما لا يقل عن 30 ألفاً؟! إن أمثال هؤلاء مضطرون لبيع مقتنياتهم المنزلية من الأدوات الكهربائية التي لم تعد تعمل لعدم توفر الكهرباء من أجل سد النقص في احتياجاتهم الضرورية من الخبز والمياه ووسائل التدفئة.
من جانب آخر سمحت حكومة النظام السوري باستقبال الحوالات المالية من المقيمين خارج القطر، شرط أن يتم التسليم بالليرة السورية وأن تكون الحوالات عن طريق الشركات المعتمدة رسمياً بهدف تحقيق مكاسب من خلال اعتماد سعر الصرف الرسمي الذي يقل بنسبه 40% من سعر الصرف في السوق السوداء، وبهذا يعود فرق سعر الصرف لصالح البنك المركزي, كما فرضت إجراءات مشددة لكل من يحاول استلام حوالة من غير تلك الشركات لأنه يعيق الاستفادة من فارق سعر الصرف.
اقرأ أيضاً.. مقياس خط الفقر في الغوطة.. رغيف خبز وكأس شاي
هذه الأحوال دفعت الكثيرين ولا سيما من فئة الشباب إلى البحث عن وجهة للسفر خارج البلاد بطريقة شرعية أو غير شرعية هرباً من سنوات الخدمة الإلزامية مجهولة المصير أو بحثاً عن ظروف ملائمة لحياة كريمة إثر انعدام فرص العمل وتوقّف الكثير من المهن والأعمال لتردي الوضع, وأياً يكن الدافع أو الطريقة المختارة للخلاص من شبح الجوع والفقر فإن اتخاذ مثل هذه الخطوة يعني التخلّي عن عقار من شقق سكنية أو محال تجارية أو أرض زراعية ليتمكن من سد تكاليف الهجرة.
كل هذه المؤشرات تؤكّد أن تردي الوضع المعيشي في سوريا لم يكن نتيجة حصار خارجي بقدر ما كان خطة مدروسة من قبل أرباب الفساد ومسانديهم.