ثلاثُ سنواتٍ مضت على سيطرة نظام الأسد على الغوطة الشرقية، لم يلمس خلالها الأهالي أي تحسنٍ في الأوضاع الخدمية، على عكس مزاعم مسؤولي النظام منذ اللحظة الأولى لدخول الغوطة، لا بل إنَّ بعض الجوانب الخدمية كانت أفضل خلال فترة الحصار، وما زاد الطين بلّة سوء الواقع الأمني والمعيشي الذي انعكس سلبياً على السكان.
في الثاني عشر من نيسان 2018، استكملت قوات النظام سيطرتها على كامل الغوطة الشرقية، بعد ستة أعوامٍ من الحصار والقصف العنيف، أدى إلى دمار كثيرٍ من الأبنية وتضرّر البنية التحتية، وانتهى الأمر بتوقيع "اتفاق تسوية" أفضى إلى تهجير نصف سكان الغوطة، بينما فضّل النصف الآخر ممن أجروا "التسوية" البقاء في ديارهم، أملاً في أن يكون الحال أفضل، لكن الواقع كان مغايراً تماماً.
عقب السيطرة على الغوطة الشرقية، أعلنت حكومة النظام عن جملةٍ من أعمالٍ التأهيل للبنى التحتية، تشمل الطرقات العامة الرئيسية وقطاع الكهرباء والمياه والمؤسسات الحكومية، حيث زعمت "محافظة ريف دمشق" في حزيران 2018، أنها خصصت أكثر من ثلاثة مليارات ليرة سورية لتنفيذ مشاريع إعادة الإعمار في الغوطة، من أصل المبلغ المخصص من "مجلس الوزراء" لإعادة الإعمار في محافظة ريف دمشق والبالغ خمسة مليارات ليرة.
حرمان من الخبز والكهرباء والمياه
تقسم الغوطة إلى ثلاثة قطاعات هي: (القطاع الجنوبي، القطاع الأوسط، وقطاع دوما)، ويواجه السكان واقعاً خدمياً متردّياً في جميع المناطق.
وقال الصحفي غياث الذهبي، لموقع "تلفزيون سوريا"، إنه "منذ سيطرة النظام على الغوطة، فإن الوضع الخدمي يتراجع للوراء يوماً بعد يوم، حتى إن بعض الخدمات كانت أفضل خلال فترة الحصار"، مشيراً إلى أن "حرمان أهالي الغوطة من الخدمات الأساسية ولاسيما الكهرباء والمياه والخبز، هي سياسة عقاب انتهجها النظام منذ بداية الثورة، واستمر بها حتى عقب سيطرته عليها في 2018".
وأضاف الذهبي، وهو من مهجّري الغوطة الشرقية، أن "تأمين رغيف الخبز، بات المشكلة الأكبر التي يعاني منها سكان الغوطة، حيث يتعمّد النظام عدم صيانة الكثير من الأفران، فهناك مخابز لم تعمل حتى الآن، وأخرى تعمل ليوم وتتوقف لعشرة بسبب الأعطال، أو عدم تزويدها بمخصصاتها من المازوت، إضافةً إلى إغلاق بعض الأفران بحجة وجود مخالفاتٍ تموينية".
كذلك يعاني أصحاب الأفران من تخفيض الكميات المخصصة لهم من الطحين إلى النصف وأحياناً أقل، ما يُسبّب أزمةً خانقة على الأفران، ويدفع البعض إلى شراء ربطة الخبز من السوق السوداء بسعرٍ يتراوح بين 1000-1200 ليرة سورية.
يقول أحد سكان كفربطنا، فضل عدم الكشف عن اسمه، "نضطر إلى الوقوف لعدة ساعات لشراء الخبز، وفي الغالب نعود بخفي حُنين بسبب نفاذ الكمية، وليس لدينا قدرة على شراء الخبز من السوق السوداء كما هو حال أغلب السكان، ومن لديه بعض الطحين يخبز على التنور أو الصاج المتوفر لديه"، لافتاً إلى أنه "خلال فترة الحصار كانت كميات الخبز أكثر، حيث كانت المنظمات تتكفّل بتقديم دعمٍ كبير لتشغيل الأفران".
ويعاني سكان الغوطة أيضاً من غياب الكهرباء، حيث تعمل لنصف ساعة كل أربع ساعات، وأحياناً لساعة أو ساعتين فقط طوال اليوم، وهناك أحياء لم تصل إليها الكهرباء حتى الآن، خاصةً في بعض مناطق دوما والمرج وعربين وجسرين ومسرابا وبيت سوا وحمورية، بينما وصل التيار الكهربائي إلى بعض الأحياء القريبة من الحواجز، أو المناطق التي يوجد فيها شخص مرتبط بالأفرع الأمنية أو "حزب البعث".
ويوجد نحو خمس محطات للتغذية الكهربائية في الغوطة، ثلاث منها مدمرة ومحطتان قيد الخدمة، إضافةً إلى دمارٍ كبير في شبكات الكهرباء خلال القصف، في وقتٍ يُهمل فيه النظام إعادة تأهيل الشبكات في الكثير من المناطق رغم شكاوى الناس المتكررة، بينما قام بمد شبكات كهرباء إلى بعض المناطق، لكن الأهالي يرون أنه لا فائدة منها طالما أنه ليس هناك تيار كهربائي.
وأوضح المصدر لموقع "تلفزيون سوريا" أنه "في ظل انقطاع الكهرباء لساعاتٍ طويلة، لجأت بعض العائلات إلى الاشتراك بمولدات الأمبيرات قبل ستة أشهر، حيث تم وضع مولدات ضخمة تعمل على المازوت، وتبلغ كلفة الكيلو واط الواحد عبر الأمبيرات 800 - 1000 ليرة سورية، وبالتالي تصل الكلفة الشهرية إلى 40-50 ألف ليرة، لذا فإن معظم العائلات لا تستطيع الاشتراك بالأمبيرات، بسبب غلائها مقارنةً مع الدخل المحدود".
تأمين المياه مشكلة كبيرة تلاحق سكان الغوطة منذ بدء الحصار، فمع توقف ضخ المياه نتيجة تضرر محطات التوليد والشبكات بسبب القصف العنيف، اتجه الأهالي حينها إلى الاعتماد على الآبار الارتوازية الموزّعة بين الأحياء السكنية والتي قامت المنظمات بحفرها، حيث يقومون باستخراج المياه عبر الكبّاسات اليدوية.
وعقب سيطرة النظام على الغوطة، قام بصيانةٍ جزئية لبعض الشبكات المتضررة وضخ المياه عبرها، ولكن ضمن فتراتٍ متقطعة قد لا تتعدى مرة أو مرتين في الأسبوع، أو قد تصل المياه ضعيفة خاصةً للسكان الموجودين في الطابق الثاني والثالث، وبالتالي يضطرون لتشغيل موتورات لسحب المياه عبر الكهرباء إن وجدت أو باستخدام المحروقات.
وقال أبو عدنان، أحد سكان حمورية، إن "أزمة المحروقات الخانقة وغياب الكهرباء انعكست على واقع المياه مؤخراً، حيث انخفض معدل ضخ المياه بشكلٍ كبير، كما أن هناك الكثير من الأحياء لا تصلها المياه أبداً، وتعتمد على سحب المياه من الآبار عبر المولدات، لكن نقص المحروقات جعل الأهالي في ورطة، خاصةً بعد سرقة الأسد معظم الكبّاسات اليدوية، ما اضطرهم لشراء المياه من الصهاريج والتي أصبحت باهظة الثمن".
القطاع الطبي.. "بأيام الحصار كان أفضل"
سوء الواقع الخدمي في الغوطة يطول كذلك القطاع الطبي، حيث يوجد اليوم في الغوطة ثلاثة مشافٍ فقط، موجودة في حرستا ودوما والمليحة، لكنها تقدم إسعافاتٍ أولية، وتفتقر إلى الكوادر الطبية، فأغلب الأطباء معتقلون وقُتل ثلاثة منهم تحت التعذيب، إضافةً إلى نزوح آخرين منذ بداية الثورة أو هُجّروا إلى الشمال السوري.
وأشار ممرض في الغوطة الشرقية، فضّل عدم الكشف عن اسمه، لموقع "تلفزيون سوريا" إلى أن الواقع الطبي "كان أفضل خلال فترة الحصار مما هو عليه اليوم تحت سلطة النظام، الذي أهمل افتتاح أو إعادة تأهيل أي مشفى، فلا يوجد سوى ثلاثة مشافٍ في كامل الغوطة أُعيد تأهيلها من قبل المنظمات، بينما اقتصرت إنجازات الأسد على افتتاح بعض المستوصفات التي تقدّم اللقاحات والمعاينات البسيطة، ولا تحتوي أي تخصصات، كما أنها غير مؤهلة لإجراء العمليات الجراحية، فمثلاً الحامل التي تحتاج لولادة قيصرية تضطر للتوجه إلى دمشق لإجراء العملية ما يُعرّض حياتها للخطر".
وكانت الغوطة الشرقية تضم قبل اندلاع الثورة، مشفى المليحة، ومشفى الشرطة بحرستا، والسل في كفربطنا، ومشفى ريف دمشق التخصصي في دوما، والتي كانت تابعةً للنظام، وعقب تحرير الغوطة استمر مشفى دوما فقط بالعمل بدعمٍ من المنظمات الإنسانية، إضافةً لافتتاح مشافٍ ميدانية ونقاطٍ طبية مجانية أغلبها ضمن الأقبية، وتضم مختلف التجهيزات الطبية، فضلاً عن توفّر معظم التخصصات، وكانت جميع تلك الخدمات مجانية بما في ذلك الأدوية.
وسارع النظام عقب سيطرته على الغوطة، إلى إغلاق مشفى دوما التخصصي وجميع المشافي الميدانية، بعد أن سرقت قواته جميع الأجهزة الطبية الموجودة فيها، اضافةً إلى اعتقال أغلب الأطباء والمسعفين.
وأفاد أبو عدنان أن "المستوصفات الموجودة اليوم، تشهد ازدحاماً شديداً، لذا نضطر للتوجه إلى مشافي العاصمة، أو العيادات الخاصة والتي تتراوح أجرة المعاينة فيها بين 10-15 ألف ليرة سورية، إضافةً إلى غلاء أسعار الأدوية مقارنةً بصيدليات دمشق، وعدم توفّر صيدليات مناوبة ليلاً في المنطقة"، مضيفاً "الله يرحم أيام الحصار!، على الأقل كانت كل الأدوية والمعاينات والعمليات الجراحية مجانية".
سبعة معابر تخنق سكان الغوطة
لم يكتفِ النظام بإهمال تقديم الخدمات لسكان الغوطة، بل سعى إلى التضييق الأمني عليهم، حيث حصر حركة الدخول والخروج في بداية سيطرته على الغوطة من منفذٍ واحد فقط، هو (معبر مخيم الوافدين) في دوما، والذي تسيطر عليه "الفرقة الرابعة" و"أمن الدولة"، ما سبّب حالة إرباكٍ لكثيرٍ من أهالي الغوطة، الذين يضطرون لقطع مسافاتٍ طويلة للوصول إلى المعبر المخصص للخروج، والانتظار لساعاتٍ طويلة بسبب الضغط على المعبر، إضافةً إلى عمليات الاعتقال المستمرة.
مع تزايد تذمر الأهالي من عدم توفر المعابر، افتتح الأسد ستة معابر أخرى، تخضع لسيطرة أفرعٍ أمنية مختلفة، حيث تسيطر "المخابرات الجوية” و"الحرس الجمهوري" على (معبر أسواق الخير) في عين ترما، (معبر النور) في المليحة، و(معبر زملكا).
وتسيطر “الفرقة الرابعة” و”الأمن السياسي”، على (حاجز المياه) في عربين، أما (معبر الصمادي) على الأوتوستراد الدولي، يسيطر عليه “الحرس الجمهوري” و”أمن الدولة”، بينما تسيطر الميليشيات الشيعية على (معبر حتيتة التركمان) جنوب الغوطة.
يقول غياث الذهبي: إن "الواقع الأمني سيء جداً، فالاعتقالات مستمرة، والحواجز تفرض الإتاوات، وحالات السرقة والخطف تحصل بين الفينة والأخرى، اضافةً إلى عمليات التضييق على الحواجز، التي تخضع لمزاجية عناصر النظام، ففي بعض الأحيان يشترطون حصول الشخص على موافقة أمنية للسماح له بالخروج والدخول، علماً أن معابر الغوطة السبعة، يوجد فيها مفرزة تابعة للأمن العسكري، من أجل تنفيذ عمليات سوق المطلوبين للخدمة العسكرية”.
ووثقت تقارير حقوقية اعتقال أجهزة النظام الأمنية نحو 350 شخصاً خلال ثلاث سنوات من مختلف مناطق الغوطة الشرقية، وعلى وجه التحديد "زملكا – عين ترما – حزة – سقبا – جسرين – عربين – حمورية – المليحة – جوبر”، جُلهم من الناشطين أو العاملين ضمن المجال الطبي، أو كانوا يعملون ضمن مؤسسات مدنية محسوبة على المعارضة إبان سيطرة الفصائل.
وفي السياق ذاته أوضح الناشط الإعلامي ليث العبد الله من أبناء دوما، لموقع "تلفزيون سوريا" أن "الاعتقالات تطول في الغالب كل من يتم الإبلاغ عنه من قبل المخبرين، بأنه كان يشارك في الثورة أو عمل ضمن منظمة إغاثية أو تابع للفصائل أو يتعامل بالدولار، إضافةً إلى اعتقال كل مهجّر عاد من الشمال السوري، وتختلف مدة الاعتقال بين أسبوع أو شهر أو سنة، وهناك أشخاص مُغيّبون حتى الآن، أما الأشخاص الذين كانوا في مناطق النظام أو قادمين من خارج سوريا، ففي الغالب يتم تفييش أسمائهم على الحاجز، ويُسمح لهم بالعودة إلى ديارهم".
حرب على لقمة العيش
يعتبر الواقع المعيشي للأهالي سيئاً جداً، فالبطالة منتشرة وفرص العمل قليلة، ولم تعد المهن التي يزاولها سكان الغوطة تؤمن لهم دخلاً جيداً، ويعود ذلك إلى تقاضي حواجز النظام إتاوات مقابل المنتجات التي يود الأهالي بيعها في العاصمة، أو حتى البضائع التي تدخل إلى الغوطة، ما يجعل هامش الربح ضئيلاً جداً.
وتزيد أسعار السلع في الغوطة بنسبة 10-20% عن أسواق دمشق، وبالتالي باتت تكاليف المعيشة باهظة جداً، ولم يعد يقل مصروف العائلة المتوسطة عن 500 ألف ليرة سورية، ما دفع أغلب العوائل إلى الاعتماد على الحوالات المالية التي تصلهم من ذويهم في دول اللجوء، أو استصلاح أراضيهم والعمل فيها.
وفي ظل هذا الواقع باتت حياة سكان الغوطة أشبه بحربٍ للحصول على لقمة العيش، فالحصار الذي دام لست سنوات أسهم في خسارة أغلب الأهالي كل ما يملكون من أموال، إضافةً إلى دمار معظم المصانع والورشات والمحالّ التجارية بشكلٍ كلي أو جزئي، واحتراق أغلب الأراضي الزراعية وقطع أشجارها.
وقال صاحب أحد متاجر بيع المواد الغذائية في عربين: "بعض ميليشيات النظام يقومون كل فترة بجولاتٍ على أصحاب المحالّ، حيث يتقاضون منهم مبالغ مالية كنوعٍ من الابتزاز مقابل عدم اعتقالهم أو إلحاق الضرر بمحالهم، إضافةً إلى انخفاض دخل أغلب السكان، وبالتالي أصبحت العديد من السلع والبضائع رفاهية بالنسبة لهم بعد أن كانت أساسية قبل الثورة، وهذا كله أثّر سلباً في أصحاب المحالّ".
وسيطر الأسد على كامل الغوطة الشرقية، عقب حملةٍ عسكريةٍ شرسة أدت إلى مقتل وجرح الآلاف، وتهجير 65887 شخصاً إلى الشمال السوري، بينما أجرى من بقي في الغوطة تسويةً مع النظام.