واجه السوريون المقيمون في تركيا كثيرا من التحديات والصعوبات التي أثرت بشكل سلبي على عملية الاندماج والاستقرار، لكن أكثرها شيوعاً المشكلات القانونية المتعلقة بهوية الحماية المؤقتة "الكيملك" التي تأطّر حياة اللاجئين ضمن ولاية التسجيل، مما حرمهم كثيرا من فرص العمل وحد كثيراً من حرية تنقلهم، ولكن مشكلات جديدة في الأوراق الرسمية طرأت بعد الزلزال المدمر الذي ضرب الولايات الجنوبية ذات الكثافة السورية، جعلت إمكانية التعافي بعد الكارثة الكبيرة أكثر صعوبة.
سنت الحكومة التركية في أيار عام 2013 "قانون الأجانب والحماية الدولية رقم 6458"، والذي يحدد مساحة لحياة اللاجئ في ولاية التسجيل والحد من حركته، في حين تمنح رئاسة الهجرة التركية "إذن سفر" لمدة لا تزيد عن 15 يوماً.
ووفق هذا الواقع خاطرت آلاف العائلات السورية وانتقلت إلى ولايات حصلت فيها على فرص للعمل والعيش. وانتقال اللاجئين السوريين إلى ولاية غير ولاية التسجيل، لا يضعهم في خطر الترحيل فقط، إنما يخسرون فرصة الحصول على إذن عمل وتثبيت عنوان سكنهم وتسجيل أطفالهم في المدارس، ويحرمهم من الخدمات الصحية المجانية التي يدفع تكاليفها الاتحاد الأوروبي.
وأجبر زلزال السادس من شباط المدمر عشرات آلاف السوريين للانتقال إلى ولايات أخرى، فبحسب دراسة لـ "جمعية أبحاث الهجرة" التركية، بلغ عدد السوريين الذين حصلوا على "إذن سفر" في إسطنبول بعد الزلزال 25 ألف شخص، في حين بلغ العدد الكامل 30-35 ألف سوري، ووصل هؤلاء إلى إسطنبول بناء على شبكاتهم الاجتماعية ودعم أقاربهم، للحصول على مأوى مؤقت لم تأمنه الحكومة التركية لهم، وأملاً في إيجاد فرصة عمل في السوق بشكل غير رسمي من خلال الأقارب والمعارف.
ولا تقتصر مشكلات هوية الحماية المؤقتة القانونية على "إذن السفر"، أيضاً واجه اللاجئون السوريون أشكالاً مختلفة من المشكلات القانونية، بعضها نتيجة خطأ موظف الهجرة، وتتراح هذه المشكلات من تسجيل الأعزب كمتزوج وبالعكس، وحتى إلغاء "الكيملك" بالكامل.
خطأ موظف.. الأطفال تذكرة هجرة إلى أوروبا
استخرجت عائلة السيدة أمان بطاقات الحماية المؤقتة من ولاية كهرمان مرعش ثم انتقلت إلى مدينة إسطنبول للعمل، وفشلت جميع الجهود لنقل قيودهم إلى إسطنبول، وبعد الحملة الأمنية المكثفة ضد الهجرة غير الشرعية عام 2019، عادت عائلة أمان إلى كهرمان مرعش تجنباً للقبض عليها وترحيلها، لتتفاجئ العائلة بتوقف قيودها في ولاية التسجيل.
تقول أمان لموقع تلفزيون سوريا: أخبرنا موظف الهجرة أن سبب توقف الهوية هو مخالفة إذن سفر لمدينة لم يذهب إليها الأب قط، وباءت بالفشل كل محاولات زوجها لتبرير وإثبات وجوده في المدينة في تاريخ المخالفة.
طلبت الهجرة التركية من عائلة إيمان الحضور والتوقيع كل أسبوعين لإثبات التزامهم أنهم مقيمون في كهرمان مرعش، ثم أبلغهم موظف الهجرة أنهم لم يعودوا مضطرين للقدوم للتوقيع بعد الآن وأن يتقدموا بطلب "تحديث بيانات"، ليفاجؤوا بعد ذلك أن بطاقة الحماية المؤقتة لم تعد فعالة بسبب عدم متابعة التوقيع بشكل دوري في دائرة الهجرة.
الآن إيمان وعائلتها من دون قيود رسمية، فرب الأسرة لا يستطيع استخراج إذن عمل، والأطفال لا يمكن تسجيلهم في المدارس، وخدمات الطبابة المجانية توقفت عنهم. وبعد انسداد أي أفق في انفراجة أو حل، اتخذت العائلة "القرار الأصعب" في حياتها، بحسب وصف إيمان، حيث أرسلوا أحد أبنائهم الصغار في رحلات الموت مع شقيقه البالغ إلى أوروبا بحثاً عن الأمل والاستقرار، لأن الطفل الصغير يستطيع طلب لم شمل عائلته خلال وقت قصير نسبياً بعد أن يصل إلى أوروبا.
طفل متوفى في الأوراق وحي من دونها
تجاهد عائلة سورية مقيمة في ولاية غازي عنتاب لإثبات أن ابنها الأوسط على قيد الحياة، وذلك بعد أن وُفّي في السجلات التركية ومُسح قيده عقب الزلزال عن طريق الخطأ.
وقال والد الطفل ياسر أبو راس (35 عاماً) لوكالة "DHA" التركية إن السلطات أدخلت "بالخطأ" بيانات ابنه "بكري" على أنه فقد حياته في الكارثة، مشيراً إلى أنهم لم يتمكنوا حتى اليوم من إثبات أنه على قيد الحياة، وعليه قرروا توكيل محامٍ للمساعدة.
انتقل ياسر مع زوجته وأطفاله الأربعة إلى مرسين بسبب الأضرار التي لحقت بمنزلهم في غازي عنتاب نتيجة الزلزال، وتقدّم بطلبات لتجديد إقامته وعائلته لدائرة الهجرة في عنتاب ليفاجأ أن "بكري" مسجّل على أنه متوفٍ في زلزال أنطاكيا، مبيناً أنه لم يسبق له أن زار المدينة المذكورة آنفاً.
وذكر ياسر، الذي يملك محلاً لبيع الألبسة في عنتاب، أنه حاول بشتى الطرق إثبات أن ابنه بكري على قيد الحياة، لكن أحداً لم يتجاوب وطُلب منه مراسلة الهجرة في أنقرة وأنطاكيا، لكن من دون جدوى.
الضياع بعد الزلزال.. طفل "بدون"
خرجت أم محمد من مدينة إسكندرون بعد الزلزال المدمر إلى مدينة إسطنبول بعد أن فقدت منزلها وابنها الشاب محمد "العريس الجديد" الذي كانت تقيم عنده مع زوجته الحامل كنانة.
استطاعت أم محمد استخراج إذن سفر للإقامة المؤقتة في إسطنبول، لكن أرملة ابنها محمد المتوفى لا تملك بطاقة حماية مؤقتة، فكان التحدي الأكبر في إيجاد مستشفى يستقبلها لتلد فيه، لأنها خافت أن يبلغ المستشفى الشرطة التركية ويتم ترحيلها.
وقالت أم محمد في حديثها لموقع تلفزيون سوريا إن موعد ولادة كنانة حان بعد شهرين من الزلزال، فعادت مع كنّتها إلى مدينة إسكندرون رغم عدم وجود مأوى تبيتان فيه، لأن مدير محمد السابق استطاع من خلال بعض العلاقات تأمين دخول كنانة للمستشفى لتلد فيه، لكن مشكلة كبيرة ظهرت.
لم تستطع كنانة إثبات نسب الطفل المولود حديثا للأب المتوفى، ويضغط الآن أهل كنانة المقيمين في الشمال السوري من أجل عودة ابنتهم لتعيش معهم، في حين سيبقى الطفل الرضيع الذي لا يمكن استخراج بطاقة حماية مؤقتة له لأن والدته لا تحمل بطاقة الحماية المؤقتة، واشترطت الهجرة التركية من كنانة بصمات والد الطفل المتوفى.
أداء الحكومة تسبب بتعميق حالة عدم اليقين
خلصت دراسة لـ "جمعية أبحاث الهجرة" التركية عن الناجين السوريين من الزلزال في تركيا، إلى أن المشكلات التي واجهت السوريين بعد الزلزال تمثلت في نقص التنسيق وعدم اليقين والتمييز، وأن القرارات التي اتخذتها أو لم تتخذها الحكومة التركية "أدت إلى تعميق حالة عدم اليقين التي عانى منها اللاجئون بعد الزلزال، وأن أبرز المشكلات تمثلت بشكل واضح في وثيقة إذن السفر.
وتوصلت الدراسة المطولة والمفصلة إلى أن اللاجئين لا يعرفون من أين يحصلون على المساعدة ولا يعرفون كيفية الوصول إلى خدمات الدعم الأساسية إن توافرت، سواء في منطقة الزلزال أو في الولايات التي أتوا إليها بعد الزلزال، بالإضافة إلى أنهم في حالة من التردد والتجنب خوفًا من "حدوث شيء ما".
وأشارت الدراسة إلى أن المنظمات غير الحكومية تعاني من مشكلات في الوصول إلى المعلومات الدقيقة، بل وقعت هذه المنظمات التي حاولت دعم اللاجئين السوريين في تناقضات والتباسات في المعلومات المتداولة، على سبيل المثال عندما انتشر خبر أن إسطنيول مغلقة أمام السوريين الخارجين من منطقة الزلزال، وهذا ما يثبت فشل السلطات في اتخاذ الخطوات اللازمة لمعالجة النقص في المعلومات.
" مشروع حماية".. محاولات ترميمية
يقول سنان بيانوني منسق مشروع حماية في "منبر منظمات المجتمع المدني" في تركيا، إن الإشكالات القانونية والحقوقية التي يتعرض لها السوريون تمثل أكبر التحديات، وهو ما يظهر مع كل حدث جديد تشهده الساحة التركية، وخاصة بعد فاجعة الزلزال وبعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وما تخللها من خطاب عنصري ضد اللاجئين، وما تلا ذلك من تشديد في الإجراءات الحكومية على اللاجئين.
وأضاف بيانوني في حديثه لموقع تلفزيون سوريا: "بناء على ما سبق، برزت الحاجة لوجود منصة يرجع إليها اللاجئون وتعمل بشكل مهني على مشكلاتهم القانونية، ومن هنا ظهرت فكرة (مشروع حماية)، الذي أطلقه المنبر باعتباره ممثلاً لعدد واسع من منظمات المجتمع المدني السوري الفاعلة في تركيا".
مشروع حماية ما زال قيد التأسيس، وسيتم الإعلان عنه قريباً بحسب بيانوني، وتتمثل رؤية المشروع في التوعية القانونية للاجئين السوريين بحقوقهم وواجباتهم، ومن ثم إنشاء آلية تواصل لاستقبال مشكلاتهم والعمل على حلها وفق الطرق القانونية المتاحة والعلاقات التي يمتلكها المنبر، كما سيتم توثيق هذه الإشكالات بشكل مهني بالتعاون مع قانونيين وحقوقيين للاستفادة منها في العمل على تحسين البيئة القانونية للاجئين.
لطالما كان "الكيملك" مدعاة للتندر بين السوريين في تركيا، بدءاً من حجمها الكبير من دون داع إلى المبالغة في أهميتها في النكات المتداولة، وبعد الحملة الأمنية الجارية في إسطنبول ضد "الهجرة غير الشرعية"، بلغت الكوميديا السوداء حد اعتبار حامل "كيملك" إسطنبول محظوظاً أكثر من الحاصل على الجنسية. هذه الوثيقة الصفراء التي تبدأ برقمي 99 هي تعريف السوري الوحيد في تركيا، ومفتاحه لدخول المؤسسات الرسمية وحصوله على الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والعمل، وهي في الوقت ذاته تأطير لحياته التي تتناقص مساحتها وخياراتها مع التصلب في القوانين، لكن الناجين من الموت في الزلزال ليسوا بناجين على الإطلاق، فالمستقبل لا يشي إلا بمزيد من الفقر والتسرب من المدارس والكدر في العيش والضغط النفسي وضيق الخيارات التي تجعل من الأطفال تذاكر سفر إلى أوروبا إن نجوا من مقبرة البحر الجماعية.
تم إنتاج هذه المادة الصحفية بدعم من "صحفيون من أجل حقوق الإنسان - JHR"