بعدما نجت دعاء وأسرتها من هجوم بالأسلحة الكيماوية في سوريا، فرت هي وزوجها وولداها عبر الحدود إلى جنوبي تركيا حيث أسسوا حياتهم بشق الأنفس من جديد كلاجئين في تلك البلاد.
تخبرنا دعاء إدريس، 32 عاماً، عما جرى فتقول: "لقد ولدنا مرة أخرى"، وهكذا حاولت تلك الأسرة هي و 450 ألف سوري أن يقيموا لأنفسهم جذوراً في مدينة غازي عنتاب بعد فرارهم من النزاع الذي دمر بلدهم.
إلا أن بلدهم الجديد دُمر هو الآخر في 6 شباط الماضي، بعدما وقع زلزالان كبيران شتتا الوجود الهش للشتات السوري في تركيا، وتركا كثيرين يعانون من يأس تجاه إعادة بناء حياتهم من جديد بأي شكل أو أي مكان آخر.
"قبل الزلزال وبعده"
بالنسبة لدعاء، لم تكن الكارثة الطبيعية سوى نقطة تحول لا تقل إيلاماً عن المأساة الإنسانية للحرب، إذ لأول مرة منذ خروجها من سوريا، أخذت تفكر هي وأسرتها بالانتقال إلى مكان أبعد في أوروبا أو الخليج، وعن ذلك تقول: "كنا نقول قبل الثورة وبعد الثورة، والآن صرنا نقول قبل الزلزال وبعد الزلزال"، وذلك بعدما صار واضحاً للعيان تلك التشققات التي اعترت المبنى الذي تقيم فيه تلك الأسرة حتى لمن يراها من الخارج.
أتت تلك الكارثة قبل شهر تقريباً من إحياء السوريين الذكرى لمرور 12 عاماً كاملاً على بدء الاحتجاجات في بلدهم ضد بشار الأسد، ضمن موجة ثورات الربيع العربي التي أسقطت عدداً من الحكام المستبدين.
تحولت الانتفاضة الشعبية في سوريا إلى نزاع معقد قتل فيه الآلاف من البشر، وتورطت فيه قوى كبرى كما اقتطعت أجزاء من البلد وتحولت إلى مناطق نفوذ متناحرة.
في حين بقي الأسد في السلطة، غير أن المئات، ثم الآلاف، ثم الملايين من السوريين، فروا شمالاً باتجاه الجارة تركيا، حيث حصلوا على وضع الحماية المؤقتة.
ومع زيادة عدد اللاجئين السوريين في تركيا، زاد عدد المدن التي استضافتهم.
حيث كثرت الفنادق في أنطاكيا التي خصصت لاستضافة الصحفيين والعاملين في مجال الإغاثة، كما افتحتت مطاعم ومقاه سورية في غازي عنتاب، إلى جانب العشرات من منظمات المجتمع المدني، والمنابر الإعلامية السورية والتنظيمات السياسية التي أقامت مقار لها في الجنوب التركي.
ضربة مزدوجة
أخذ المغتربون السوريون يرسلون الأموال إلى أهاليهم في الداخل، كما كانوا يزورونهم في الأعياد في بعض الأحيان بفضل إذن مؤقت بالزيارة تصدره السلطات التركية، إلى جانب تنظيمهم لعمليات توزيع المساعدات خلال أشهر الشتاء القارس أو الأعياد الدينية.
وحول ذلك تخبرنا دعاء التي تعمل في "منظمة أمل للإغاثة والتنمية" وهي منظمة غير حكومية تعمل على خلق مساحات آمنة للنساء والفتيات في الداخل السوري، فتقول: "بدا الأمر وكأننا نقوم بإدارة الشمال السوري ولكن عن بعد".
غير أنهم تعلقوا أيضاً بالمدن التي استقبلتهم في وطنهم الجديد.
يخبرنا علاء الدين، وهو بائع في متجر تنحدر أصوله من مدينة حلب، أن العيش في غازي عنتاب جعله يحس بأنه قريب من بلده، ولهذا يقول: "لقد اخترنا غازي عنتاب لقربها من حلب من حيث البيئة والناس، لدرجة بتنا معها نقول عن حلب بأنها عينتاب، وعن عينتاب حلب".
بيد أن مسألة القرب نفسها هي التي وجهت للسوريين ضربة مزدوجة عند وقوع الزلزال، وذلك لأنه عندما مادت الأرض دون أن يحدث قصف جوي لم يحتجز تحت الردم أهلهم في سوريا فقط، بل أيضاً مجتمعهم في الغربة الذي تحول إلى العمود الفقري الذي يدعم من بقي في الوطن، والذي صار يعاني تحت وطأة المصيبة نفسها.
تسبب الزلزالان بمقتل أكثر من 50 ألف إنسان في تركيا وسوريا، بينهم 5800 سوري في الداخل بحسب أرقام نشرتها الحكومة والأمم المتحدة، و4200 سوري في تركيا، بحسب ما أورده وزير الداخلية التركي، وذلك لأن المناطق التركية الأشد تضرراً بسبب الزلزال، وهي مدينة أنطاكيا التاريخية وغازي عينتاب، والتوسع في كهرمان مرعش، ومناطق صناعية أصغر تناثرت بين تلك المدن، هي الأقرب من الحدود السورية.
ويعيش في هذه المنطقة 1.5 مليون سوري بحسب ما أوردته الأمم المتحدة، أي نصف عدد اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا.
الدفن في تركيا
لأول مرة بات على المنظمة التي تعمل دعاء إدريس لديها أن تقدم المساعدة للنساء والفتيات السوريات على الجانب التركي من الحدود أيضاً، وعن ذلك تقول: "سيعود السوريون، لأنهم أقوياء، ولكن كم عدد الجراح التي سيخلفها ذلك؟"
أودى الزلزالان بحياة مدافعة بارزة عن حقوق النساء السوريات، واسمها رئيفة سميع، التي توفيت في مدينة هاتاي التركية، وكانت عضواً في لجنة محادثات السلام التشاورية حول مشاركة النساء، كما كانت تعمل على دستور جديد لسوريا.
أما الصحفي السوري يمان الخطيب الحائز على جوائز في مجاله، والذي اشتهر بأفلامه الوثائقية التي تتناول طبيعة الحياة في مدينة إدلب التي يسيطر عليها الثوار، فقد توفي هو وزوجته وأولادهما الثلاثة بسبب الزلزال، كما توفي أقارب له في ولاية هاتاي.
فقد عاملون سوريون في مجال الإغاثة أقاربهم في كل من سوريا وتركيا، كما ترتب عليهم النوم في مستودعات لأيام بسبب الأضرار الكبيرة التي لحقت بدورهم وبيوتهم.
وبعد مرور شهر على الزلزال، بقيت نصف الكوادر العاملة في مكتب غازي عنتاب التابع لمنظمة إحسان الإغاثية السورية محتجزة في مدن أخرى، بحسب ما ذكره المدير الإداري براء الصمودي.
إذ أقامت منظمة إحسان مقراً لها في غازي عينتاب منذ عام 2014، وذلك لتنسيق المساعدة في الشمال السوري، ويشمل ذلك تسليم المواد الغذائية وتأمين المأوى وإصلاح شبكات المياه ومشاريع في مجال الزراعة.
بيد أن مكتبهم تعرض للدمار في الزلزال، ولكن جرى إصلاحه بعد مرور أسابيع على ذلك.
وعن ذلك يقول الصمودي: "كنا على الدوام نعد خطط الطوارئ لمكاتبنا وفرقنا في سوريا، والآن بات من الواضح بأننا صرنا بحاجة لذلك في تركيا".
لقد سحق الزلزال أحلام العودة إلى الوطن أمام غالبية اللاجئين السوريين، في حين أنهى الموت رحلة اغتراب آخرين منهم بكل بساطة، إذ تعين على رجل الأعمال السوري زاهر خربوطلي، 43 عاماً، أن يدفن شقيقتيه وأولاده في مدينة كرخان التركية، حيث كانوا يقيمون، على الرغم من أنه كان يتمنى أن يتمكن من دفنهم في مدينتهم الأم: إدلب، وعن ذلك يحدثنا فيقول: "لم يكن وضع جثامينهم يسمح بنقلها عبر الحدود... فقد ولد جميع هؤلاء الأطفال هنا، وماتوا هنا، والآن يدفنون هنا في تركيا".
التوغل في الغربة
منذ وقوع الزلزال، عبر أكثر من 40 ألف سوري يقيمون في تركيا إلى سوريا لتفقد أحوال أهلهم أو هرباً مما وصفوه بالأجواء الصعبة في تركيا.
إذ مع تنامي المشاعر المعادية للاجئين ومع عدم وجود مستقبل مضمون ينتظرهم، أعاد كثيرون النظر بفكرة البقاء في تركيا.
في مدرج رياضي تحول إلى مخيم للنازحين في قلب مدينة كهرمان مرعش، خرجت سعاد الأسمر التي كانت مدرسة رياضيات في السابق من خيمة بيضاء أصبحت تؤويها اليوم، لتخبرنا عن تجربتها بما أنها أمضت سنوات في المخيمات على جانبي الحدود قبل أن تستقر في كهرمان مرعش برفقة زوجها وأولادها الأربعة، لتقول: "لا أصدق أننا عدنا للمخيمات من جديد".
بيد أن بيتهم المتواضع والمعمل الذي كان زوجها يعمل فيه قد استحالا إلى ركام، ولهذا صارت سعاد اليوم تخشى على مستقبل أولادها من الضياع، وعن ذلك تقول: "كانوا جميعاً في المدارس، يتحضرون لدخول الجامعة، لكنهم الآن سيضطرون للعمل حتى نعيش".
هنالك نحو 1.7 مليون طفل سوري لاجئ في تركيا بحسب إحصائيات الأمم المتحدة لعام 2021، بيد أن أكثر من مليون منهم يرتادون المدرسة.
كانت جودي، ابنة سعاد المراهقة، تطمح لدراسة الهندسة المعمارية، ولهذا أخذت تستعرض لقطات شاشة على جوالها لرسوماتها خارج خيمتهم، بما أن دفتر الرسم الذي لديها قد بقي بين أنقاض بيتها، إلى أن هتفت إحدى جاراتهم السابقات، وهي شابة سورية أوت هي وأسرتها إلى خيمة، لتخاطبها مازحة: "ما الذي سترسمينه اليوم؟ شوارع مدمرة؟"، وهنا تدفقت الدموع من عيني جودي.
لم تعد سعاد، مثلها مثل دعاء، واثقة من وجود شيء يستحق المرء أن يعيش من أجله في بلد قدم لهم فرصة أخرى في وقت من الأوقات، وهذا ما دفعها للقول: "جعلت من ذلك البيت بيتاً لنا لكنه تدمر، ولهذا لا أعتقد بأني سأشتري بعد اليوم حتى فنجان شاي في أي مكان آخر نقيم فيه، لأن كل شيء يمكن أن يذهب بلحظة... كنت أفكر على الدوام بأننا سنبقى هنا، لكني اليوم بت على استعداد للرحيل".
المصدر: Reuters