رافق الفن الإنسان منذ بداية وجوده في هذه الحياة، وظلّ يمثّل انعكاسا لما يعتمل في نفسه من أفكار، وتجسيدا لرؤيته لنفسه ولوجوده ولمخاوفه ولرغباته، فهو حاجة أساسية عند الإنسان للتعبير عن نفسه ونقل أفكاره ومشاعره، وكان الفن يرتقي مع ارتقاء الإنسان ويتطور مع تطوره، وتتغير أدواته وأنماطه مع تغير فلسفة الحياة ونظرة الإنسان للطبيعة ولأسباب وجوده على هذه الأرض.
ومنذ أن خط الإنسان خطوطه الأولى في الكهوف والمغاور كان يوثق حياته بشكل مقصود أو غير مقصود، ونستطيع من خلال الناتج الفني لأي شعب أو حضارة -في أي مكان أو زمان- فهم القيم والمبادئ والأفكار التي عاش عليها الناس هناك.
وهكذا نرى أن ما يحصل في ميادين الحياة وخاصة الأحداث العظيمة منها وما تولده من مشاعر وأفكار ينعكس تلقائيا على النتاج الفني. ومن المعلوم أن الفنانين والأدباء هم أكثر الناس تأثرا بطبيعة الحال، وما كان ظهور المدارس الفنية ما بعد الكلاسيكية في أوروبا إلا صدىً للفلسفات والأفكار الجديدة التي كانت تعصف بالقارّة في ذلك الزمان.
وشكّلت الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) أبرز الأحداث العظيمة التي حدثت في أوج تطور الفن التشكيلي الحديث، حيث كان لهذه الحرب بالغ الأثر على نفوس الفنانين والأدباء والناس عامة لما خلفته من خراب ودمار وجنون، وكانت صدمة عنيفة على وجدان الفنان الغربي الذي وجد نفسه وجها لوجه أمام مذبحة لا مبرر لها.
السريالية ابنة "الدادائية"
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن أفكار وفلسفة "فريدريك نيتشه" العدمية بعد إعلانه "موت الإله" كانت الأكثر رواجا وجدلا إبان الحرب، فيمكننا القول بأن "الدادائية" كحركة فكرية وفنية كانت نتيجة طبيعية وبديهية تبعا لتلك الظروف، فقد كانت ثورة على العقلانية -سمة ذلك العصر- وعلى المجتمع وعلى جميع القيم التي أدت إلى تلك الحرب، فكانت الدادائية تجسيدا فعليا لفلسفة العبثية والعدمية.
ولم تلبث هذه الحركة أن تطورت وتبلورت أفكارها من محاربة العقل إلى محاولة لسبر أغواره. فتأثر الدادائيون بأفكار وفلسفة فرويد ورؤيته لبنية النفس البشرية، إذ قدّم تصورا ثوريا للنفس الإنسانية وقسمها لثلاث مستويات متداخلة: "الأنا" والـ "هو" و "الأنا العليا"، وهي في تفاعل دائم ومستمر حتى أثناء النوم. وقسّم "الأنا" إلى حيز شعوري وحيز لاشعوري، واعتبر أن حيز اللاشعور وهو منطقة الرغبات والأحلام والغرائز والمكبوتات له الأثر الأكبر على تصرفات الإنسان وقراراته وميوله وطباعه.
فكانت الحركة السريالية وليدة الدادائية بعدما تخمرت أفكارها وهدأت ثورة الغضب والرفض التي تمخضت عن الحرب العالمية الأولى، فانقلبت الفوضى إلى نظام والهدم إلى بناء، وانطلاقا من منهج فرويد في التحليل النفسي وتصوره لبنية النفس وآلية تأثير اللاشعور على سلوك الإنسان كانت السريالية التجسيد الفني لفلسفة فرويد بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وامتدت لتشمل الأدب والمسرح وجميع ميادين الفنون.
والجدير بالذكر أن الأب الروحي للسريالية الشاعر الفرنسي (أندريه بريتون) هو في الأصل طبيب نفسي انفصل عن الدادائية، وكان يحاول أن يصل إلى الحقيقة المطلقة من خلال مزج الوعي باللاوعي، فكان يؤمن بأن هناك نقطة عليا في الفكر يلتقي فيها العالمان المادي الملموس والنفسي العميق وفي هذه النقطة ينعدم فيها الإدراك ما بين المتناقضات، كالحياة والموت والماضي والمستقبل والواقع والخيال، وما مهمة الشاعر أو الفنان إلا محاولة للوصول إلى هذه النقطة.
ما السريالية؟
إن لفظ السريالية "surrealism" مركب من كلمتين "realism" وتعني الواقعية و "sur" وتعني "ما فوق"، فيكون بذلك معناها "ما فوق الواقعية". وقد عرفها "فيليب فان تيغيم" في كتابه المذاهب الأدبية الكبرى في فرنسا بأنها: "حركة ذاتية نفسية صافية يقصد بها التعبير إما شفاهة أو كتابة أو بأي طريقة أخرى عن العمل الواقعي للفكرة، يمليها الفكر في غياب كل مراقبة يمارسها العقل بعيدا عن كل انشغال جمالي أو أخلاقي".
وعليه فإنه يمكننا اعتبار الحركة السريالية مدرسة تعبيرية تعنى بالتعبير عما يعتمل نفس الفنان من مشاعر وعواطف وأفكار ورغبات بطريقة عفوية وتلقائية مع تحييد تام لمراقبة العقل الواعي لتدفق تلك التصورات المعبرة عن هذه الأفكار.
ومن الطبيعي أن تكون الأحلام هي مسرح السرياليين المفضل حيث تتدفق الصور والرموز التي تعبر عن مكنونات ومكبوتات النفس من رغبات ومشاعر في غياب تام للوعي الذي يحاول باستمرار فلترة تلك الأفكار حتى لا يظهر منها للعلن إلا ما يتناسب مع المبادئ والقيم التي يقبلها المجتمع. فالحلم بنظر السرياليين هو تجسيد للحقيقة التي تنطلق بحرية مطلقة لتظهر لنا رموز اللاشعور والرغبات العميقة المدفونة تحت رقابة الوعي.
ومن هنا كان النتاج الفني الذي يقدمه السرياليون ضبابيا ومبهما يستعصي على الفهم لما فيه من تداخلات غير منطقية وارتباطات لرموز لا يبدو أن لأي منها علاقة بالآخر. وقد وصف عفيف بهنسي في كتابه "أثر العرب في الفن الحديث" السريالية بأنها "تنكر الواقع كما هو لتراه وراء الأحلام والأشباح عن طريق الصدفة والخيال والحلم، فبالأحلام نتحرر من كابوس اليقظة لكي ننطلق بحرية لحل رموز لا شعورنا فالحلم وسيلة قوية من وسائل الرؤية العميقة والمعرفة الباطنية".
ويقول حسن محمد حسن في كتابه "مذاهب الفن المعاصر" إن السريالية "ترجع إلى أن الإنسان في الرؤية يعود إلى فطرته البدائية الأولى عندما كان يرى العالم مليئا بالأحاجي والألغاز التي تبدو في صورة رمزية لا يستطيع لها تعليلا، ومن هنا كانت رمزية هذا الاتجاه والصور التي هي فوق الواقعية".
ولذلك يجب على من يريد أن يقرأ نصا سرياليا أو يشاهد لوحة سريالية، أن يكون على استعداد لدخول عالم غرائبي مليء بالرموز والأحاجي والألغاز، عالم غير مألوف، كل ما فيه مختلف عما هو معتاد، ولا يتوقع من الفنان أن يكون ملتزماً بالقيم الجمالية والأخلاقية السائدة، كما أنه غير ملزم بأي توضيح أو تفسير لأعماله. فالسريالية تتعامل مع العقل الباطن واللاوعي، وتعتبرهما المصدر الرئيسي للإلهام استنادا للفلسفة الفرويدية وفتوحاتها في مجال علم النفس، فكانت ثورة على الصور البصرية التقليدية للأشياء.
السرياليون وفنونهم
لعل أشهر لوحة سريالية على الإطلاق هي لوحة "إصرار الذاكرة" للفنان الإسباني سلفادور دالي، الذي يعدّ أشهر رواد السريالية. فعندما يتأمل أحدنا هذه القطعة الفنية يجد نفسه أمام عالم يتلاشى فيه الزمن الذي طالما شكل تحديا لوجود الإنسان.
وإذا شئنا القول بأن توقف الزمن يعني نهاية الحياة، فإن تصوير دالي للساعات الذائبة هو تحد لأكبر مخاوف البشر حيث يفقد فيها الوقت صلابته وبأسه تحت وطأة الذاكرة والخيال، العنصرين اللذين يعطيان القدرة على تحدي الزمن، فنشعر بتلاشي الزمان والمكان أثناء تجولنا بخيالنا وذاكرتنا ما بين الماضي والحاضر والمستقبل.
ولعل تلك الساعة في أسفل يسار اللوحة، والتي صورها دالي كجثة وقد أتى عليها النمل، ليست إلا تأكيدا على رمزية انعدام الزمن في عوالم اللاشعور.
ولا يمكننا أن نتكلم عن السريالية في الفن التشكيلي دون أن نذكر الفنان البلجيكي رينيه ماغريت، أحد أبرز رواد السريالية أيضا، والذي جاء بأعمال مليئة بالرموز والإشارات المبهمة، والتي تحمل الكثير من التأويلات والتفسيرات والمعاني فتدهشنا وتحفز عقولنا على التفكير والتأمل.
وأخيرا لنا أن نتساءل: هل حقا استطاع السرياليون سبر أغوار اللاوعي؟ وهل حقا استطاعوا إنتاج أعمالهم الفنية بدون رقابة الوعي؟ وهل من الممكن حقا تجاوز العقل الواعي بشكل كامل أثناء عملية الخلق الفني؟
إن أفضل من يستطيع الإجابة عن هذه التساؤلات هو فرويد نفسه، الذي قال إن ما لفت نظره في أعمال السرياليين هو "وعيهم وليس لاوعيهم، فأعمال الفنانين السرياليين تبدو لنا منظمة ودقيقة للغاية على الرغم مما فيها من غرابة ولامعقولية، وهذا النشاط الخلاق لا يمكن أن يتم دون تدخل حيز الوعي من (الأنا)".
فهل خدع السرياليون أنفسهم حقا حين اعتقدوا بأنهم يمارسون نشاطهم الفني من خلال لاوعيهم وحده؟ لقد كانوا يحاولون ذلك بالفعل حين جهدوا لتغييب وعيهم، لدرجة أن بعضهم كان يدمن الحشيش والكحول عمدا ليسمح بتدفق الأفكار والصور من مكنونات عقله الباطن.
وعلى الرغم من أن وعيهم كان حاضرا، فإن محاولات السرياليين إطلاق العنان لمخبوءات اللاوعي أنتج فنا عظيما، ولا يستطيع أحد نكران أن أعمالهم غاية في الروعة والإبداع من خلال جمع المتناقضات وتحفيز فكر الإنسان وخياله. فكانوا إضافة عظيمة في مسيرة تطور الفن التشكيلي الحديث، وما زال تأثير أفكارهم وتجاربهم مستمرا إلى هذا اليوم.